«الحالة توهان» تفضح الإرهابيين على المسرح العائم بالقاهرة

«الحالة توهان» تفضح الإرهابيين على المسرح العائم بالقاهرة

العدد 611 صدر بتاريخ 13مايو2019

يتفوق الفن المسرحي على السينما والتلفزيون والراديو في إيصال الرسالة لدى المتفرج لأن تفاعل الممثل يكون مع الجمهور بشكل حي ومباشر دون حواجز، هذا ما استغله صناع مسرحية «الحالة توهان» التي تعرض كل ليلة على المسرح العائم بالقاهرة التابع للبيت الفني للمسرح، لتوصيل الرسالة كاملة للمتلقي، فالعرض تنويري توعوي تحريضي يحث على المواجهة المباشرة مع اللإرهاب والإرهابيين.
فالعرض يناقش قضية مهمة للغاية وهي نشأت التعصب والتطرف وتحوله إلى إرهاب، منذ العصور الأولى وحتى عصرنا الحديث. وهو يكشف ويفضح حقيقة الجماعات الإرهابية والتكفيرية، التي اتخذت من الدين ستارا للتحكم في الناس وتخويفهم تحت مسمى تنفيذ أوامر الله مثل داعش وغيرها.
العرض يبدأ نمطيا مع فتح الستارة باستعراض راقص مع أغنية تقول: «ماتقولش إيه عملوا الأجداد قول إحنا هنعمل إيه».. سرعان ما يدخل أحد الرجال يلبس ملابس يلبسها الإرهابيون كداعش ومعه رجال ملتحون على نفس الهيئة ومعهم عصي، وإن كانت الحقيقة يستخدمون أحدث الأسلحة، ويقول «وقفوا المهزلة دي أنتوا في ضلال» ليضعنا المخرج الدكتور سيد خاطر وهو مؤلف العرض أيضا بمساعدة السيد إبراهيم في الحدث مباشرة، وجعل الرجل الإرهابي يخرج من الصالة ورجاله يحاصرون المتفرجين من كل النواحي ليدلل المخرج على أن الإرهاب يحاصرنا ويهددنا تهديدا صريحا.
ويبدأ الإرهابي المتشدد حواره مع المتفرجين كاسرا الجدار الرابع المسرحي قائلا “وانتوا قاعدين مبسوطين وسايبين ولادكم وجايين تتفرجوا على المسخرة دي”، هنا يفرض رأيه وسيطرته على الجموع باسم الدين.
ويدخل رجل يدعى “فاهم” ينهر الإرهابي الذي يدعى “حافظ” لنعرف منذ البداية ومن دلالة الأسماء أن حافظ لا يقوم بإعمال العقل في تعامله عكس فاهم المستنير الذي يقيس الأمور بعقله.
حافظ يحاول أن يطرد الجمهور ويوقف العرض المسرحي فهو يطلق على نفسه أحد حراس الدين، فالجماعات التكفيرية الإرهابية تدعي أنها تحكم بشرع الله ومن يخالفها يخالف الله.
ومن الحوار بين حافظ وفاهم نتعرف على محور العرض بأنه صراع بين الإرهاب وفكره الظلامي وبين العقل والتنوير.
بعدها يدخل جمال عبد الناصر بطل العرض ليعرف الجمهور أن ما حدث مجرد مشهد تمثيلي افتتاحي لفكرة المسرحية قائلا «لا بد أن نفتح باب القلب والعقل لعمل محاكمة هزلية يتخللها أوقات من الجدية. جمهور هذه المحاكمة هي أنماط سلبية منتشرة في المجتمعات المصرية ومنها على سبيل المثال المتردد والمعارض على كل شيء دون تفكير وكذلك اللجان الإلكترونية محترفي مواقع التواصل الاجتماعي والذين يمولون من الخارج كما ظهر في العرض.
وبين هذه الأنماط المتعاطي الذي يلبس ملابس كتب عليها مصر وهذا الشاب لا يفيق في كل أوقات المسرحية ولا أدري هل يقصد المخرج أن الشباب في مصر لجأوا للمخدرات بعد سوء الأحوال المعيشية. ويؤخذ على النص عدم وجود شخصية إيجابية واحدة بين هذه الأنماط، والتي كان يرمز لها بمختلف شرائح المجتمع.
