فرقة الغوري.. وجماليات المسرح الشعبي

فرقة الغوري.. وجماليات المسرح الشعبي

العدد 719 صدر بتاريخ 7يونيو2021

في الستينيات كان هناك ازدهار لفرق التليفزيون المسرحية والتي أنشأت عام 1962 وقدمت مجموعة من العروض التي لاقت نجاحاً كبيراً على المستوى الجماهيري والنقدي وكان من ضمنها فرقة “المسرح العالمي“ التي كانت تقدم أشهر النصوص العالمية ومن بين العاملين فيها المخرج عبد الرحمن الشافعي .
ومع انتكاسة يونيو تراجعت هذه الأنشطة وسرح العاملون في هذه الفرق ومن بينهم “الشافعي“ الذي اتجه إلى مسرح الثقافة الجماهيرية فكلف من قبل الكاتب المسرحي سعد الدين وهبه والفنان حمدي غيث بإنشاء “فرقة مسرحية“ في “وكالة الغوري“ بحي الأزهر .
وهناك وجد “الشافعي“ نفسه أمام حالة مصرية خاصة من خلال نمط اجتماعي شعبي له عاداته وتقاليده وموروثه الشعبي والإنساني على مستوى البشر وعلى مستوى الطبيعة المكانية .
فماذا يقدم لهذا الجمهور المختلف كل الاختلاف عن جمهور المسرح القومي ومسرح التليفزيون الذي قدم من خلاله أعمال شكسبير وموليير ودرونمات وبراندللو وإبسن وثيوتكا .
كان عليه – إذن – أن يوازن بين ما درسه وقدمه – من قبل – وبين مناخ الحي الشعبي بالغورية وحارة الروم والمغربلين، كذلك كان عليه أن يبحث عن صيغة مسرحية تلائم المعمار العربي الخالص لوكالة الغوري .

