بنية التحولات فى مسرح ألفريد فرج(1)

بنية التحولات فى مسرح ألفريد فرج(1)

العدد 634 صدر بتاريخ 21أكتوبر2019

في مشهده الافتتاحي، يستهل ألفريد فرج نص سليمان الحلبي بمفارقة لافتة : الكورس في مشهد محايد يتلو وقائع دامية من العام الخطر “ 1800” الذي شكل قوس البداية لقرن التحولات الجذرية القادم – القرن التاسع عشر - : القاهرة محتدمة بالثورة، متصادمة – في واحدة من أكثف لحظاتها وأكثرها اشتباكا مع الآخر واكتشافا للذات – مع جيش الحملة الفرنسية، قبل أن تبدأ نخبتها المثقفة رحلتها في صياغة العلاقة المزدوجة مع الغرب والمتمثلة في ثنائية المدفع والمطبعة، العسكر والعلماء .
كان الغرب في تلك اللحظة منطويا على تناقضاته: مدفعا مصوبا على المدينة يقوض الأبنية والبشر، وعالِما يفحصها وينسج تفاصيلها المعمارية والاجتماعية فى سفر علمي ضخم “ وصف مصر”،وكانت المدينة منطوية هي الأخرى على تناقضاتها، تقاوم الحملة ثائرة وغاضبة، ومنبهرة في الوقت نفسه بالقادم إليها بأفق معرفي مغاير .
وهكذا – الكورس يتلو بحياد الوقائع والاضطربات، ليأتي المشهد التالي لنجد مجموعة من مجاوري الأزهر جالسين في حجرة ضيقة في حوار يعكس اضطراب المشهد وقلق الرؤية، يتركز التحاوربين المجاورين في سؤال محوري لعله سؤال النهضة ذاتها : ما العمل ؟ وتتعدد الصياغات مشيرة إلى إجابات محتملة ومفتوحة، لينتهي المشهد ببشارة عابرة كأنها الوعيد : ويل للغالب والمغلوب في هذه المعركة .
تؤطر الجملة الأخيرة للمشهد صراع الشخصيات وصدام اللحظة التاريخية، ليس هناك انتصار صاف ولانتيجة ختامية يحصل عليها أحد، ولكنها التجربة التاريخية القائمة على تصادم الإرادات والمصائر والوجود في مسارات مفتوحة على احتمالات متعددة .
تلك هي مفارقة البداية : الكورس المحايد، الخارجي، الراصد، والواصف، والمشهد المضطرب المحتدم المكثف، ومن المزج بين المشهدين، واعتبارهم مدخلا أو مفتتحا للعوالم الفنية المركبة المتتابعة بعد ذلك عبر السياقات النصية، من هذا المزج يصوغ الكاتب افتتاحية النشيد الدامي لبطله الحلبي الملتبس، ويختار بعمق لحظته الأولى القائمة على رصد خفي للتحولات، النص يبدأ بعد قمع ثورة القاهرة وحصار قادتها ليبدأ طرفا الثنائية، كلا من زاويته، البحث عن صياغة جديدة للصراعات، من تلك اللحظة القلقة والمتحولة بطبيعتها يبدأ الكاتب صياغة عمله المسرحي، وهي كيفية أراها مترددة ومتواترة في عدد من نصوصه الأخرى، وأعني البدء من لحظة قلقة تشير إلى تحولات مقبلة سواء على مستوى الشخصيات أو الأزمنة أو الأطر المكانية أو العلامات، وقد رصدت سابقا تلك الكيفية في بناء المشهد الافتتاحي لنص سليمان الحلبي، وأشرت إلى اختيار اللحظة الزمنية التي أعقبت انطفاء الثورة وحصارها دون القضاء عليها وانتهائها، وما تشي به تلك اللحظة من دلالات وما تفضي إليه من تحولات محتملة، الكيفية ذاتها تقريبا نجدها في بناء المشهد الافتتاحي لعلى جناح التبريزي وتابعه قفه، حيث يبدأ الكاتب بموقف فاصل بين المرحلتين، مرحلة سابقة كان فيها التبريزى مالكا لقصر وبستان وثروة،وأخرى لاحقة لا يملك فيها مالا أو بيتا، وبينهما احتمالات مفتوحة وممكنات دائمة، المشهد الافتتاحي هنا مثلما هو المشهد الافتتاحي في سليمان الحلبي قائم على لحظة فاصلة بين زمنين يختارها الكاتب فاصلا بين مرحلة محددة وأخرى محتملة، بين صورة متبلورة لواقع أو