مهرجان كلباء للمسرحيات القصيرة البحث عبر الإمكانيات المحدودة عن جماليات جديدة

مهرجان كلباء للمسرحيات القصيرة البحث عبر الإمكانيات المحدودة عن جماليات جديدة

العدد 531 صدر بتاريخ 30أكتوبر2017

تحت رعاية الشيخ الدكتور سلطان القاسمي عضو المجلس الأعلى حاكم الشارقة، انطلقت مساء يوم الخميس 28 سبتمبر فعاليات مهرجان كلباء للمسرحيات القصيرة في دورته السادسة، الذي تنظمه إدارة المسرح بدائرة الثقافة تحت إدارة المسرحي أحمد بورحيمة، استمر المهرجان حتى الثالث من أكتوبر الماضي. شملت هذه الدورة مجموعة من الفعاليات المسرحية التي بدأت بتكريم الفنان الإماراتي صابر رجب الذي أثرى المسرح بأعماله في مجالات الإخراج والتأليف والتمثيل، ومن ضمن العروض التي شارك فيها بوصفه ممثلا «غلط في غلط» و«محطات من حياة أبوي»، هذا إلى جانب إسهاماته في  الإخراج ومنها عرض “وين الملايين” وفي إطار احتفاء المهرجان بهذا الفنان المتميز، تم إصدار كتيب يضم السيرة الذاتية له وشهادات وإفادات حول تجربته، كما تم تخصيص لقاء عرض فيه الفنان تجربته وأهم المحطات الفنية في مسيرته بحضور ضيوف المهرجان من مختلف الدول العربية.
وعلى الصعيد الفكري، الذي استغرقت فعالياته جلستين، الأولى خصصت لعرض مجموعة من رسائل الدكتوراه المنجزة حديثا في المنطقة العربية، التي شارك فيها طارق الربح من المغرب الحاصل على الدكتوراه عن بحثه “مسرح الشارع.. التأسيس والتطلعات” الذي تناول فيه استعراض أنواع العروض الأدائية التي تندرج تحت مسمى مسرح شارع في دولة المغرب، مستقصيا ظروف التأسيس وراصدا عملية التطور إلى الآن، ورسالة الدكتوراه للباحث سوالمي الحبيب من الجزائر «الهواية والاحتراف» مستعرضا مرحلة التأسيس للمسرح الجزائري ومخصصا الفترة من 1968 وحتى الآن لتكون مجال الرصد والتحليل لإيجاد خصائص كل من المسرح المحترف والهاوي على مستوى التأليف والإخراج، كما قدمت الباحثة تلكماس منصوري من المغرب بحثها “الكتابة أفق متعدد - دراسة في آليات تحول الكتابة داخل النص الدرامي” مقارنة بين الكتابة المسرحية المغربية الكلاسيكية من ناحية والكتابة الحديثة من ناحية أخرى، ثم مقارنة مع مثيلتها من الدرامات الفرنسية، مناقشة جميع مراحل التطور التي مرت بها الكتابة المغربية، ومن مصر قدمت ميليسيا رأفت بحثها “الثابت والمتغير في عروض الريبرتوار - نماذج مختارة من المسرح العالمي والمسرح المصري” مستندة على بعض النماذج المصرية الهامة مثل عرض «حلم بلاستيك».
أما الجلسة الثانية، فكانت بعنوان «المسرح العالمي.. المفهوم وحدوده» شارك فيها نصار النصار من الكويت، سفيان عطية من الجزائر، رابح هوادف من الجزائر، وهبة بركات من مصر.
