منيرة المهدية وحفلاتها الغنائية

منيرة المهدية وحفلاتها الغنائية

العدد 742 صدر بتاريخ 15نوفمبر2021

في أوائل 1930 أعادت منيرة المهدية عرض مسرحيتها «كليوباترا ومارك أنطوان»؛ ولكنها سقطت على خشبة المسرح بسبب الإعياء الشديد. وبعد عدة أسابيع استعادت صحتها؛ ولكنها لم تعد للمسرح، بل كونت تختاً موسيقياً، وافتتحت لها صالة غناء. وظلت منيرة تغني طوال عام ونصف العام دون أن تقترب من المسرح، وربما لو اطلعنا على إعلان لها نشرته جريدة «المقطم» في يناير 1932، سنقف عما تقدمه منيرة في صالتها في هذه الفترة، فالإعلان يقول:
«سهرات رمضان الراقية بصالة السيدة منيرة المهدية ابتداء من اليوم والأيام التالية في أرقى صالة يومياً. كبار الطبقات المعروفة تسمع الطرب على تخت آلات مكون من فطاحل الموسيقيين ورجال الفن على رأسهم ملكة الطرب والإنشاد «السيدة منيرة المهدية»، حيث تشجيكم بكل مطرب ومبدع من الأدوار الجديدة والطقاطيق الخلابة والقصائد المشجية وتقدم برنامج خاص لهذه الحفلات: المطرب المعروف الأستاذ «إبراهيم حمودة» والمطرب المبدع الأستاذ «محمد الصغير». منولوجات عصرية من المنولوجست «عبد العزيز». منولوجات فكاهية من البرابرة الثلاثة. رقص شرقي بديع رقص سوداني، مفاجآت مدهشة. وبمناسبة شهر رمضان المبارك قررت إدارة الصالة إقامة حفلة سواريه خاصة للسيدات فقط كل يوم أربعاء الساعة 9 ونصف».
ترحيب تونسي
هذا هو نشاط منيرة الغنائي في هذه الفترة، وهذا هو فنها الذي قررت أن تقدمه في رحلة فنية إلى بلاد المغرب العربي عام 1932 - وبعد انتهاء رحلة فاطمة رشدي الأولى – وفي نهاية يوليو نقلت لنا مجلة «الصباح» ترحيب الصحافة التونسية بمنيرة؛ حيث قالت جريدة «الزمان»: وصلت إلى تونس فرقة ملكة الطرب في مصر والشرق السيدة منيرة المهدية، وهي أكبر فرقة للطرب في مصر. حازت رضاء جميع الشعوب وسائر الطبقات في الأقطار الشرقية، ونالت أعظم الدبلومات والمداليات والنياشين من حكومة مصر وحكومات الشرق والمعارض الفنية والأوروبية. تطرب الشعب التونسي الكريم بأرقى الأغاني العربية وأشجاها بصوتها الملائكي الحنون. ومعها أشهر رجال فن الموسيقى في مصر. فأهلاً وسهلاً بملكة الطرب وعلى الرحب والسعة أيها الفنانون المبدعون.
وقالت جريدة «النديم»: وصلت تونس صباح الأربعاء كبيرة مطربات مصر وبلبلها الصداح السيدة «منيرة المهدية» الذائعة الصيت في عالم الإنشاد والأغاني. فسرّ مقدمها التونسيين وبات الكل في انتظار أول حفلاتها بشوق زائد. والنديم يرحب بسلطانة الطرب وأعضاء جوقتها ضيوف تونس الكرام مؤملاً لهم إقامة طيبة وإقبالاً عظيماً. وقالت جريدة «لسان الشعب»: لسان الشعب يرحب بهذه الفرقة سلفاً ويزف هذه البشرى إلى محبي الأغاني وعشاق الطرب ولا شك أن الإقبال سيكون عظيماً جداً خصوصاً والفرقة مكونة من أمهر رجال الفن في الشرق وشهرة السيدة منيرة كافية لجعل الناس يتسابقون لاقتناء التذاكر.