وزرعت بين هذه الشخصيات شخصية رجل يمثل أمريكا وسمي «شمتان» من حيث الحوار والملابس كانت شخصية نمطية ومفتعلة من حيث الصوت والملابس والبايب والأمريكان ليسوا على هذه الهيئة، ويقول جمال عبد الناصر لو كان الأمر بيدي لوضعته في قفص الاتهام. شمتان ينشر الفتن بين الناس ويمول مدعي الثقافة صاحب مواقع التواصل.
ويوجه القائم بدور ممثل الادعاء كلامه للجمهور: «إن الحكم في النهاية للمشاهدين» لنعلم أن المسرحية عبارة عن مسرحية داخل المسرحية وهو أسلوب وطريقة لطرح القضايا السياسية بطريقة كوميدية كما في عصر النهضة التي سميت «الكوميديا ديلارتي» وهي من أشهر أنواع الكوميديا العالمية التي ظهرت في إيطاليا، إذ تعتمد بشكل أساسي على الارتجال.
لجأ المؤلف وصناع العمل لهذه الفكرة في الطرح للتخفيف من حدة الموضوع المطروح.
اعتمد المخرج ومؤلف العرض على الحوار الخطابي الموجه مباشرةً للجمهور وكانت الخطابة في أجزاء كثيرة بالمسرحية، في محاولة من المخرج لإيصال الرسالة بطريقة مباشرة وإن كان البعض يرى عدم ضرورة المباشرة في الفن.
تتوالى أحداث المسرحية من خلال هذه الفرقة التمثيلية التي تطرح فكرتها في قالب كوميدي تهكمي على الجماعات الإرهابية والمتشددة بشكل من السخرية.
ومن خلال الحوار يتبين أن تيمة حافظ وفاهم بما يوجد بينهما من تناقض موجودان من أيام الخلفاء الراشدين إلى الآن.
ويطرح العرض، كيف تكونت جماعة الإخوان المسلمين بعد ثورة 1919 على يد الاحتلال الإنجليزي في مصر لأغراض تخريبية وكيف تكونت جماعات كداعش والقاعدة وغيرها على يد الأمريكان.
وتتوالى الأحداث التي هي عبارة عن صراع بين التفكير والعقل والمنطق وبين الجهل والضلال والظلام المتمثل في الإرهابيين سواء إرهاب دولي أو إرهاب جماعة مثل جماعة أو جماعة التكفير والهجرة أو الحوثيين أو داعش وغيرها. والذين بدأوا مخاطبة الناس بأمر عدم إعمال العقل وعدم التفكير حتى يتثنى لهم السيطرة على الناس.
ونشاهد من خلال الأحداث أهم الحوادث التي جرت من خلال قتل أو إيذاء العلماء على مر العصور من قبل الجهلة ومتشددي الرأي والإرهابيين، بدءا من محاربة ابن رشد واتهامه بالكفر والإلحاد وإحراق نحو 108 من كتبه.
وبطريقة تعامل هزلية من قبل المحكمة يجسد جمال عبد الناصر شخصية عميد الأدب العربي طه حسين الذي رفعت ضده قضية تتهمه بالكفر والإلحاد لتأليفه كتاب الشعر الجاهلي.
وكذلك شخصية الشيخ محمد حسين الذهبي الذي تم قتله على يد جماعة التكفير والهجرة الإرهابية بعد تأليفه كتاب الإسرائيليات في التفسير والحديث، والذي حاول من خلاله تصحيح بعض المفاهيم المغلوطة في التاريخ الإسلامي، ويتم تجسيد مشهد متخيل بين الذهبي والإرهابيين لينتهي المشهد بقتله، رغم براعته في مخاطبة عقولهم والذي أبدع عبد الناصر في تجسيد الشخصية والتفرقة بينها وبقية الشخصيات التي لعبها في العرض وكان له «كاريزما» وحضور قوي.
ومرورا بحادث اغتيال الكاتب الصحفي فرج فودة الذي هاجم الجماعات المتطرفة في مقالاته.
ويستعرض العرض محاولة اغتيال الكاتب والروائي نجيب محفوظ من قبل الإرهابيين وتجسيد مشهد متخيل بين المهاجم والأديب، ومن الأقوال المعبرة في كلام نجيب محفوظ للإرهابي: «أنا ضحية جهلك وأنت ضحية الجهل نفسه».