تقوم فلسفة المهرجان على فكرة المختبر المسرحي حيث يلتحق جميع الفنانين من الهواة بمجموعة من الورش في الإخراج والتمثيل والسينوغرافيا على أيدي مدربين متخصصين - كل في مجاله ثم يبدأ المشاركون في إعداد مشروعات عروضهم التي يقدمونها أمام لجنة مختصة تقوم بتصنيفهم لعروض داخل المسابقة وعروض خارجها، حيث شارك في هذه الدورة عشرة عروض التزمت بشروط إنتاجية محددة مثل أن يكون النص معدا عن نص عالمي وأن يتم استخدام المكعبات الخشبية فقط حيث يتم التجريب على الصورة المسرحية بإمكانيات مادية ضعيفة في مقابل إتاحة الفرصة أمام الخيال لتحقيق الدهشة والإمتاع من خلال جميع عناصر العمل المسرحي، فنجد عرضا مثل «71 درجة» للمعد والمخرج مهند كريم الذي قدم صورة مدهشة من خلال مصابيح معلقة تملأ فضاء الخشبة تنقلنا من خلال الإضاءة بين جنبات الحدث الدرامي، وتؤكد لنا ضبابية العالم وسوداويته وقتامته ودمويته مرتكزا على نص “تيتوس أندرونيكوس” مقدما شخصيات تهرب من «تيتوس الرجل ذو اليد المعدنية» بعد أن احتلت الأرض كائنات معدنية تتواصل من خلال الهواتف الذكية لسكان الأرض أو ربما هم أنفسهم سكان الأرض بعد أن انتزعت منهم التكنولوجيا آدميتهم، فيتشكل فضاء المنصة من أربعة مكعبات طويلة تقوم الشخصيات باستخدامها طوال رحلة هروبها، إما كمكان لاختباء أو كالمشايات الرياضية التي تستخدم للركض.. لتظل مصائرهم محاصرة تحت هذا الفضاء المعدني دون خلاص حقيقي لأي منهم، فجميعهم موجودون طوال الوقت على الخشبة يعانون ويتآمرون ضد – ومع - بعضهم البعض لتدور حياتهم في دوائر مغلقة تبدأ من حيث تنتهي. ومن هذا الحصار الدرامي والبصري الذي قدم بنجاح من خلال أربعة مكعبات فقط قدم لنا أيضا المخرج رامي مجدي عرض “سترة من المخملين” حيث قسم فضاء المنصة من خلال المكعبات إلى ثلاثة فضاءات أولها يمين المتفرج «مكتب الموظفة التي تجسد البيروقراطية»، وفي مقابل ذلك وإلي اليسار ترتفع المكعبات لتشكل مصعدا يقف أعلاه «رجل المصعد» الموجود منذ شهور لأن المصعد تعطل به في مقر الهيئة الحكومية، وفي منتصف الخشبة وعلى مستوى أعلى يقف رجل يمثل رأس السلطة/ النظام مؤطرأ رأسه ببرواز كمركز، ليتشكل فضاء العرض من خلال خطاب السلطة البيروقراطية التي تتحكم في مصائر جميع الشخصيات وتحولها إلى جزء منها في الكثير من الأحيان. وعلى النقيض من ذلك الاستخدام الخصب للمكعبات، نجد في عرض “استعد” لشعبان سبيت أن المكعبات صارت عبئا على الخشبة فصارت دوالا مجانية إلى جانب شخصيات العساكر التي تدخل من صالة المتفرجين إلى خشبة المسرح في بداية العرض ثم يظلون في عمق الخشبة دون الاشتراك في أي فعل درامي إلا فيما ندر، ليضفوا مع قطع المكعبات حالة من الشغل المجاني للفضاء المنصي، وقد يشترك في هذا الملمح عرض «فلامنجو» لحنان دحلب التي ظل الديكور لديها في حالة استاتيكية دون تغيير طوال العرض أو كما حدث في عرض «الأستاذ» للمخرج علي سراج الذي استخدامه كسلم فقط.
إن المسرح فن حي يأتي مصدر حياته من اعتماده على الخيال الذي يتشكل من مجموعة الخطابات التي تتجسد على الخشبة، وربما هو على عكس الفيلم السينمائي الذي تؤثر الإمكانيات المادية في نوعية الكاميرات والإضاءة وأماكن التصوير وغيرها بحيث يمكن للمشاهد أن يدرك من أول مشهد في الفيلم انخفاض الجودة التقنية والجمالية لهذه العناصر على عكس المسرح، وربما كان ذلك هو الرهان الحقيقي الذي خاضه المشرفون على مختبر مهرجان كلباء في تحفيز الخيال الحي، وهو ما تحقق فعليا في معظم العروض المشاركة رغم حداثة أعمار معظم المشاركين فيه مثل عرض “الذاكرة والخوف” للمخرج سعيد الهرش عن نص «الملك لير» حيث شغلت الجوقة الفضاء المسرحي بحرفية عالية ودون مبالغة أو ضوضاء بصرية حيث حمل المخرج لهذه الجوقة إلى جانب دور المعلق أو السارد للأحداث أدوارا أخرى، فصارت متعددة الأصوات فتخرج منها البنات الثلاث للير، كذلك كانت الجوقة أيضا مصدر الأصوات الموجودة في خلفية الأحداث من همهمات أو ضربات بالأرجل أو بالاقدام.. فهي الشعب الغاضب من الملك، كما استخدمت المكعبات في الكثير من التشكيلات البصرية مثل مشهد الحريق الذي يشتعل في المدينة بعد تقسيم الملك لثروته حيث تضيء هذه المكعبات من منتصفها باللون الأحمر ويشتعل الفضاء كله في مقابل حكم الملك.
