كوميديا الأيام السبعة.. والوعى بكوميديا العبث السوداء

كوميديا الأيام السبعة.. والوعى بكوميديا العبث السوداء

العدد 670 صدر بتاريخ 29يونيو2020

فى إطار العروض المسرحية التى أنتجتها الإدارة العامة للمسرح هذا الموسم 2019/ 2020 قدم المركز الثقافى بدمنهور العرض المسرحى الهام “كوميديا الأيام السبعة” لمؤلفه العراقى “على عبدالنبى الزيدى” التى تشكل كتاباته الروائية والشعرية والمسرحية عالما متفردا لما يعالجه من أفكار، وكذلك كيفية معالجته لأطروحاته الفكرية فيما يعرض له من موضوعات, وقد فازت بعض رواياته بجوائز مهمة محليا وعربيا, وكذلك معظم نصوصه المسرحية التى تشكل فى مجملها مشروعا يعرف الكاتب ملامحه ويسعى الى اكتماله, ومن أعماله المسرحية “يارب, تحوير, أولاد الخايبة, مطر صيف, هى التى رأت, وعاشوا عيشة سعيدة”, بالإضافة الى “كوميديا الأيام السبعة” التى قدمتها فرقة “دمنهور” إخراج الشاب “محمد الحداد” فى أولى تجاربه فى إطار ما استحدثه الفنان “عادل حسان” منذ توليه الإدارة العامة للمسرح بمسمى التجارب النوعية, الى جانب عروض “نوادى المسرح, والفرق المسرحية بشرائحها المختلفة
وكمعظم أعمال المؤلف “على عبدالنبى الزيدى” المسرحية يتناول العرض الواقع الصادم لشعوب الأنظمة الإستبداية وسحقها لمواطنيها, وعبث تلك الأنظمة الإستبدادية فى ممارساتها لشؤون الحكم, وما تصدره من فرمانات عبثية واجبة التنفيذ وغير قابلة للمناقشة أو المراجعة, يكون من نتيجتها مزيدا من سحق شعوبهم بينما هم يرتعون مستمتعين بكل ما حرموه على مواطنيهم.
ويقيم العرض بنيته عبرشبكة علاقات محدودة تتشابك بين ثلاث شخصيات على الرغم من أهمية وخطورة ما تطرحه, حيث يقتحم طاه بيت زوجين شابين فارضا نفسه كطاه للمنزل المتواضع الذى يعكس الشريحة الإجتماعية المنتمى إليها صاحبا البيت, المتزوجين من خمس سنوات, ولم ينجبا بعد, وينتميان الى شريحة ما من شرائح الطبقة المتوسطة المشكلة لعصب كل المجتمعات,ومن ثم لا يحتاجان الى طاه إلا أنه قد جاء ـ كما يخبرهما ـ كطاه للبيت وليتعرف على حياتهما البائسة وأحوالهما الإقتصادية المتردية التى يجب أن تتحول الى الأفضل فهذا هو حلمه الأبدى, وهو فى هذه المهمة السامية بصحبة كلبه المخلص الحارس له, وهى مهمة عامة حيث انطلق زملائه الطهاة بصحبة كلابهم الحارسة فى كل مكان لنفس المهمة السامية.. وقد ترك الطاهى كلبه بالمطبخ ليلتهم كل ما به من طعام, بعد أن عبث بكل محتوياته, ما أدى الى وفاة الكلب إذ سبق وأن وضع الزوجان السم بالمطبخ للخلاص من الفئران والقطط وغيرها من القوارض والحشرات, وبوفاة الكلب لم يصبح أمام الزوجين فرصة لرفض مهمة الطاهى, إذ يتهمهما فى التورط بقتل الكلب, ومن ثم عليهما أن يخضعا للعقوبة التى تحددها القوانين بالبلاد, فعليهما دخول السجن أو قضاء أسبوع دون تناول الطعام, ومع اختيارهما الخيار الثانى كان على الطاهى أن يقيم معهما طوال الأسبوع للمراقبة والإشراف على تنفيذ العقوبة, وتنعكس الأوضاع إذ بات على الزوجين إعداد الطعام للطاهى الذى كان قد جاء إليهما كطاه للبيت فبات يختار ما يرغب به من أطعمة يلتهمها مستمتعا,  بينما هما يكتفيان بالنظر إليه