مما جعله يبحث في موروثه الذاتي من خلال العودة إلى الأب والبحث الجاد عن الينابيع الثقافية المصرية الجذور، وهو القروي القادم من محافظة الشرقية الذي سحرته أضواء المسرح فترك من أجلها دراسة الحقوق وراحت غواية المعرفة والتجريب تلقى به من أرض إلى أرض حتى استقر في فضائه الأول، فراح في البداية في بحث حثيث يراود المكان لمعرفة تفاصيله الصغيرة .
ويحكى “الشافعي“ في شهادة له عن تلك المرحلة نشرت بمجلة “فصول“ في عدد الربيع عام 1995 قائلاً: تصادقت أولاً مع مجموعة الممثلين الهواة وبعض الشعراء والزجالين والمطربين “تصعلكنا“ معاً في الحواري والأزقة وعلى أرصفة الشوارع وتنقلنا بين المقاهي والحوانيت، وعاشرنا أهل الحي وتصاحبنا وصرت “زبوناً“ معروفاً لمطاعم الفقراء والباعة عابري السبيل وشد انتباهي شغفهم بالمغنى في الأفراح والموالد في الأزقة والساحات، أصغيت على دقات الصنايعية ونداءات الباعة في الحواري جذبني الدراويش و“مقاطيع “ الحسين وماسحو الأحذية وباعة الكتب في حي صاخب لا يعرف النوم، أيقنت أين يكمن الشعب الحقيقي  _ صوت مصر الصريح – إنهم جماعة ذات مزاج خاص يحتفون بالصحبة والألفة، يشكلون كتلة إنسانية شديدة التماسك في روعة الأهرام وتعانق المآذن والقباب ، تلتصق أكتافهم معاً في الأسواق والموالد حتى في المآتم يتقاربون يتحابون يحتفلون دون فوارق “ 
في عالم أولاد البلد – إذن – ولدت التجربة ، وجاء اختيار “عبد الرحمن الشافعي“ لنص شعبي شديد الخصوصية ليكون بداية التلاحم بين هذا الجمهور المتعطش لفن يعبر عن واقعة وبين مخرج تلبسته حالة إبداعية تحاول أن تستنطق الموروث الشعبي خاصة صورة “البطل“ في الحكاية الشعبية، فكان اختياره لأدهم الشرقاوي ليكون باكورة العروض في ساحة الغوري بممثلين هواة . 
وأدهم الشرقاوي بطل شعبي من مركز إيتاي البارود بمحافظة البحيرة تصدى لظلم الإقطاعيين فخلدته الذاكرة الشعبية وترددت حكايته على الألسنة من جيل إلى جيل، وتناولته الإذاعة والسينما في فيلم شهير بطولة الفنان عبد الله غيث وقام المطرب الراحل عبد الحليم حافظ بدور الراوي للأحداث عبر عرض غنائي .
ولكن كيف تم الربط بين المكان التاريخي “وكالة الغوري“ وبين النص الشعبي من خلال التقنية المسرحية؟
قبل الإجابة على هذا السؤال لابد من وأن نعرف طبيعة المكان الذي تم فيه العرض ، فساحة الغوري واحدة من المباني ذات الطرز المعمارية العربية التي أنشئت في العصر المملوكي على يد السلطان الغوري وكان إنشاؤها بغرض التجارة واستقبال التجار الوافدين إلى مصر من الأقطار الأخرى وهو عبارة عن مساحة مستطيلة في صحن الوكالة في منتصفها نافورة مثمنة الأركان يبلغ ارتفاعها 40 سنتيمتراً بينما حول هذا المستطيل توجد مجموعة من الأعمدة الحجرية تحمل مجموعة من المشربيات والبواكي أسفلها عدد من الأبواب الصغيرة لمجموعة من الدكاكين التي تعلوها ثلاث طوابق يوجد بها غرف لسكنى التجار الوافدين، حيث كانوا يقيمون بالقرب من تجارتهم .
وكان على “الشافعي“ الذي وعى تماما ًالأهمية التاريخية لهذا الأثر الهام – ذي الطابع المعماري الخاص – أن يتعامل معه بحرص شديد، فليست هناك خشبة للمسرح أو مقاعد للجمهور ، مما يجعله يفكر في عرض مسرحي تجريبي يتلاءم مع طبيعة المكان وأهل المنطقة أيضاً فتأكد من أن أفضل الحلول تكمن في فنون الفرجة القائمة على التفاعل والمشاركة فاتفق مع مصمم الديكور “محمد عبد الفتاح“ على استخدام “النافورة“ – والتي تقع في منتصف الساحة – كمنصة للعرض وذلك بتغطيتها بقرصة خشبية ، أما الجمهور فيقف كحلقة حولها من كل جانب والمشربيات تكون أماكن لكبار المشاهدين من الشخصيات العامة، وتم دخول الفنانين المشاركين في العرض من وسط الجمهور ليصبح الجمهور جزءاً من العرض من خلال الاندماج الكامل مع أبطاله من الممثل .
وقد اعتمد “الشافعي“ على تيمات المسرح الفقير فخشبة المسرح الفقير فخشبة المسرح لا يوجد فيها سينوغرافيا أو ديكور، حتى أدوات العرض لم يكن هناك سوى ثلاث بنادق ومجموعة من العصي وفؤوس الفلاحين 
ومن ناحية شكل العنصر الدرامي فقد وضع المخرج الممثل الذي قام بدور “أدهم الشرقاوي“ والمطرب الذي يروى الأحداث في وسط الجمهور على المنصة وجعل الباشا ومأمور المركز – الذين يمثلان رمز السلطة – في البواكى وبين المنصة والبواكى انفصال مكاني ومعنوي شاسع .
وفى هذا التقسيم دلالة فنية ذات بعد سياسي واضح تناقش وضعية الشعب المتمثلة في صورة البطل الشعبي والسلطة القاهرة في ذلك الزمان .
وإذا كان العرض هو وليد البيئة الشعبية ، فلا بد من أن يكون متاحاً للجميع من أبناء الشعب لذا كانت تذكرة الدخول هي “ثلاثة قروش“ فقط وقد قام على تنظيم الدخول والخروج مجموعة من أبناء الحي وقد استمر عرض “أدهم الشرقاوي“ ثلاثمائة ليلة بدأت عام 1968 وانتهت في منتصف 1970، ولقد اختير ليكون باكورة الأعمال التي قدمت على مسرح السامر الذي تم افتتاحه عام 1971 .
وكانت الإرهاصة التي قادت مخرجه إلى عرض آخر لاقى إقبالاً جماهيريا ونقدياً هو “على الزيبق“ والذي عرض لعامين متتاليين 1972 – 1973 من خلال فرقة مسرح السامر وقد طاف العرض قرى ومدن مصر المختلفة فعرض في إستاد المنيا الرياضي وفى كثير من ساحات وأجران الوجه القبلي .
ويحكى “عبد الرحمن الشافعي“ قصة طريفة وقعت لهم أثناء تقديم عرض “أدهم الشرقاوي“ بمدينة قها بمحافظة القليوبية عام 1969 حيث كان المسرح عبارة عن منصة أسمنتية تتوسط القرية ، وحضر الجمهور بأعداد غفيرة كبيرة ومن بينهم عمدة القرية وكبار الأعيان وبدأ الخفراء ينظمون الجمهور بعصيهم ومع بداية العرض تفاعل الجمهور من الحكاية فبدأوا يصعدون إلى جنبات المنصة المسرحية وأفلتوا من حصار الخفراء بعد أن ذاب الجميع في المشاهدة . وهذه القصة رغم بساطتها الشديدة وما تحمله من طرافة تؤكد على قيمة التجربة التي قدمت مسرحاً بلا حواجز يتماس مع  الجمهور الحقيقي ، المتعطش لتجارب تشخص وتجسد همومه وأحلامه .
وقد فتحت هذه التجربة الباب لمخرجها للغوص في بحر التراث الشعبي فقدم بعد ذلك “الفلاح الفصيح“ في عرض “حكاية من وادي الملح“ و“سعد اليتيم“ و“عاشق المداحين“ و“حسن ونعيمة“ في رائعة “منين أجيب ناس“ وقصة “السيد البدوي“ في “مولد يا سيد“ و“أبو زيد الهلالي“ في سيرة “سيرة بني هلال“ و“ليلة الرؤية“ و“الليلة الكبيرة“ مستخدما في تلك العروض تقنيات شعبية كالسرادق وخيمة السرادق والساحات الشعبية، وقبل ذلك وبعد ذلك مستلهماً روح الشعب والتي – هي بحق – جوهر أي عمل فني خالد .


عيد عبد الحليم