ليالي مهرجان المسرح الصحراوي.. تأملات وتساؤلات في رصد الظاهرة

ليالي مهرجان المسرح الصحراوي..  تأملات وتساؤلات في رصد الظاهرة

العدد 593 صدر بتاريخ 7يناير2019

اختتمت فعاليات مهرجان المسرح الصحراوي في دورته الرابعة منذ أيام قليلة بإمارة الشارقة؛ ذلك المهرجان الذي يخطو بخطوات ثابتة راسخة في محاولة من القائمين عليه، لتثبيت شكلا من أشكال الفرجة المسرحية ينطلق ويتأسس على فضاء بديل عن تلك الفضاءات التي ضجت بها مسارحنا التقليدية، وفي مقدمتها المسرح المغلق الذي يطلق عليه العلبة الإيطالية.
فهذا الفضاء البديل يفرض في جوهره شروطا خاصة لمسألة الفرجة والتلقي وتقنيات العرض نفسها، فالعملية تبادلية ما بين المبدع الذي يقدم عمله الفني والجمهور الذي يتلقى تلك التجربة، ومن هنا وجب طرح مجموعة من التأملات والتساؤلات حول ماهية هذا الشكل وآلياته، وهل هو بالفعل مسرح صحراوي أم مسرح في الصحراء أم يتوقف فقط عند حدود الظواهر المسرحية الفرجوية التي راح المنظرون العرب الأوائل يأسسون مسرحنا العربي من خلالها؟
ينبغي التنوية هنا أن ما سأطرحه من تساؤلات وتأملات حول تلك الظاهرة ينطلق بالأساس فقط على ما عاينته رأي العين من خلال الدورة الرابعة للمهرجان؛ إذ لم يتسنَ لي فرصة حضور الثلاث دورات الفائتة، وبالتالي المقال ينحصر فقط على فعاليات الدورة الرابعة وما تم تقديمه فيها من عروض لكل من “الإمارات – مصر – تونس – موريتانيا – عمان”.
البداية مع سؤال الجدوى
إن أول تلك التساؤلات التي تتبادر إلى الذهن للوهلة الأولى لماذا نتكبد عناء الذهاب إلى الصحراء والغوص في رمالها بغرض إقامة عروض مسرحية هناك؟ ففضاء الصحراء فضاء قاسٍ وشاسع له القدرة على بلع التشكيل البصري للعروض فيه مهما كان حجم هذا التشكيل وجودته مقارنة بذلك الامتداد الشاسع للرمال، إذن ما الجدوى من وراء ذلك، وهو أول سؤال طرحته على أحد المنظمين لفعاليات المهرجان، وقد جاء الرد أن فكرة المهرجان سببها أن السلطان بن محمد القاسمي حاكم إمارة الشارقة أراد أن يخرج بالمسرح إلى الناس طالما هم عزفوا عن الذهاب إليه، ولا أخفيكم سرا فجرت إجابته دهشة وتساؤلات أكثر سرعان ما تم الإجابة عليها في رحلة الانتقال من فندق الإقامة إلى مكان إقامة فعاليات المهرجان، فالجزيرة العربية بطبيعة تكوينها الصحراوي يسودها منذ القدم النزعة المحورية التي تتمركز حول مفهوم القبلية وكبيرها الذي تسري كلمته على الجميع، والناس في علاقتهم بالصحراء علاقة وطيدة إذ نشاهد على طول الطريق الكثير من الأسر والشباب الذين يخرجون مع غروب الشمس إلى الصحراء - «البر» كما يسمونه - بهدف المسامرة والترفية والتسلية، ومن هنا كان هدف المهرجان وجدواه هو الوصول إلى هؤلاء الناس في البر وتقديم المسرح لهم. وهذا كان من أنجح الأفكار التي ساعدت على نجاح المهرجان واستمراره حتى الآن، ففي كل ليالي العروض كان المسرح يضج بالمئات والمئات من الجمهور - من مختلف الجنسيات - الذي حضر إلى الصحراء لمتابعة ليالي المهرجان حتى إن الكثيرين لم يجدوا مكانا لهم فيظلون واقفين، وهذه النقطة تحديدا فرضت شروطا معينة لشكل الظاهرة ونسق معمارها سنتطرق لها عند حديثنا عن مفهوم التلقي وشكله.