رغم الجوع المتزايد كل يوم عن سابقه, ولا يتوقف الأمر عند هذا الحد, بل كان عليهما خضوعا لأوامره أن يقوما بتسليته فى أوقات فراغه, فمرة يطلب منهما التسرية عنه بالرقص حتى الإعياء, ومرة يطلب منهما تقديم مشهد تمثيلى لتسليته للتخلص من حزنه على وفاة كلبه, بينما هو مستمتعا بخضوعهما وانسياقهما لأوامره, والنظر فى عيونهما الذليلة ولعابهما المسال على الطعام المحرومين منه, والجوع يشتد قرصا على بطنيهما يوما بعد آخر, ودفعهما قسرا على الهتاف بحياة الكلاب “نموت نموت وتحيا الكلاب”, وتستمر تلك الممارسات العبثية حتى اليوم السابع الذى يعبر فيه الطاهى عن حزنه لإنتهاء تلك المهمة السامية, بينما يتنفس الزوجان الصعداء بعد كل ما أصابهما من إنهاك وهزال, وتقييد لحركتهما داخل غرفة المعيشة (الصالة) مغلقة النوافذ والشرفات, ووطأة الإنهزامية والإنسحاق أمام جبروت وسلطة وأوامر ورغبات الطاهى العبثية, ويتهاوى الزوجين على مقعدين مستندين الى الطاولة حتى إشراقة اليوم الجديد, وسماع مايشير الى وجود حياة طبيعية خارج المنزل حيث تتناهى الى الأسماع زقزقة عصافير وصياح ديك لا يتفاعل معها الزوجين فقد فارقا الحياة.
والمسرحية على هذا النحو تنتمى الى تيار المسرح العبثى الذى عرفه العرب بداية من ستينيات القرن المنصرم عبر كتابات “يوجين يونسكو, صمويل بيكيت, وفريناندو أربال” الذين قدمت بعض أعمالهم فى المسرح المصرى بالمسرح العالمى (الجيب) منذ بداية تواجده كفرقة تقدم التجارب الطليعية العالمية, وقد كانت الريادة فى تعريف المصريين بهذا التيار للمخرجين الشباب ـ حينها ـ “كرم مطاوع, سعد أردش, كمال عيد” إلا أن اللافت للنظر أن كتاب المسرح المصرى لم يسعوا الى مجاراة ذلك التيار فى كتاباتهم المسرحية, باستثناء تجربة هنا أوهناك, لكنها تظل غير مشكلة لتيار يمكن الإعتداد به, وربما مرجع ذلك يعود الى  التحولات الإجتماعية, والإتجاه السياسى بتجربته الإشتراكية ـ ساعتئذ ـ كانا أكثر جذبا لكتاب مسرح تلك المرحلة, وما تلى ذلك من الهزيمة العسكرية التى أدت الى ‘إعادة النظر والبحث عن التأصيل للهوية العربية الجريحة عبر التنقيب فى التراث العربى واستلهامه فى كتابات مسرحية تسعى الى التأصيل لمسرح عربى ـ شكلا ومضمونا ـ ( ألفريد فرج, يوسف إدريس, يسرى الجندى, شوقى عبدالحكيم) للإبتعاد عن الشكل الغربى.. ذلك الغرب المساهم ـ بشكل أو آخر فى الهزيمة المرة ـ هذا بالإضافة الى أن تيار مسرح اللا معقول كان ناتجا عن ظرفية تاريخية خاصة بالغرب على إثر ماتركته الحرب العالمية الثانية من خراب ودمار مادى ونفسى وتشوه إجتماعى ونفسى لدى شعوب الدول الغربية المشاركة فى تلك الحرب, ولم تكن تلك الظرفية التاريخية تشبهنا فى شيئ بل وربما العكس كان هو الصحيح, حيث الحركات الإستقلالية المتتابعة بالدول العربية عن الإحتلال الغربى طوال خمسينات وستينيات القرن الماضى, وما تعكسه من روح وثابة ترنو الى تنمية الشعوب و‘إعادة بناء مجتمعاتها, والسعى الى عدم الإنحياز الشرقى أو الغربى, كل ذلك وغيره مما أدى الى عدم ملاءمة التربة الثقافية العربية بوجه عام والمصرية على وجه الخصوص لتبنى ذلك التيار العبثى فى المسرح.