وتنتهي مشاهد المسرحية بطريقة الخطابة أيضا على لسان جمال عبد الناصر التي استخدمها المخرج والمؤلف طوال العرض وبنبرة تحذيرية قوية موجهة للجمهور ومن خلال نزوله إلى الصالة والحديث مع الجمهور مباشرةً.
على مستوى التمثيل والأداء تفوق الفنان جمال عبد الناصر على نفسه في أداء الشخصيات الضحية للإرهاب والجهل واستطاع التفرقة بين كل الشخصيات. وكذلك الفنان أشرف مصيلحي في دور الإرهابي وأجاد ياسر عزت في دور فاهم ومعتز السويفي في الأدوار المتنوعة، وأكثر من حاول الإضحاك الفنان الكوميدي رضا إدريس في دور القاضي وعبد العزيز توني في دور مستشار اليمين، والفنانين عبد الله الشرقاوي، ناجح نعيم، سوسن طه، محمد الشربيني، أشرف فؤاد، في أدوار شخصيات المشاهدين بالمحكمة.
أما وظيفة الديكور في العرض فكانت معلوماتية أيقونية والبعض من الديكور تكميلي للمنظر المسرحي، فقد وضع المخرج بنارات يمين ويسار المتفرج على يسار المتفرج ناحية القلب بعض الكتاب والمفكرين ومنهم ضحايا للإرهاب ومنهم الكاتب الصحفي فرج فودة الذي اغتيل عام 1992 والشيخ الذهبي.
وبنر لطه حسين والشيخ الشعراوي، وعلى اليمين بصور مشوهة ومتصدعة رموز الإرهاب ومنهم أبو بكر البغدادي وحسن البنا مؤسس جماعة الإخوان المسلمين والقرضاوي مفتي الجماعة الهارب بتركيا وبن لادن.
وضع المخرج سيد خاضر كرسيين عملاقين على المسرح يرمزان للسجن الكبير، جلس على الكرسي الأبيض فاهم وجلس على الكرسي الأسود الإرهابي حافظ، ومن تناقض اللونين الأبيض والأسود تتضح رؤية المخرج، فالأول سجين الفكر المتطرف الإرهابي والثاني سجين فكر المتشدد نفسه.
وقد وضعت قطعة ديكور على شكل مربع رسمت عليها رسومات فرعونية لم يكن لها أي منفعة بل حجبت الرؤية في بعض المشاهد، ووضع مصمم الديكور في الخلفية رسومات لمعالم القاهرة الإسلامية والفرعونية كدلالة على حراستها لوحدة البلاد ورعايتها.
استطاع المخرج استغلال دلالات الإضاءة سواء اللون الأحمر مع الإرهابيين والأزرق والأبيض مع المعتدلين والعلماء والمفكرين، وكذلك استخدم خاصية «الزووم» أو التركيز الضوئي في كلام جمال عبد الناصر الموجه للجمهور مباشرة.
استخدم المخرج تقنية السينما عن طريق «الفيديو بروجيكتور» لعرض بعض المشاهد للعمليات الإرهابية سواء في أفغانستان أو العراق أو ليبيا وسوريا وأخيرا مصر والتفجيرات التي حصدت أروح الكثرين من الأبرياء، ليذكر المتلقي بجرائمهم.
كتب أشعار المسرحية الشاعر الغنائي المخضرم إبراهيم عبد الفتاح ولحن موسيقاها الملحن مصطفى منصور وصمم الاستعراضات حسان صابر وجاءت مكملة للحدث ومؤكدة عليه.
اختتم المخرج العرض لبعض كلمات للشيخ متولي الشعراوي التي يتحدث فيها عن مصر مع إظلام المسرح إلا إضاءة على صورة الشعراوي والكلمات بقي أثرها في أذان المتفرجين لبعد العرض، وكان يفضل أن تغلق الستار مع هذه الكلمات لكن انتهى العرض نمطيا باستعراض راقص.
استطاع المخرج من خلال عرض «الحالة توهان» توصيل الرسالة بطريقة خفيفة وسلسة حتى وإن كان قد أصرف في استخدام الخطابة والمباشرة في طرح الفكرة ليشغل حيزا من تفكير المتلقي وليس جعله عرضا للضحك فقط.


سامح توني