الحفلة الأولى
قام «محمد المرساوي» - مراسل مجلة «الصباح» في تونس – بتغطية شاملة لقدوم منيرة لأول مرة إلى تونس حتى إقامة أولى حفلاتها. ونشرت المجلة تقريره هذا في أوائل أغسطس، ومن خلاله علمنا أن منيرة نجحت في حفلاتها في ليبيا، وانتقلت منها إلى تونس بصحبة تختها، ونزلت بأوتيل «ماجستيك». وعند وصولها توافد كبار الأدباء والفنانين والأعيان للترحيب بها، فقالت: إنها مسرورة جداً مما لقيته من إكرام أعيان التونسيين لها، وكم كانت تتمنى زيارة تونس من سنين حتى سمح لها الحظ السعيد بهذه الزيارة. وكان أعضاء الوفد التونسي بمؤتمر الموسيقى العربية في مقدمة زائريها. وفي ليلة المولد النبوي دعيت السيدة منيرة لزيارة موكب المولد الذي يحضره سمو باي تونس المعظم، وبعد مشاهدتها الزينات والمهرجان العظيم دعيت لمحل السيد نائب شركة «بيضافون»، الذي أقام لها بمحله حفلة شاي وحلويات تونسية كانت على غاية الذوق. وقد أحضر لها الموسيقى «الناصرية» التي عزفت السلام المصري والسلام التونسي وعدة ألحان فنية جميلة إلى ساعة متأخرة من الليل.
وعن حفلات منيرة، قال المراسل: «وبدأت ملكة الطرب حفلاتها الغنائية بتونس على مسرح «المونديال» المتسع، وهو من أكبر مسارح تونس كما أنه أجملها وفيه كل أسباب الراحة من مقاعد مريحة ومراوح كهربائية كبيرة متعددة وآلة للهواء الصناعي على أحدث أسلوب. وما أن حلّ موعد الحفلة الأولى حتى كنت ترى الشارع غاصاً بالمتوافدين لسماع ملكة الطرب وكلهم مشتاق لرؤيتها. وكانت الصالة ملانة ولم يبق فيها مقعد خال، وحتى معابرها كانت هي الأخرى مزدحمة بالواقفين. ويرجع الفضل في هذا الإقبال لسمعة الست منيرة الفنية المشهود لها بها من الشرق والغرب. وظهرت السيدة منيرة إلى المسرح ببدلة جميلة وعلى صدرها الأوسمة الدولية وصفق لها الحاضرون بخطاب نقتبس منه ما يأتي: «... أقدم إليكم أولى مطربات الشرق وكبيرة فناناته ألا وهي حضرة ملكة الطرب السيدة منيرة المهدية، هذه السيدة التي شرفت بلادنا لاتحاف التونسيين الأكارم بسهرات زاهرة وحفلات فنية حافلة، يسمعهم صوتها الحنون أرقى ما بلغه الفن الشرقي من درجات الإبداع». إلى أن قال: «خصوصاً وأن هذه الوفود الفنية التي تفد على تونس من مصر، وعلى مصر من تونس أشياء من شأنها أن تزيد القطرين الشقيقين تودداً وإخاء لن ينفصما بحول الله أبداً. وأختم هذه الكلمات الوجيزة بالهتاف لحياة الفن العربي وحياة ملكته النابغة السيدة منيرة المهدية، وحياة مصر وحياة تونس وحياة الشرق مهبط العبقرية ومبعث أنوار النبوغ». وقوطع الخطاب غير مرة بالهتاف المرتفع والتصفيق ثم جلست منيرة المهدية وغردت بصوتها الحنون مقاطيع راقت للسامعين الذين أضحوا سكارى بخمرة صوتها الساحر ونبراتها الحلوة إلى الساعة الواحدة صباحاً .... وفي كل ليلة تأتي ملكة الطرب ببرنامج جديد يسر السامعين. وقد أهدت المطربة «رتيبة الشامية» باقة زهر فخمة لملكة الطرب، كما ألقى السميعة عدة باقات من الفل والياسمين والرياحين على الست منيرة إعجاباً بها. وكانت الست منيرة في جلستها على التخت على غاية من الحشمة والوقار والتواضع في تلبية كل اقتراحات السميعة في إعادة أي مقطع، مما جعل الحاضرين معجبين بتربيتها العالية.
ولم تكتف مجلة «الصباح» بتقرير مراسلها في تونس، فوجدناها تنشر خطاباً من أحد أدباء تونس، تحت عنوان «أخبار ملكة الطرب السيدة منيرة المهدية»، وصف فيه حفلات منيرة في تونس، نقتبس منه هذه الفقرات، حيث قال: يعجز اللسان، ويجل الوصف، في الحديث عن الثماني حفلات التي أحيتها السيدة منيرة المهدية ملكة الفن في مدينة تونس الخضراء، فقد أحيت بها نفوس التونسيين الذين تهافتت جموعهم الحاشدة زرافات على مسرح المونديال. وارتفعت أصواتهم في ختام كل مقطع من أغانيها الساحرة بالهتاف والتهليل لها ولمصر وشقيقتها تونس، وهو أقل ما يؤديه التونسيون من واجب التقدير للضيفة العظيمة والفنانة العبقرية. وأينما سرت الآن في أحياء تونس لا تسمع همساً وعلانية غير أحاديث القوم عن السيدة منيرة، التي أصبح اسمها يردده كل لسان في معرض الفخر والإعجاب.