ومع تحولات إجتماعية جرت, واعتلاء أنظمة سياسية مختلفة ومتباينة لسدة الحكم بالدول العربية, ورغبة إمبريالية فى إعادة صياغة العالم ـ ومن بينه المنطقة العربية على وجه الخصوص ـ بما يتساوق مع مصالح الكيانات الإمبريالية المعتلية ببطشها قيادة العالم, وأثر كل ذلك على المجتمعات العربية وشعوبها ارتأى الكاتب العراقى “على عبدالله الزيدى” ابن مدينة “الناصرية” بجنوب العراق, وهو دارس للمسرح بجامعة “بابل” أن الواقع المعاش أصبح عبثيا ولا معقولا, وقد فرضت عبثية الواقع تلك نفسها على معالجاته المسرحية لذلك الواقع, وهو لا يتناول سوى الواقع فى جل كتاباته المسرحية, وإن كان واقعه المسرحى ليس ذلك الواقع الموغل فى تفاصيل نثريات الحياة اليومية بل يلتقط منه مفارقاته الضاغطة على الإنسان ـ كونه إنسان فى كل زمان ومكان ـ ولعل تلك الخصوصية فى كتابات المؤلف هى ما جعلت مسرحياته تجد لها مكانا فى بعض مسارح أوربا, وهى الأسباب نفسها التى تحول دون إنتشار مسرحه ـ بما يتلاءم مع مايستحقه ـ فى منطقتنا العربية!!
 وليس هناك ضغطا على الإنسان أكثر من سلب حريته وإملاء الأوامر عليه وحرمانه من سبل الحياة وإجباره على الهتاف بحياة الكلاب / كلاب الحراسة الأوفياء.
إن الطاهى فى أى منزل هو المالك الحقيقى للمطبخ والمتحكم فى بطون أصحابه, ومن أراد السيطرة على أمة عليه التحكم فيى بطونهم, وجاء اختيار المؤلف على الطاهى ليتوارى خلفه مبتعدا عن المباشرة من جهة ومن جهة أخرى التوارى خلفه عن أى صدام متوقع مع أى سلطة مستبدة تحكم سيطرتها على معظم بلادنا العربية.
ومما يحسب للمخرج المتميز الشاب “محمد الحداد” إقدامه على تناول نص “كوميديا الأيام السبعة”  ليكون أول تجاربه النوعية بمسرح الثقافة الجماهيرية على الرغم من صعوبة النص الذى تكمن فلسفته وحقيقة طرحه الفكرى بين سطور كلماته وليس فى ظاهرها مما يفرض على المخرج التعامل مع النص بخصوصية ووعى وحس مرهف عبرعناصره المسرحية المختلفة , بداية من تشكيل الفضاء المسرحى الذى قام به “محمد نوار” الذى جعل جدران غرفة المعيشة (الصالة)  تتلون بالبنى المتدرج نحو القاتم العاكس لوحشة المكان, ومجموعة من الشقوق العاكسة للتصدع ـ ليس الحياة بين الزوجين فقط بل التصدع الجمعى فى تلك المجتمعات المتسلطة أنظمتها ـ وخلو المكان من أثاث بإستثناء طاولة صغيرة, ومقعدين وكنبة وترك الفضاء خاويا ليؤكد على تلك الحياة الموحشة , والحرص على جعل الشرفة مغلقة طوال الوقت بواجهة زجاجية ضخمة تفصل المكان عما خارجه ربما الأكثر وحشة وتعكس خوف الزوجين من التواصل مع هذا الخارج الذى لا يظهر منه عبر زجاج الشرفة سوى كتل من اللهب تظهر من آن الى آخر, ولا يتوقف الإنعزال عن الخارج وعدم الرغبة فى التواصل معه عبر ذلك العازل الزجاجى الضخم فقط بل جعله محاطا يمجموعة من الأطر الخشبية جاءت كالقضبان الحديدية لزنازين السجون ليكون الفضاء المسرحى فى مجمله مؤرقا وموحيا بالحالة الإنعزالية المحكمة للزوجين على الرغم من وجودهما بين جدران منزلهما الذى من المفترض أن يحقق الإحساس بالأمان لأصحابه, ويستخدام مصمم الديكور خامة قماش “الماش” وهى خامة تتكون من مجموعة من اللدائن غير المصمتة, بل الشفافة وتتميز بقدرتها على كشف ماخلفها إذا ماوضعت خلفها إضاءة قوية, واستثمر “محمد نوار” تلك الخاصية, وجعل من الماش جدارا عازلا بين حجرة المعيشة والمطبخ ليكشف لنا  محتويات المطبخ وما يدور داخله ببعض المشاهد, ودون الحاجة لتغيير أو نقل أى من “الموتيفات” ومع إطفاء الإضاءة الخلفية وإنارة إضاءة أمامية للقماش تظهر النقوش عليه , وخافيا ماخلفه ومشكلا الجدار القائم بين المطبخ وغرفة المعيشة, وقد قام بالدور ذاته مع الصالة والحمام  بخلفية يسار المسرح.