شخصية وصورة أخرى ممكنة، بحيث يتراوح النص بعد ذلك بين التحدد والاحتمال، بين المستقر والممكن، بين اليقين والسؤال، وهو ينسج التراوح بين الزمنين عادة بمفارقة ما، مفارقة الحلبي كما أوضحت بين حياد الكورس وقلق المجاورين، ومفارقة التبريزي خفية ومبنية على ما يمكن أن نسميه كسر التوقع، فالشائع والمتوقع هو انكسار من فقد الثروة وانطفاء من خسر الميراث والممتلكات، ولكن المشهد مبني على صياغة مغايرة، فالتبريزي يبدو متباهيا بذاته ممتلكا لها،يرى الموقف بصورته الواقعية ولكن يعطيه دلالة مغايرة،وتظل تلك الكيفية تشكل لعبة الحوار، الموقف يرصده التبريزي بالصيغة ذاتها التي يرصده بها خادمه، ولكنهما يختلفان كليا في دلالاته، حتى العلاقة الأخيرة بينهما الممتدة لمدة ساعة واحدة يراها كل منهما من منظور مختلف، تلك هي المفارقة المكونة لالتباس البداية في النصين : قائمة في الحلبي على تجاور مشهدين متضادين، وقائمة في التبريزي على كسر التوقع ولعبة حوار تثبت الحالة وتقررها ولكن تعطيها دلالة مغايرة .
تتصاعد تلك الكيفية في التبريزى متجسدة في المأدبة الوهمية (لست معنيا هنا بتقصي أصول المشهد في حكايات ألف ليلة ولا الكيفية التي اتبعها الكاتب في التعامل مع المادة التراثية) حيث يتحول المشهد كله – تتابعا وحوارا – إلى تجسيد مادي لأشياء وهمية وإقامة علاقات واقعية معها، لا توجد هنا تلك الثنائية الشائعة بين الواقع والوهم، ولكن توجد وحدة متصلة بين مجموعتين من الأوهام المتجسدة، المأدبة والسكر والنشوة والامتلاء والسوط والعقاب، كلها أشياء متصلة من الانخراط الواقعي في صور وهمية، وحتى حين يتحين “قفة” فرصة ما لصفع التبريزي انتقاما من السيد المحتال واتصالا مع اللعبة في الوقت نفسه، حتى الصفعة رغم كونها واقعية ( لعلها الفعل الواقعي الوحيد في لعبة تجسيد الخيالات ) إلا أنها تصبح وهمية مع قفزات التابع ملسوعا بضربات السوط الوهمي واستشعاره وخزة الألم من الضربات الوهمية .
تفضي اللعبة الوهمية إذن إلى لعبة أخرى قائمة على تبديل العلاقات والمهنة والمكان، المتسول المتسكع على الباب يصبح تابعا للسيد الفقير، وبغداد تصبح مكانا قديما لا متاع فيه ولا أمل في أزقتها، القصر والبستان يصبحان خلفية ثابتة وشاحبة يتحرك عليها المالك الجديد، بينما السيد والتابع يجردان اللعبة من لاعبيها ويبقيان عليها في تجسدها الوهمي، فحين يصارح قفة التبريزي بأنه تحايل عليه وانتحل صفات وأوضاعا خادعة ( فلا رمد في العين ولا ضرب من الشرطة ولا عيال في البيت ) فإن التبريزي يجرد الصورة : كنت سأبكي على إسكافي آخر ما يزال يعاني من ذلك، يمشي الآن في شوارع بغداد، ويكمل التابع التجريد والإحالة إلى فكرة مطلقة : كأني أتلذذ من ذلك الطعام الذي لا أراه وإنما أعرف أنه مرصوص على مائدة أخرى في المدينة .
المشهد هكذا مركب من كيفيات متعددة، مفارقة البداية وتجسيد الأشياء الوهمية وتجريد الدلالات وتبديل العلاقات والمكان، ليفضى التركيب كله إلى رحلة للسيد والتابع صوب مدينة أخرى، والرحلة بطبيعتها قائمة على ممكنات متعددة، بكل ما تحمله أو تشي به من اكتشاف وتغيير وابتداء متجدد . ينتهي المشهد الأول في الحلبي ببشارة فاجعة وإشارة إلى الصدامات القادمة، وينتهي المشهد الأول في التبريزى برحلة، وكلتاهما – البشارة والرحلة – قائمتان على التباس الشخصية (التبريزي) وسؤال الصراع (الحلبي) .
