الزيارة لعبة نفسية لإعادة إنتاج القهر

الزيارة لعبة نفسية لإعادة إنتاج القهر

العدد 584 صدر بتاريخ 5نوفمبر2018

سيظل معلم الحرية للمقهورين الكاتب البرازيلي باولو فريري بكثيرمن مقولاته وكتابه التخلف الاجتماعي، مدخلا إلى سيكولوجية المقهور ومرجعا هاما وصالحا لفهم وتحليل الكثير من السلوكيات الاجتماعية المعقدة ودليلا عند البحث وراء العلاقات الإنسانية غير السوية ومرجعا حيويا لفهم خلق الشخصيات وتصاعدها أيضا في الحقيقة ومحاكاتها من خلال الدراما، كما أنه حكيم ومساعد كبير في فهم حقيقة هذه العلاقات التي تحمل في باطنها  تجليات وانعكاسات لسياسة القهر الممارسة من قبل الانسان للآخر، خاصة في تلك الحالات التي نجد فيها بوضوح كيف يتحول المقهور إلى قاهر لغيره  ويعمل متعمدا على إقصائه، مما يجعلنا ننتقل من طور القهر إلى إعادة إنتاج القهر من طرف المقهور نفسه.
وفي ضوء هذه النظرية وتلك المفاهيم قدمت الكاتبة اليونانية لولا أناغنوكاستي نصها المسرحي المدينة الذي عكفت بكل ما به من دلالات على تقديم صورة واضحة على عكس تلك اللعبة النفسية التي تسمح لهذا المقهور الذي مل وحدته ونمط يومه المتكررالخانق والفراغ النفسي الذي يحاصره ويعاني منه لسنوات وسنوات بأن يمارسها على الآخر، فيقوم من تلقاء نفسه بقصد أو دون لإعادة إنتاج القهر مرة أخرى لآخر غيره، فنجد هذا مؤكدا تباعا لما قدمه المخرج  أحمد سمير في عرض الزيارة ضمن تجارب العروض المسرحية المقدمة من شباب المحافظات في اللقاء الأول لشباب المخرجين 2018 واعتمادهم  على  نفس النص “ متبنيا  “ تيمة التمثيل داخل التمثيل “ كونها لعبة مثيرة عبر خشبة المسرح، موضحا في النهاية فقط هذي اللعبة التي كانت تمارسها الزوجة كإحدى شخصيات النص الدرامية الثلاث والمحورية بالعرض مع هذا  الضيف بمعاونة جلية من الزوج للاستزادة في كشف عورات المجتمع.
حيث دارت أحداث عرض “الزيارة “ حول هذا الزوج الذي يظل حبيسا بمنزله ويفضل ذلك فلا يرغب أبدا في مغادرته والزوجة الممثلة اليائسة التي لا تعمل وتضيق ذرعا بثقل تلك الحوائط التي تفصلهما عن الخارج، وكلاهما لم يجد فرصة ليحققا وجودهما وذاتهما في زخم العالم وقسوة المدينة، مما جعل منهما كائنين مقهورين، ولا يجدان ما يفعلانه إلا أن يقوما بلعبة التمثيل بمنزلهما  يوما بعد يوم، ففي مساء كل يوم جديد تستجلب الزوجة زائرا جديدا.  والعرض يقدم نموذجا واحدا لهذه الزيارات هو مصور فوتوغرافي بالحي يعاني من فجوة التواصل مع الآخرين يلبي دعوتها للمنزل ويحضر باتفاقها السابق مع زوجها إليهما ليمارسا لعبتهما أمامه وإيقاع هذا الزائر بإيعاز من الزوج نفسه في شرك تمني الزوجة الفاتنة والرغبة العارمة بها ثم إيهامه بانتحار الزوج داخل إحدى غرف المنزل في وجوده نتيجة لتواترعلاقة الزوجين ببعضهما وحلا لتفاقم أزمة التواصل بينهما بعد أن أعلن عن غضبه وقرار انتحاره، ثم انسحاب الزائر كفأر مذعور بعد أن وعدها بمساعدتها وترك الزوجة وحيدة مع هذا الزوج المنتحر، فيقدم لنا العرض بهذه الحكاية أحد نماذج  الزيارات الاجتماعية واضحة عاكسة نموذجا للتخاذل المستشري داخل المجتمع  وهروب الإنسان من الآخر خوفا من تورطه ونجاة بنفسه وهنا ينسحب الضيف حيال ما آل به مصيرهذه الزوجة الهالك وتركها تكمل معاناتها بمفردها وما كان هذا الحدث كله سوى هراء وتمثيل جديد وجيد للزوجين يكشفانه للمتفرج في نهاية أحداث العرض  بالحوار بينهما داخل  الفضاء المسرحي  للمتفرج.