كما جاءت إضاءة العرض مرتكزة على اللون الأحمر معظم الوقت متماهية مع تلك السلطة الشريرة اللامتناهية للطاهى, الى جانب اللون الأصفر الباهت فى بعض اللحظات مؤكدة على تآمرية عبثية جاء بها الطاهى من الخارج يمارسها ضد الزوجين ليسحقهما حتى يفارقا الحياة.
كما يختار “أحمد عبدالحليم” بمهارة ووعى للدور الدرامى للموسيقى مجموعة من الجمل الموسيقية العالمية لتصاحب كل منها المشهد التى تؤكد على تعميقه فى اللحظات الراقصة لتجعل من فعل الرقص قاسيا على مؤدييه حال كونه يحدث بالأمر من الطاهى لمجرد التسرية عنه, وكذلك الجمل الموسيقية المتوترة الباعثة على التوجس مع طرقات باب الشقة المحتميين بها من العالم الخارجى الذى لا نعرف عن تفاصيله شيئا ولا يأتى بغير الشرور (مجيئ الطاهى الذى قلب حياتهما رأسا على عقب وانتهت بمفارقتهما للحياة), ويأتى تسكين الممثلين فى أدوارهم عاكسا براعة المخرج  باختياره للمثل “إبراهيم سليمان” ببنيانه الجسدي القوي ليتواءم مع مايمثله من سلطة غاشمة وآدائه للدور يعكس وعيه بأبعاد شخصية الطاهى بنعومة آدائة فى البداية حتى يحتل البيت رويدا رويدا فيتغير الآداء مع كل مرحلة بما يتناسب مع تمكنه وتوريط الزوجين فى جريمة لم يرتكباها, ومن ثم تغيير مصيرهما حتى مفارقتهما الحياة, ولا يغيب عن وعى “إبراهيم سليمان” فى آدائه للشخصية مايبعث على السخرية فشخصية الطاهى شخصية عبثية فى تكوينها وممارستها, تلك العبثية المفجرة للكوميديا من المفارقة بين النقيضين للمتوقع من فعل الطاهى الذى يأتى بعكسه, وفى نفس الإطار يساهم “محمد الحناوى” فى تشكيل اللوحة الآدائية بتمثيله للزوج الشاب المتشرنق داخل بيته خاشيا الخارج الذى عزل نفسه عنه بإحكام لتوجسه منه (علينا أن نلاحظ عدم وجود تلفاز أو تليفون بالمنزل مما يعكس الرغبة فى عدم التواصل بالعالم خارج الشقة) وحرص “محمد الحناوى” بآدائه السهل الممتع أن يعكس طبيعة علاقته بالزوجة, فهى ليست علاقة حميمية, ولا تعكس ثقافة شرقية ذكورية تضع الذكر فى المقدمة (محاولات الزوج دفع زوجته لفتح الباب رعبا من الطارق المجهول) بل مجرد علاقة تعايش بين زوجين يجمعهما الرعب تجاه خارج عالمهما والرغبة المشتركة فى عدم التواصل مع هذا الخارج (علينا أيضا ألا نغفل عدم وجود خصوصية فى الأسماء, بل مجرد زوج وزوجة للتأكيد على أن الحالة ليست فردية خاصة بهما بل بكل الأشخاص الذين انطلق الطهاة مع كلابهم للقيام بنفس المهمة), كما استطاعت “آمال عبدالعزيز” بتنميطها آدائيا للزوجة؛ الوقوف على تلك الشخصية التى لا يميزها سمات محددة , وعكست كذلك طبيعة علاقتها النمطية بالزوج فى معرض اعترافها بعدم الإنجاب رغم الزواج من خمس سنوات, وبخفة ظل ساحرة تفجر الكوميديا من ادائها للشخصية طوال الوقت إن عرض “كوميديا الأيام السبعة” إخراج “محمد الحداد” يظل علامة مسرحية مضيئة لفرقة “دمنهور” فعلى الرغم من قيام بعض الفرق بالثقافة الجماهيرية بتقديم هذا النص من قبل إلا أن المخرج “محمد الحداد” فى تعامله مع هذا النص يؤكد على أننا أمام موهبة كبيرة سبرت أغوار النص ووضعت يدها على خصوصيته, وخصوصية تيار مسرح العبث بجدارة وكوميديته الموجعة.    


أحمد هاشم