مسرح أم تظاهرة فنية
اختلف النقاد والمهتمون بالشأن المسرحي في المسامرة الفكرية التي صاحبت فعاليات المهرجان حول تسمية هذا النوع «بالمسرح الصحراوي» أم «بمسرح في الصحراء»، ولم ينتهِ الجدل حول حسم قضية المصطلح والتسمية الصحيحة فكل فريق له وجهة نظره المعتبرة التي يدحض بها رأي الآخر، وربما حالة الجدل التي لم تحسم بعد هي أروع ما يخلّفه المسرح بشكل عام وهذه التظاهرة على وجه الخصوص إذ يتيح الأمر للكثير من الباحثين لمحاولة سبر أغوار مباحث جديدة غير تقليدية تقوم في أساسها على انتفاء اليقين المطلق بتحديد وتأطير معين لهذا النوع، وإن كنت وبشكل شخصي أميل إلى تسميته بالظاهرة الفنية وليست المسرحية فقط.
فالمهرجان وفعالياته أشبه ما يكون بالاحتفاليات المختلفة في الوطن العربي كالتعازي الشيعية والموالد والمواكب الصوفية في مصر وفرجة عيساوة في المغرب العربي.. وهكذا، حيث يمثل المسرح إحدى فقرات هذه التظاهرة الفنية إلى جانب تقديم فقرات أخرى بالتوازي مع عروض المسرح كالمسابقات، المسامرات الفنية، الفقرات الفولكلورية، الشواء في الصحراء والخيم الفندقية التي يقيم بها الناس إلى آخره من تلك الفعاليات، وهنا يمثل المسرح إحدى زوايا ذلك الكرنفال الكبير وليس العكس، فقدوم الناس ليس من أجل المسرح وفقط، وإنما من أجل الاحتفال في الصحراء ومشاهدة الكثير من الفقرات وبالتالي “التظاهرة الفنية” - في ظني - هي أقرب المسميات لمثل هذه الفعاليات.

الشكل والموضوع
فرض هذا الكرنفال والحضور الضخم له شكلا معينا في معمار المسرح الذي أسقطنا جمعيا في فخ العلبة الإيطالية ودفعنا إلى تأسيس مسرح بشروط تقليدية مع فضاء بديل أو مفتوح.
فهذا الكم الهائل من الحضور لم يجدِ معه سوى إنشاء مدرج خشبي في الصحراء لاحتواء الناس ومحاولة استيعابهم قدر الإمكان لضمان تحقيق زوايا رؤية مناسبة للعروض، وبالتالي بتنا أمام شكل تقليدي للعلبة الإيطالية من جديد، ولكن هذه المرة لا يحده جدران (مدرجات للجمهور تتلقى من زاوية واحدة أمام فضاء صحراوي شاسع من أمامها يمثل خشبة المسرح، وعلى جانبي المدرجات أبراج خشبية شاهقة مثبت عليها الإضاءة الساقطة على مساحات التشخيص).
إذن هذا الوصف المعماري يردنا مرة أخرى إلى تساؤل «مسرح صحراوي أو مسرح في الصحراء»، بل إن العروض المشاركة في المهرجان نفسه قد ساعدت على ترسيخ مفهوم العلبة الإيطالي، وإنه مسرح في الصحراء وليس العكس، فنجد أن العرض المسرحي “عنترة” على سبيل المثال من إعداد وإخراج جمال ياقوت قد وظف الإضاءة في بعض مناطق العرض لتعمل بشكل تأطيري حاد على هيئة مربع أو مستطيل في مساحات التشخيص أمام الخيام ليتحرك فيها الممثلون، على العكس تماما من مفهوم التمازج مع رمال الصحراء والاندماج في سعتها بل بات العرض أقرب للبؤر الضوئية الحادة التأطير، التي ننطلق منها إلى أخرى حسب مساحات التشخيص، ولم ينفلت من هذا التأطير في بعض مراحل العرض إلا في مشهد حلم عنترة بحبيبته عبلة ونيل حريته واعتراف شداد به حيث ظهرت مستويات مختلفة في توزيع الممثلين ما بين الارتفاع على التلال والانخفاض في تأكيد رؤية المخرج حول صراع عنترة المستحيل في محاولة نيل حبيبته وحريته وامتلاك الاعتراف به، وهو ما نجحت فيه الإضاءة أيضا وخصوصا التي ارتسمت في خلفية التلال لتؤكد على مشهد شاعرية الحلم وسريانه في عقل عنترة وحده.