في ضوء هذه الرؤية الجلية التي كمنت بين سطور النص واختزلها العرض بكثافة وقوة تبارت أدوات المخرج المتنوعة من خلال سينوغرافيا العرض المتناغمة لنص المدينة بوضوح وأثرت تقديم هذا المفهوم وهو إعادة إنتاج القهر مدفوعا بطاقة داخلية كبيرة من الإنسان، ونتاج لمحورين هامين هما الفجوة الكبيرة بين هذين الزوجين واتساع مساحات عدم التواصل بينهما يوما بعد يوم ، مما أدى بهما أن يمارسا تلك اللعبة للقضاء على الوقت قبل أن يقضي عليهما وهو ومؤنس لفراغ وقتهما وعزلتهما عن العالم الخارجي لمنزلهما ونفورهما من بعضهما البعض  واتكاء على التعبير الواضح عن وحشية الحياة بالمدينة وتأكيدا على عزلتهما عن المدينة وعبثها الذي أكده قطع الديكور الصامتة من الجدران العالية والمقاعد التي لم تتحرك طيلة العرض من مكانها وهذا الشريط المزين المعلق بين وحدات وتكوين غرفة المعيشة  والاستقبال لباب المنزل والحاجز أيضا  بين نافذة المنزل المطلة على شوارع المدينة.
كما أوضحت وعكست تلك الإضاءة الداخلية على خشبة المسرح من “اباجورات” قاعة الاستقبال المتواترة والمتفقة في اضائتها واغلاقها في إيقاع موحد ومتداخل ومتكررعلى الجانبين من المسرح هذا الروتين المريروهذه الوحشة والعزلة عن سكان المدينة للزوجين والفراغ النفسي المؤلم وما نتج عنه من صراعات داخلية للنفس البشرية كما عملت الإضاءة الخارجية المحاصرة بالتأطير لأبطال العرض ذبولا مستمرا لحياة الزوجين، وأضافت الموسيقى الخافتة الشاحبة مع خطوط الحركة الحادة والثقيلة للزوجين والمتقاطعة للزائر بين الزوجين تكاملا وتناسقا متقنا كثيرا لسمات الشخصيات الدرامية اليائسة بالعرض في تقديمه بدءا من الإفتتاحية  لنهاية العرض.
الزيارة عرض قدم منظومة القهر الإنساني وتكرار هذا القهر دون الالتزام بمكان أو زمن مسرحي وارتكزت هنا رؤية العرض على إبراز فكرة القهر المتوالي، ووجود ذلك محليا وعالميا فسعى المخرج المعد ألا يخصها بمدينة بذاتها أو زمن بعينه، بينما ركز على إحساس الإنسان بالوحدة داخل أية  مدينة وإن كانت مدينته مسقط رأسه أو ظنا منه أنها مدينته وتحمل كل ذكرياته بها آلامه وأحلامه أيضا، كما أنها تدفع به لحلمه الدائم بالرحيل أو الفرار الذي لا يجد غيره حلا لماض قديم أليم ولاغترابه الدائم  فيها.
 إن الزيارة عرض درامي مختلف حاول نقل كل المفاهيم التي يعكسها هذا التطور الاجتماعي المعاصر بآداء غير ميلودرامي متميز لثلاثة ممثلين على وعي باللغة المنطوقة والجسدية للشخصية الدرامية وقدم التيمه الأساسية التي عكف على نقلها بوضوح مخرج العرض للمتفرج وهي عبثية تلك الحياة المعاصرة التي نحياها وما ترتب عليها من انحلال القيم الاجتماعية وانهيار العلاقات الأسرية والاجتماعية كلها، والذي جعل هذين الزوجين هنا  يختلقان هذه اللعبة الثنائية كمباراة للتسابق يومية كل مساء ليخدعا ضحيتهما الزائر الجديد من المهمشين من سكان أية مدينة ينتقلان إليها ومن الذين طحنتهم عنف وقسوة المدينة ليصلون دون وعي منهم بفراغهم الداخلي في لعبتهما إلى يأس شديد ومتكرر، لنصل إلى مرحلة متقدمة من تشوه السلوك الإنساني وصولا لتشوه الإنسان ذاته داخليا نتيجه لتعثره ولمعاناته المتكررة داخل المدن المتشابهة.
الزيارة عرض قدم بوعي وإدراك لمفردات العمل المسرحي من فريق عمله وهو العرض الحائز على المركز الثاني في اللقاء الأول لشباب المخرجين 2018 عن المدينة. تمثيل أحمد سمير ومها نصر ومحمد طارق وإضاءة محمد زغلول، إعداد موسيقي أحمد أمين وديكور مهند مختار اعداد واخراج أحمد سمير.  

 


همت مصطفى