واعتمدت مسرحية «العميان» للمخرج يوسف القصاب على أجساد الممثلين في شغل الفضاء المسرحي حيث قام المخرج (باحترافية عالية) بالتحكم بعدد كبير جدا من الممثلين، مستخدما الإضاءة القاتمة والزرقاء في التأكيد على ظلمة وتيه هؤلاء العميان المحاصرين، وقد كان الممثلون في حالة اندماج تامة أكدت عليها خطوط الحركة الدائرية التي كانوا يسيرون فيها طوال العرض، وهذا الانضباط المسرحي المحترف ربما شابه بعض الزيادات من خلال مشاهد الأداء الحركي التي كانت تقدم لتأكيد محاصرة الموت لهم كرقصة المشانق التي تم تأكيد معناها من قبل عندما وجد أحد العميان زهرة الموت، وكذلك بعدها عندما وجدوا الراهب ميتا، فلغات المسرح التي تقدم من خلال الكلمة والحركة والإيماءة والسينوغرافيا وغيرها، هي عناصر تكمل بعضها البعض ولكنها لا تستخدم لتفسير بعضها؛ فما قيل من خلال النظرات وصوت الأنفاس مثلا يغني عن تفسيره بالكلمات.
ودون ذكر لأسماء الممثلين المشاركين في العروض، فقد كانوا جميعا ذوي مواهب تمثيلية رائعة كما في عرض «التحيات» للمخرج يوسف المطروشي، وعرض «أغنية طائر التم» للمخرج أحمد عبد الله، وعرض «إلى نهاية» للمخرج علي عبد الله، وكذلك كان المخرجون ذوي موهبة مسرحية لا تخطئها عين، وربما احتاجت تلك الطاقات التمثيلية الموجودة في كل العروض المشاركة إلى الكثير من التدريب حتى تستطيع الإمساك بنواصي اللحظات الانفعالية للشخصيات التي تقدمها فنرى الحياة ونفرقها عن الموت ليس من خلال إلقاء الكلمات فقط، ولكن من خلال كل همهمة ونبرة ومن خلال النظرات والأنفاس وحركة الأصابع ورعشة الجسد.
بالتأكيد، أعطى شرط ضرورة الاعتماد على نص عالمي للعروض المشاركة محركا آخر للخيال، فتحولت بعض النصوص إلى مجرد حكايات إطارية انطلق منها المعد إلى حكايته المحلية التي تشغله كما حدث في عرض «71 درجة» الذي تحول لمهاجمة التكنولوجيا التي جعلتنا معدنيي القلوب لا نشارك في الحياة إلا من خلال تصوير ما يحدث حولنا بهواتفنا، وتناقل الأحداث دون انخراط آدمي في الأحداث، وحتى إذا اختلفنا أو اتفقنا مع هذا الطرح فإن المعد والمخرج رأى في تيتوس هذا الوحش المعدني الذي يطاردنا، وعلى الرغم من ذلك فإن محاولة المعد الالتزام بالنص الأصلي جعل العرض ذا بدايتين؛ بداية ميلاد لشخصية «ماركوس» الذي منذ لحظة ميلاده حمله النص تلك الأسئلة الوجودية: من؟ لماذا؟ أين؟ والذي يقود الجموع المتبقية لرحلة هروب عبثية تجعلنا نصل إلى بداية أخرى عندما تتكشف لنا هوية «تيتوس» ونعود للنص الأصلي لشكسبير، وربما هذه الحيرة قد تجلت في أغلب العروض التي فقدت الحرفية الأساسية في عملية الإعداد المسرحي، وهي متى نقوم بالحذف والإضافة؟ ولماذا؟ ولكننا وعلى الرغم من ذلك نرى الكثير من المناطق المضيئة التي تجلت من خلال موهبة صناع العروض، فنرى كيف تشكل الخطابات الاجتماعية العربية العروض التي اعتمدت على نصوص عالمية، ونرى ابنة لير (كوردليا) ممثلة محجبة، أما أختاها فبدون حجاب، ونرى غرناطة في عرض «فلامنجو» فتاة لا تتعدى 15 عاما ببراءة ملامحها تؤكد لنا على تلك النظرة البريئة الصافية التي نرى من خلالها تاريخنا.
في النهاية، فإنني أعد هذه المقالة احتفاء بالشباب الذين شاركوا في المهرجان والذين استطاعوا عبر مهاراتهم الإبداعية – بمساندة إدارة المهرجان – إنتاج عروض مسرحية متميزة.


هبة بركات