كذلك تعاملت بقية العروض المشاركة بنفس المنطق في تأسيس علاقة العرض المسرحي بالمتفرجين، وإن فلتت من فخ تأطير الإضاءة إلا أنها أيضا جعلت الممثلين يتمركزون في بؤر تشخيص محددة لم تتجاوز الخيام المقامة في مساحات التشخيص ولم يتغير فقط سوى موقع إقامة هذه الخيام سواء بالقرب أو البعد أو وضعها على تلة من التلال ولا أكثر من ذلك، ومع ذلك كانت مسافة الجمهور نفسه من مساحات التشخيص في كل العروض تقريبا ثابتة وبعيدة تماما عن معرفة تفاصيل الممثلين أو تفاصيل ملابسهم والبيئة التي يقدمونها، وبات المنظر فقط أشبه بالبانوراما الاستعراضية التي نرى فيها الكتل البصرية وهي تتحرك وتتشكل فقط في الفضاء سواء بالكورس الذي يستخدم الجمال والأحصنة أو بالممثلين أبطال العرض، وربما هذا أيضا يتنافى مع مفهوم مركزية القبيلة في علاقتها بالصحراء وبخاصة في العروض التراثية أو التي ترتكز على حكايات تراثية قديمة مثل ما تم تقديمه من كل الدول المشاركة.
أيضا غلب على معظم عروض المهرجان مفهوم الصنعة الفنية أمام تراجع ملحوظ لإفراد مساحة للطبيعة في الأداء، فنجد مثلا اللجوء للمنطقة الآمنة في استخدام تقنية «البلاي باك» في الصوت أو الحوار المسجل مسبقا ليتم تشغيله أثناء العرض مع محاولة الممثلين تحقيق التزامن ما بين أدائهم الجسماني والحوار المسجل وهو ما لجأت إليه عروض (الإمارات – مصر – تونس)، أمام تراجع ملحوظ في استخدام الحوار الحي المباشر أمام الجمهور الذي لجأت إليه كل من (موريتانيا – عمان)، وعلى الرغم من المشكلات الكثيرة في تقنية الحوار الحي خصوصا مع انقطاع الصوت المتكرر أو تأثر الميكروفونات بالرياح، فإنها تظل الأكثر تلاحما وواقعية بالبيئة عن تقنية البلاي باك، الأمر الذي يضعنا بشكل كبير داخل مسرح وليس داخل الصحراء بكل عنفها وقسوتها وجمالها.
وقد يمتد هذا الخط على استقامته لينتقل التساؤل من نسق المعمار إلى نسق النص نفسه وطبيعة الموضوعات الذي يتم تناولها بداخل هذا الفضاء، وهذا هو بُعد آخر كان مثارا للنقاش في المسامرات الفكرية حيث تم تقديم أكثر من ورقة بحثية تحاول تأصيل هذا النوع من المسرح عند العرب عبر الارتكاز على الموضوع التراثي الذي يتم تقديمه، الأمر الذي دفعني للاشتباك في النقاش، بالتأكيد إن نوعية العروض التي تقدم حتى الآن من موضوعات تراثية بالأساس تنبثق من بيئة كل دولة تشارك في المهرجان حيث يأتي المبدعون محملين بتراثهم وثقافهم البيئية والصحراوية ليستعرضوا لنا المفاهيم والقيم والموضوعات التي تطرحها طبيعة هذه الدولة عن غيرها؛ إلا أننا وفي كل هذا نطير فقط بجناح واحد ألا وهو جناح التراث وقصص الأولين السابقين الذين أحيوا ليالي الصحراء لنعيد إنتاجها في بيئة أو ظروف مغايرة، وهذا لا خلاف عليه ولا انتقاد بل من الأهمية بمكان في ربط الجمهور بالبيئة وبالعادات والتقاليد التراثية التي ترسخ لديهم قيم الانتماء وحب الوطن، ولكن أين موقعنا نحن وموقع المبدعين الذين يشاركون في التظاهرة الفنية من اللحظة الآنية التي يطرحون من خلالها رؤاهم الفنية وخصوصا أن المهرجان ومسامرته الفكرية تنبني على عنوان “المسرح الصحراوي بين الأصالة والمعاصرة”.
