محاكمة واد من جنوة.. انحياز النص على حساب العرض

محاكمة واد من جنوة..  انحياز النص على حساب العرض

العدد 572 صدر بتاريخ 13أغسطس2018

يقول الفيلسوف والمنظر الأدبي الروسي (السوفياتي) ميخائيل باختين في كتابه عن الكرنفالات والدراما الساخرة في العصور الوسطى: «نستطيع القول بأن الثقافة الكرنفالية الهزلية في العصر الوسيط التي جذبتها الاحتفالات، كانت تمثل (مكونا هاما) في الحياة اليومية، بما يعني دراما ساخرة تماثل وتعارض (الثلاثية التراجيدية) للمذهب والطقس المسيحي الرئيسيين، ومثل الدراما الهجائية الساخرة في العصر القديم، فإن الثقافة الكرنفالية الهزلية بالعصر الوسيط كانت إلى حد كبير بمثابة دراما الحياة الجسدية (تزاوج، ولادة، نمو، أكل، شرب، تغوط وتبول)، ولكن بالطبع ليست تلك الخاصة بجسد الفرد ولا بالحياة المادية الفردية، وإنما بجسد النوع البشري الشعبي الكبير، هذا الذي لم تكن الحياة والموت بالنسبة له بداية ونهاية مطلقة، وإنما فقط طوران اثنان في نمو وتجديد غير منقطعين، إن الجسد الكبير لهذه الدراما الساخرة لا ينفصل عن العالم، إنه مشبع بعناصر كونية وهو ينصهر مع الأرض التي تمتص وتلد»، فعلى الرغم من مرور مئات الأعوام على ذلك الشكل الكرنفالي الطقسي الذي ازدهر في العصر الوسيط، فإننا قد نجد المفكر والمسرحي الإيطالي «داريو فو» - الذي ذاع صيته في خمسينات القرن الـ20 - قد استخدمه في الكثير من أعماله المسرحية التي اتخذت من الطابع الكرنفالي منهجا لها، وذلك لتكون غطاء لنقد المؤسسة الرأسمالية المتمثلة في الدول الكبرى الحاكمة.
من خلال طرح أفكاره على هيئة مسرح ارتجالي يمتزج بين الكرنفال وكوميديا ديلارتي وكوميديا الإسفالات الجروتسكية، استطاع «داريو فو» تقديم الكثير من الحوادث التاريخية من خلال منظوره الساخر الخاص، الذي لا يتشابه مع أي منظور آخر، وذلك ليقدم الكثير من الأعمال المسرحية التي استندت على حدث تاريخي مثل «موت فوضوي صدفة» و«إليزابيث: امرأة عن طريق الصدفة» و«إيزابيلا وثلاثة مراكب ومشعوذ» التي نحن بصدد الحديث عنها.
فأما عن مسرحية «إيزابيلا وثلاثة مراكب ومشعوذ» التي يدور خطها الدرامي الأساسي حول شخصية البحار الإيطالي «كريستوفر كولومبوس» وعلاقته «بالملكة إيزابيلا» ملكة البرتغال حين ذاك، ومشروعه بالوصول إلى الهند عن طريق الغرب ومطامع الملك فريناندو الاستعمارية الكارهة لكل ما هو شرقي، فهي مسرحية قد قدمها داريو فو عام 1971 على مسرح البلدية بباريس وقد لاقت نجاحا شديدا وقتها، فذلك النجاح هو ما قد جعل نص هذا العرض هو واحد من أصعب الاختيارات التي يمكن أن يختارها مخرج ليقدمه ثانية على خشبة المسرح، وذلك التحدي هو ما قد حاول أن يخوضه المخرج المسرحي «أحمد عبد الجليل» هو وفرقته «قصر ثقافة دمنهور» من خلال ذلك النص ولكن هذه المرة مع دراماتورج «د. سيد الإمام» وذلك لتقدم ضمن فعاليات «المهرجان القومي للمسرح المصري» في دورته الـ11 ولكن تحت اسم «محاكمة واد من جنوة».