بتحوير ما على تلك الكيفية، يأتي مشهد البداية في الزير سالم، هو ذاته مشهد النهاية، فالمسرحية تبدأ من اكتمال الفجيعة وانتهاء الحرب إلى مصلحة واتفاق، الزمن المسرحي هنا دائري وليس خطيا متتابعا كالنصين الآخرين، بنية دائرية لا ابتداء لها ولا انتهاء، ولكنها نقطة زمنية على محيط دائرة عبثية يختارها المؤلف متصلا مع الزمن الملحمي القائم على تكرار الوحدات وتداخل الدوائر، هجرس- الأمير الغائب والعائد مُبرأ من ميراث الدم والتقاتل الفاجع – تبايعه القبيلتان المتحاربتان ملكا، ليشكل اعتلاؤه العرش وقفا للدم المتناثر في الصحراء الخربة،ولكن الفتى لا يريد العرش وإنما المعرفة، لا يريد التاج بل الحكاية، هي الكيفية ذاتها كما أشرت، لحظة فاصلة بين مرحلتين يتقصاها الكاتب وينتقيها ليكون عبرها سياقه المسرحي المتحول، اللحظة الفاصلة عادة ما تكون واضحة لكنها تفضي إلى التباسات، محددة ولكنها تؤدي إلى احتمالات، لكن اللحظة الفاصلة هنا تؤدي إلى استعادة الحكاية وبناء الدائرة الزمنية وتكوين التداخل البصري بين المشاهد أو تقطيع المشهد إلى وحدات متجاورة، وهنا أيضا، ليس فقط الزمن هو الذي يشكل بنية تكرارية مستديرة ولكنها المشاهد نفسها قائمة هي الأخرى على التكرارات المتداخلة والأزمنة المتكسرة والتوالد البصري، دوائر متولدة من بعضها ومتقاطعة كذلك، تحتوى زمن الحكاية ومكان المشهد وتحولات الشخصيات .
وكما أوردت - سابقا - في رصدي لنهايات الشاهد الأولى لنصي الحلبي والتبريزي، فإن نهاية المشهد الافتتاحي في الزير سالم هي تكرار الحكاية اتصالا مع استدارة الزمن . وفى النصوص الثلاثة، فإن نذير البشارة الفاجعة، واحتمالات الرحلة، وتكرار الحكاية، تصبح كلها كيفيات ودلالات مسرحية تؤطر تحولات العالم وتتخللها كذلك صانعة بناء السياق وتتابع المشاهد وتحولات العالم .
في أول تجل لظهور شخصية سليمان الحلبي يبدو متصارعا في موقف وهمي، واقفا في خلاء جوار شجرة عجفاء شاهرا فرع شجرة وكأنه سيف يتحدى به الملك الصليبي “ ريتشارد قلب الأسد “ منتـحلا دور “ صلاح الدين “ وصورته طالبا من “ريتشارد” النزال الفردي لا اشتباك الجيشين، يبدو الحلبي هنا مندرجا في صورة خيالية قائمة على الاستعارة والانتحال في أقصى حالات تجسدهما امتلاء وألقا : استعارة الزمن المنتصر وانتحال صورة القائد الأسطوري الفاتح، ولكنه لا يريد انتصار الجيش وإنما انتصار الفرد، يريد نزال الملك الغربي والقضاء عليه في مواجهة فردية ينتصر فيها الحلبي ويقي قواته عبء الصراع وثمن الدم، سليمان هنا تكوين فردى مركب من الوهم والبطولة في صيغتهما المتطرفة، يريد فداء الجماعة وينوب عنها في دفع الثمن وتحمل ضريبة الدم، بغتة، يكسر الكاتب تلك الصورة حين يفاجئ الحلبي – وهو في لعبة انتحالاته – صديق عابر، يراه في حلم يقظته المسكر، فيقرر التداخل معه شاهرا سيفا مماثلا، ولكن الحلبي يرتد مضطربا وجزعا، في ذلك المشهد تتجسد بصورة مكثفة وأولية شخصية الحلبي المبنية على القلق الداخلي والتطرف والتوهم، هي شخصية على الحافة، توجد عند آخر نقطة تفصل العالم عن الهاوية، لا تقتل أقل من كليبر ولا تشتم أقل من الشرقاوي كما وصفها مجاور أزهري، وأضيف ولا تشتبك في تصارع وهمي مع أقل من ريتشارد قلب الأسد ولا تنتحل صورة ودورا أقل من صلاح الدين، ورغم تطرفها وتكونها الحادين، تبدو شخصيته متسائلة، متأملة في قضايا مجردة، رغم امتلاء الشوارع والأزقة ورواق الأزهر بالرصاص والقتلى والتناقضات والجنود وقضايا يومية ملموسة وحيه مستمدة من لحظة الصراع الكبير القائم.