وتحت عنوان «في حلق الوادي»، قال الأديب: وأحيت السيدة العظيمة حفلات ثلاث في مصيف الوادي، وهو يبعد عن تونس 15 كيلو متراً، وقد أصابت الجمعية الرياضية التي اشترت هذه الحفلات الثلاث ربحاً عظيماً وثروة من الإيراد المتجمع من الألوف الحاشدة، التي كان منها من سبق لهم الاستمتاع بصوتها الحنون في تونس، فجاءوا إلى حلق الوادي يتغذون من هذا الصوت الملائكي. وكانت حفلات رسمية بولغ في العناية بها وتنظيمها وحضرها على رأس من حضر حاكم المدينة وعمدتها وقنصل إيطاليا بتونس وأعيان المصيفين وعظمائهم، وكانت الموسيقى تعزف بين فترات الراحة، والزهور تتناثر على المسرح حول السيدة منيرة من ألوف المعجبين بهذا الصوت النادر وباقات الورود تتسابق الوفود والأفراد إلى شرف تقديمها لحضرتها. وبالجملة فرحلة السيدة منيرة إلى تونس كانت من أكبر الدعايات الطيبة البعيدة الأثر لمصر العزيزة في شقيقتها تونس.
وتحت عنوان «تبرعات كريمة»، قال: أبى كرم السيدة الكريمة ألا يضاعف إكرام أهل تونس فتبرعت بإحياء حفلة مجانية لجمعية الطلبة المسلمين بتونس في مساء الخميس 4 أغسطس، وبإحياء حفلة مجانية أخرى لمساعدة الجمعية الخيرية الإسلامية بتونس. وقد قوبل هذا الكرم الحاتمي من جانب التونسيين بما يستحقه من تقدير وإجلال. ومن أزهى حفلات التكريم التي أقيمت لمنيرة حفلة الجمعية الخيرية الإسلامية التي أقيمت لها في مصيف «كرتاج» [قرطاج] الفاخر، وكانت حفلة الشاي أنيقة ألقيت فيها خطب وقصائد لا سبيل إلى حصرها.
وأشارت مجلة «الصباح» إلى وصف هذه الحفلات، قائلة: كان موعد الحفلة التي تبرعت السيدة بإحيائها لمنفعة جمعية إحياء الطلبة في مساء الخميس الماضي بسراي آل محسن، وقد كانت حفلة عظيمة خطب فيها الأستاذ المحامي السيد طاهر خطبة ضافية في تقدير السيدة الفنانة الكبيرة، وهتف الجميع – وكلهم من علية القوم – بحياة القطرين الشقيقين. ونقلت المجلة جزءاً من الوصف المنشور في مجلة «الزمان»، قالت فيه: أحيت السيدة منيرة المهدية ليلة زاهرة بقصر آل محسن العامر تبرعاً منها لفائدة جمعية إحياء الطلبة، وأقامت حفلة أخرى مساء السبت الماضي في مصيف المرسى فلم يخل فيها أي مقعد. وأقيمت للسيدة حفلة تكريم كبيرة في حلق الوادي قدمت لها فيها جملة هدايا ثمينة، وحضرها قائد البلد وحاكمها. ومما يجدر ذكره أن صالات الغناء في تونس أوقفت عملها إكراماً لضيفة تونس ومطربة الشرق السيدة منيرة المهدية. ومن أظرف ما حدث في إحدى الحفلات أن السيدة منيرة كانت تغني أنشودة «أنا فلاحة وأبويا النيل» فصفق الجمهور طويلاً وهتف بحياة مصر والنيل. ثم طلب أن تقول «أنا تونسية» فقالت «أنا تونسية ومجدي أصيل» فدوت في المكان عاصفة من التصفيق والتهليل والهتاف دامت بضع دقائق واستعادها الجمهور هذه القطعة مراراً.