فعلى مستوى نص عرض «محاكمة واد من جنوة» فقد حاول «الإمام» من خلال نصه المعاصر بأن يُبقي على مجموعة من الأولويات التي قد نجدها على مستوى نص عرض «داريو فو» ولكن ليس بكل تلك الأهمية المطروحة عند الإمام، فنجد - على سبيل المثال - طوال أحداث العرض يتم الحديث عما تبقى من حضارة أندلسية إسلامية سابقة وذلك مع استمرارية ذكر نجاحات الحكم الإسلامي، التي على الرغم من ذلك النجاح فإنها تهدمت بعد تدخل رجال الدين في الشؤون الداخلية للدولة، وذلك لنجد أيضا أن العرض قد حاول بشتى الطرق أن يتجنب ذكر الديانة المسيحية بشكل مباشر - على مستوى النص وحتى على المستوى البصري - لدرجة تصل إلى ذكر الأديرة والكنائس بلفظة «معابد» وذلك على الرغم من أنه من المعروف أن العصر الذي تدور به الأحداث هو عصر «الهيمنة الباباوية الكاثوليكية».
اعتمد «داريو فو» في بنائه لنص عرضه على مستويين دراميين أساسيين يتم التنقل بينهما من خلال تقنية «الميتاتياترو» وذلك ليقدم نقدا ساخرا للسلطة في كل أشكالها - وعلى رأسها السلطة الدينية - والمتمثلة في رجال الدين، بالإضافة إلى نقد السلطة السياسية الحاكمة المتمثلة في الملك فرناندو، وذلك عن طريق استخدام تقنيات الكرنفال الموديفالي التي تعتمد على مستوى النص باستخدام كلمات وصيحات تتسم بالبذاءة بقدر كبير، وصم الشخصيات التي تنتمي إلى الطبقة الحاكمة بقدر كبير من الغباء وجعل الشخصيات التي تنتمي إلى طبقة العامة أكثر ذكاء، وذلك بالإضافة إلى الاعتماد على الجسد الجروتسكي الذي يعتمد على ملابس منمطة تجعل الشخصيات أقرب إلى شخصيات كوميديا ديلارتي، وهذا ما قد حاول «الإمام» تخفيفه في بعض الأحيان وذلك من خلال حذف بعض المشاهد والألفاظ، لتتماشى من السياق العام للمسرح المصري، لكنه أبقى على فكرة السعي الرأسمالي الدائم لبعض الدول في السيطرة على موارد بعض الدول الأخرى، فمن خلال تلك الحذوفات والإضافات نستطيع أن نحدد أولويات وآيديولوجيات الدراماتورج بشكل واضح وبيِّن، فجميعنا يعرف بأن كافة نصوص «داريو فو» الموثقة بين أيدينا اليوم ما هي إلا نتاج كتابة زوجته «فرانكا راما» لإحدى ليالي تلك العروض، وذلك لأن مسرح «داريو فو» في أساسه يعتمد على الارتجال والتطوير اليومي له ولأفراد فرقته المسرحية، وذلك ما نفتقده في عرض «محاكمة واد من جنوة» الذي يتسم بحالة من حالات الانضباط «المُخل» في بعض الأحيان، فإن نص «سيد الإمام» قد نجده جيدا إلى حد ما على مستوى الدراما، إلا أنه يتسم بحالة من حالات المباشرة والانحياز في بعض الأحيان.
أما على المستوى البصري للعرض؛ فبإضاءة وديكور ثابتين معظم الأحداث وبأداء تمثيلي يتنوع بين ما هو مونوتوني وما هو متقن بعض الشيء ومن خلال أغنيات وأشعار مقحمة في بعض الأحيان، قد حاول عبد الجليل أن يُقدم ما كتبه سيد الإمام بشكل إخراجي أقرب إلى كونه مترجما للنص من كونه مفسرا ومبدعا للأحداث، فعلى الرغم من أن العرض يتسم بقدر كبير من الانضباط، فإنه أصبح انضباطا مخلا للفكرة الكرنفالية في بعض الأحيان التي تعتمد على كسر الإيهام والاعتماد على الارتجال في الكثير من المواقف، فطوال الأحداث نجد أنفسنا أمام خطوط حركة وأفعال جسدية تتسم بقدر كبير من الكلاسيكية التي تبتعد عن التجريب والتحرر، إلا أنه قد نجح في الكثير من الأحيان في خلق كوميديا تتماشى مع الشكل الأساسي للعرض.
فعرض «محاكمة واد من جنوة» هو عرض يتسم بحالة من حالات انحياز النص في طرح مجموعة من الأفكار والآيديولوجيات، وذلك على حساب العرض الذي على الرغم من محاولة خلق حلول بصرية، فإنها بقيت في طور المحاولة طوال الأحداث.


رامز عماد