ويرسم ألفريد فرج الظهور الأول للحلبي في تقاطع وتداخل مكاني مع الشخصية الضد والبطل النقيض، الطرف الآخر في الثنائية الدامية : كليبر، الذي يبدو أول تجل له كذلك في صورة متطرفة، لا يرضي بأقل من الهزيمة الكاملة لثوار المدينة الغاضبة، يرضى بالنتائج العرضية وصولا لنتائج الجذرية، يرضي بالكراهية ولكنه لا يرضى بالكبرياء، لا يريد رجلا يمشى في الشارع ممتلئا بذاته بل رجلا منتهكا مستباحا، يريد مدينة خاضعة بلا كبرياء حتى ولو تفشت فيها الكراهية، يريدها مستباحة حتى ولو بدت هادئة آمنة .
شخصيتان متطرفتان في تكوينهما الخاص، توجدان عند آخر نقطة للشعور وأقصى درجة للفكرة، كونهما ألفريد فرج في مشهد واحد متداخل ومتصل، قسم الخشبة إلى مستويين وكون المشهد عبر تقنية التقاطع والتداخل بين الحلبي في لعبته الوهمية، وكليبر في حفلته الراقصة، يتقاطع المشهد بين اللعبة والحفلة ويتوزع راسما تضاد المصائر المقبل وتصارع الإرادات الفاجع، كأن المسرح هنا هو اللحظة التاريخية ذاتها، منقسم على ذاته، صانع لثنائية متضادة سوف تظل كذلك في المسرح والتاريخ معا.
الصورة ذاتها – بتنويعات وكيفيات أخرى – هي ما يبتدي عليها الزير سالم في أول تجل لوجوده المسرحي، جالسا مع ندمائه من المطاريد والشعراء والصعاليك رافعا كأسه نخب أشواق مستحيلة وتشوفات مطلقة : نخب ما لم نروما لم نسمع وما لا نعرف . يطلب الأمير الماجن المحالات ويعرفها بالسلب، هو يبغي أشياء لم يرها وأصواتا لم يسمعها ودنيا لا يعرفها، دائرا في فلك مستحيل محتضنا أسدا وجنية في لعبة تمثلات لاهية.
في جملة خاطفة، يصف الوجود ويحدد رؤيته : عالم موحش وإنسان وحيد، الوحشة والوحدة رغم الخمرة والجنيات والقصر والمجون،ولذلك يدخل لاهيا معصوب العينين في شرك جليلة ويستسلم لخداعها وفخها المنصوب رغم مراجعات أخيه وتحذيراته الخفية الموشاة بنبوءة غامضة، أقدار صغيرة مصنوعة من شراك امرأة ومكونة من روح قلقة تطلب المحالات، أقصى النشوة وأقصى المعرفة وأقصى العالم، لانبوءة مسبقة تحدد المصير هنا ولا قدر كوني مسيطر، ولكنها فخاخ خادعة وامرأة تصنع شركا صغيرا يجتذب خطوات فارس معصوب العينين، وعرش ملك مبني على جريمة وقصر ممتلئ بنوازع خفية ومشاعر ملتبسة وأغراض مكتومة، تلك هي الأشياء التي صنعت قدرا وكونت مصيرا، أقدار مشبوكة بالخديعة ومصائر ملتفة بشراك ناعمة، يخرج الأمير سالم إلى الصحراء لاهيا، فيأتيه صوت كأنه البشير أو النذير لينهي تعابث الفارس وصخبه الماجن، لتبدأ رحلة الدم في رمال الصحراء الممتدة .