إذن، أين نحن الآن من مفهوم المعاصرة ما زالنا نقدم موضوعات تراثية فقط كنوع من الاحتفاء قد تخلو حتى من المعاصرة في الطرح في كثير من الأحيان، في ظل إهمال كبير للتحليق أيضا بمفهوم المعاصرة، وربما أولى خطوات إنجاح المعاصرة تتأسس من النص المقدم، فموضوعات الصحراء كما غيرها اختلفت تماما عن السائد قديما، لقد غزت الكهرباء الصحراء بدلا من النيران وباتت الأسر تخرج إلى الصحراء بالسيارات بدلا من الجمل والحصان وتخيم في أتوبيسات أشبه بالكرفانات بدلا من الخيمة والهودج، والواقع على الطريق ما بين الفندق حتى مكان إقامة الفعاليات خير شاهد على ذلك، وبالتالي إذا أردنا الخروج الآن إلى الصحراء يجب أن نخرج بشروط الواقع الجديد، وهذا لا ينفي بالطبع إعادة إحياء القديم والاحتفاء به كما ذكرت ولكن لا أن نطير بجناح الأصالة فقط ونهمل جناح المعاصرة.
ومن هذا المنطلق ستطفو موضوعات جديدة على سطح الوعي تكون صالحة للتقديم وللتأمل بل إن بعض الموضوعات التي كُتبت قديما قد تكون صالحة للتقديم برؤى جديدة وتكون الصحراء هي الحل الأمثل لتقديمها كنص “سكة السلامة” لسعد الدين وهبة على سبيل المثال لا الحصر، فموضوع النص كله يدور حول ذلك الأتوبيس الذي تاه في صحراء سيناء وتعطل بركابه وباتوا يهيمون على وجوههم هناك. وبالتالي استغلال فضاء الصحراء في مثل هذه الموضوعات قد يؤسس لظواهر جديدة أيضا تنطلق في مشروعيتها من النص الدرامي ذاته إلى أفق أرحب وأوسع لتخلق حالات الجدل المحمود الذي يدفعنا على الدوام إلى التأمل والتساؤل.
وأخيرا، مثل هذه التظاهرة الفنية وغيرها أشبه ما تكون بالاحتفالات الدينية اليونانية القديمة التي كانت تقام للإلة دينيسيوس للاحتفاء به، والتي من خلالها وُلدت الدراما وولد المسرح، فهل يتكرر الأمر - مع فارق الزمن - ليتوالد لدينا مسرح عربي خالص نفتخر بريادته؟ أظن أن الإجابة على هذا التساؤل تعتمد على عامل الزمن وعلى قدرة مثل هذه الفعاليات والمهرجانات على التطور والتجدد والطيران بجناحي الأصالة والمعاصرة معا. وسواء اتفقنا أو اختلفنا حول مفهوم (مسرح أم تظاهرة - فضاء تقليدي أم بديل)، إلا أن المهرجان بالفعل قد حقق غايته وذهب إلى الناس في أماكن تجمعاتهم ومسامرتهم وباتوا يسمعون عنه ويعرفون الفن من خلاله وهو أمر لو تعلمون نبيل وعظيم.
 

 


باسم عادل شعبان