وزادت مجلة «الصباح» من صف حفلات منيرة في صفاقس وسوسة والمرسى، قائلة: أقامت ملكة الطرب السيدة منيرة المهدية حفلتين عظيمتين في مدينة صفاقس في يومي السبت 13 والأحد 14 على مسرح البلدية. وكان المسرح يغص بمئات السامعين من علية القوم في طليعتهم قائد المدينة وحاكمها وصاحب الفضيلة المفتي ووكيل الموظفين والأعيان. وبالجملة اجتمعت المدينة كلها في هذا المسرح للاستمتاع بصوت مطربة مصر الفنانة الكبيرة. وأرسلت الجمعية الخيرية موسيقاها الخاصة بملابسها الرسمية لاستقبال السيدة منيرة عند حضورها بالسلام الملكي، فصفق الجميع وصاحوا هاتفين بحياة مصر وشقيقتها تونس وحياة السيدة منيرة. كما أقامت مطربة الشرق ثلاث حفلات في سوسة مساء 16، 17، 18 وكان الإقبال عليها مدهشاً جداً لم يترك مكاناً خالياً لجالس أو واقف ولم يكن إعجاب أهل سوسة بالسيدة الفنانة أقل من إعجاب أهل الحاضرة. وتبرعت السيدة منيرة المهدية بإحياء حفلة ثانية لمنفعة جمعية إحياء الطلبة مساء 20 أغسطس. وقد قابل الجمهور التونسي هذا التبرع من السيدة بما يجدر به من التقدير. فإن هذه ثاني حفلة تتبرع بها السيدة منيرة لهؤلاء الطلبة ليستطيعوا تكملة دروسهم. وقد بلغ مجموع أرباح الجمعية من إيراد الحفلتين 30 ألف فرنك. ويتحدث أهل تونس عن ملكة الطرب بقولهم إن هذه أول مرة تتبرع فيها مطربة وممثلة مصرية بإقامة حفلتين مجانيتين لمثل هذا العمل الخيري.
ونختتم حديثنا عن رحلة منيرة المهدية إلى تونس، برأي تونسي، نشرته مجلة «الصباح» في أواخر سبتمبر 1932 تحت عنوان «رأي في ملكة الطرب السيدة منيرة المهدية»، جاء فيه: «... ومقام السيدة منيرة في عالم الغناء، وهو الأول في الشرق العربي لا سيما في نوع «الأوبرا»، الذي انفردت به السيدة، ولا يمكن لمطربة مهما علا فنها أن تنافس منيرة في الأوبرا. وقد حازت منيرة أوسمة أكبر دول الغرب والشرق. ونذكر أن دولة إيطاليا منحتها وسامها وكلفت قنصلها بالقاهرة فقلّد السيدة منيرة الوسام في موكب رسمي بالقنصلية احتراماً لمكانة السيدة الفنية. ومن نحو أربع سنين رحلت السيدة منيرة لتركيا فلاقت احتفاء من الأتراك يفوق حد الوصف. وقد حضر الغازي مصطفى كمال بنفسه لسماعها بعد أن أمر «عوّاد» الحكومة بالاشتغال مع تختها، وكان فخامة الغازي معجباً بصوتها أثناء الغناء. ولما انتهت تقدمت منيرة للغازي الذي صافحها وقال لها: «إنني وإن أمرت بتغيير موسيقانا الشرقية وجعلها على القواعد الغربية، إلا أنني أعجبت بصوتك وطريقة غنائك فأهنئك»، وهذه أعظم شهادة لمنيرة من أعظم رجل في الشرق والعالم. ومما ذكرته لنا السيدة منيرة أنها في إحدى رحلاتها الأوروبية تراهن اثنان من سامعيها قال أحدهما إنها أوروبية ودليلة على ذلك غناؤها نوع الأوبرا الذي لا تغنيه شرقية، وقال الثاني إنها شرقية مسلمة، فتقدما إليها ليسألاها فأكدت رأي الثاني ولم يقتنع الأول إلا بعد أن أطلعته على جواز سفرها. هذا وقد سمعناها في الليلة الأولى وما يليها فسمعنا الفن الراقي والصوت الحنون والإبداع الفني الخارق والتنقل في النغمات مع المحافظة على الطبع، الأمر الذي لم نسمعه من مطربة أخرى. فمثلاً نغمة «الرصد» التي كانت هي السائدة فيما غنته ملكة الطرب بلبلتها الأولى وأي «رصد» سمعنا في الجواب والقرار، كانت الطبقة تختلف لكن المقام كان «رصداً» في أبدع النغم، وكذلك لياليها وموّالها بلغا من الاتقان الغنائي حداً بعيداً لا يمكن أن يقاس. وفي الواقع أن السيدة منيرة ملكة للفن بحق فإن كل قطعة أنشدتها كانت على درجة عليا من الوزن والفن تنشدها السيدة منيرة في سهولة متلاعبة الطبقات ساحرة سامعيها بصوتها الفريد ونغمها الحنون.


سيد علي إسماعيل