وهكذا – مثلما كون الكاتب شخصية الحلبي، صاغ كذلك شخصية الأمير سالم، كلاهما وجود على الحافة، الأول على حافة صراع سياسي وتاريخي في لحظة متفجرة، والثاني على حافة عالم قلق تصوغه قبائل وعشائر وأحقاد وأطماع، وكلاهما أيضا عند أقصى درجة لوجود بشري وعند أعلى نقطة لصدام المصائر والإرادات، حتى لو كان الصدام تحقيقا لتصور ذهني أو فكرة مجردة، عند الزير سالم الرغبة المستحيلة : كليب حيا، لا مزيد، وإلا فناء متواصل في صحراء عدمية، لا يريد الأمير العدل الأرضي : الفدية والقصاص والتعويض، يريد فعلا ضد الطبيعة ودورة التتابع الزمني الحتمية، يريد زمنا عائدا لا متصاعدا، يتراجع الزمن عن دورته ويرتد إلي ما قبل موت كليب ليصحو ويستوي حيا، رجلا وأبا وملكا، بشكل ما – هو يريد بعثا معكوسا، البعث عادة في التصور الديني قيامة موت، والبعث لدى “سالم” ارتداد زمني يلغي فكرة الموت ويحقق العدل بصيغته المطلقة والمستحيلة معا، ولذلك يعادي تتابع الزمن ويخاصم مرور الصباحات ودورة الأيام، العدل المطلق ضد التتابع الحتمي للمواقيت، وقد حقق الأمير شيئا من ذلك فعلا، فهو قد ابتعث حيا بعد سبع سنوات من الموت البطيء، يشرب خلالها سوائل وعصائر وترعاه حركة النجوم وطوالعها، وحين رأى في موته الأخير ابن أخيه جاثيا وحانيا، يدرك أن بعض ما أراد كان، بعض كليب هو بعض العدل ولكن هذا البعض، عدلا كان أو شخصا، تحقق في اكتمال اللحظة الأخيرة للأمير، هي اللحظة المتحققة في عمره الموحش، رأي بعض المستحيل وانطوى على موت ممكن .
قد يرى البعض في ذلك تهويما وتشوشا وافتعال بطل تراجيدي،تركيبا وفعلا ومصيرا، على نحو ما رأى سعد الله ونوس في مقال هام عن النص، مقررا : “ أن المسرحية طموحها أكبر من طاقتها، فمن الصعب بناء شخصية تراجيدية بدءا من مشكلة مبهمة، حدودها مغلقة، مبتورة العلاقة مع الواقع التاريخي، والمسرحية مهزوزة البناء لأنها لم تجد بقعة الألم الحقيقية، فأهملت جموع الناس، ولم تستطع تصوير العلاقة الجدلية بين مآسي الأفراد والمأساة العامة، أو قوانين التفاعل بينهما، ولذا انتهت إلى حلول مبسطة، وضاعت عنها الأسباب الجوهرية لكل هذا الاضطراب “ 0
يرى ونوس أن التقاطة الفريد فرج لامعة ولكنها تعثرت، فإبداع تراجيديا عربية لا يتم بأن نجبر تاريخنا على تكرار موضوعات التراجيديا العالمية، وإنما في اكتشاف وملامسة الموضوع التراجيدى، الذي ينبثق عضويا من تاريخنا وحاضرنا معا .
ينقد ونوس النص هنا استنادا إلى ما رآه هو البقعة الذهبية في الملحمة التاريخية، وهي بسطاء الناس وجموعهم في خضم حرب عبثية دون أن يكون لهم مصلحة فيها ودون أن يُسمح لهم بتأمل معناها أو أسبابها الحقيقية، وفي النهاية، عندما أنهى الأبطال دورتهم وتصالحوا مع أقدارهم بالموت، لم تجد المسرحية كي تكمل لبسطاء الناس دورتهم إلا حلا خلقيا هشا هو التآلف .
لتكن تلك هي النقطة الذهبية لدى ونوس، وهي كذلك قطعا، ولكن ألفريد فرج اختار نقطته الذهبية هو الآخر، همش البسطاء والعامة حين تأمل المصائر الفردية المتصادمة، واستحضرهم في مشهد مكثف حين أراد قراءة الدلالة الدامية لحرب عدمية، وفي كل ذلك تعمق واستبصر الشخصيات وكون علاقات وسياقات متحولة وأسئلة شائكة استقصى عبرها الواقع والتاريخ معا .

 


محمود نسيم