يأكلها والعة.. الحاوي وفن الفرجة

يأكلها والعة..   الحاوي وفن الفرجة

العدد 854 صدر بتاريخ 8يناير2024

من الفنون التي عُرفت باسم صاحبها، وظلت ناقوسًا يدق في وعي الجماعة الشعبية، ويقيم مسرحًا في كل زمان ومكان، فيهوي إليه الناس من كل حدب وصوب؛ يستمعون إليه ويشاهدونه ويأنسون لأدائه، هو فن الحاوي الذي يمثل موروثًا شعبيًا  متفاعلا، لا يندثر ولا تختفي أداؤه، فهو فن الدهشة والإثارة، يحمل إرثا، وشكلا أداءً متميزًا بديمومة الاستمراء، فتتوفر فيه عناصر المسرح الشعبي، فيقوم الحاوي فيه، بدور المخرج والمؤدي، والمنفذ، صانع الحركة، مؤلف النص حسب نوع الجمهور، صامت أو غير صامت، من الشباب أو من كبار السن.
وقد نشأ هذا الفن في العصر المملوكي مع فن «القوما» التي يعني بها المسحراتي، وفن «الكان كان» والمقصود به الحكي «كان يا ما كان»، وثمة فنون أخرى ولعل أقواها هو فن السيرة الشعبية، التي كانت  تُحكى في المقاهي.
بيد أن فن الحاوي يهبط على الجماعة الشعبية أينما ولت وجهها شطرا تجاه أي فن ، فأصحاب هذا الفن هم من يُنشِئون المسرح ويجمعون الجمهور، ويحددون إطار المسرح الشعبي، في شكل أدائه أو مستطيلا أو مربعًا أو دائرة، وغالبًا ما تكون معه طفلة صغيرة تقوم بدور الكورس تردد وراءه ما يقوله من عبارات، ويقوم أحيانا بدور المهرج، والمستعطف، والبطل المغامر المتحدي؛ كي يثير إعجاب الناس، فيستطيع أن يخرج الضحكة ويستلب البكاء في آن واحد بأدائه للنص، الذي يقوم بتأليفه، أو ربما قد ورثه عن آبائه، ويتبلور الأداء في ثلاثة فصول.   

الفصل الأول من الأداء
إن أكثر ما يثير الدهشة، هو ابتلاعه للنار من خلال قطعة قماش معلقة في سيخ حديدي يغمسها  في مادة حارقة مثل البنزين أو الكيروسين، فلما تلتهب ويشتد نارها يقوم بالتهامها وإطفائها دخل فمه (فيأكلها والعة) مردداً:
النار متحرقش مؤمن صلوا على النبي 
إن مال عليك الزمن ميل على دراعك 
ولقمة العيش مش بالساهل
صلوا على النبي ومجد من راعاك 
 ومن يخدم الناس يصير الناس خُدّامه 
وما يلبث أن يجمع نقودًا من العامة، أما المسرح الذي يفضل الحاوي إقامته فهو أمام المقهى، حيث كانت تسمى قديما “بالحاوي” لأنها كانت تحوي التجار والمثقفين، حيث كانت خالصة للتجار، وكانت تسمى (بالبورصة) خوفا من تسميتها القهوة مباشرة؛ حيث كان الأزهر يحرّمها باعتبارها خمرة، حتي صدر حكم بات من الأزهر بأن القهوة حلال، وهذا هو النص: (ولفت رئيس لجنة الفتوى الأسبق بالأزهر، إلى أن الحكم الثابت، هو أن شرب القهوة حلال، ولا شيء فيه، كما أن حاملها أو المحمولة إليه، لا وزر عليهما كما يدَّعي البعض؛ لأنها حلال، وليست خمرًا)، ومن ثم كان المقهى أو القهوة مكانا لتسلية الجماعة الشعبية، يلتف الناس حوله يتسامرون، فكان مسرحهم للتسلية والحكي، كما نشأ فن القراقوزأو الأراجوز.
لكن ثمة فرق بين المسرحين، فالأول يذهب الناس إليه ليشاهدوا الأراجوز، والثاني يأتي إليهم دون موعد فيلتفوا حوله في دهشة، وسرعان ما يدخلون في الحدث طواعية، فيكونوا جزءا من المشهد والأدوار الثانوية والكورس، فالجهد الذي يقوم به الحاوي يستدعي الالتفات والاهتمام.

 الفصل الثاني الجمهور محاكاة والربط بالحبال 
إذا كان الأراجوز يحكي بسخرية، فإن الحاوي يحكي ويمثل ويؤدي ويخرج، ويدخل الجمهور في حلبة المشاهد والمشاهدة، وربما يحاول أحدهم محاكيا ما يقوم به الحاوي من ربط الجسد بحبال قوية الفتل، فلا يستطيع فك نفسه فيكون الجمهور بالضحك أو الاشتراك في الحدث، وهنا باعث غير مباشر لتقييم قوة الحاوي الفولاذية وإثارة الدهشة والتميز في الأداء، وما أن يجرب الجمهور ربط الحاوي نفسه بطريقة محكمة، بنفس الحبال (السلب)
 قائلا: 
 يارب يا ساتر يا فاكك المربوط
يا منقذ يونس من بطن الحوت 
أصلي على الني المختار 
مش هاينفعني لا أهل ولا جار
 فسرعان ما يقوم بنزعها وفكها بطريقة سهلة بعد أن يمثل دور المقيد الذي يعاني فيومئ للجمهور أنه سيفشل، فيشنأ بينه وبين الجمهور سجال حتى يأتي إلى ذروة الفرجة الشعبية، وما إن يستطيع الخروج من الأزمة، حتى يصفق له الجمهور.
الفصل الثالث القفز من بين السكاكين وفي دوائر النار 
أما الفصل الثالث من مسرح الحاوي، فهو القفز من دوائر النار وهي عبارة عن إطارات مغروس بها آلات حادة عبارة عن سكاكين وحولها نيران، ومن ثم تقوم ابنته بربط عينيه بقطعة قماش، فيتأهب الجمهور لحدث جلل،
قائلا:
كل اللي له نبي يصلي عليه 
المسلم يصلي على النبي 
 القبطي يمجد سيده 
هنيالك يا فاعل الخير
فك إيدك وفك لسانك
سمعونا صقفة للنبي

فقد تتسابق الخناجر حول جسده العاري، فتعد مرحلة الموت المحقق أو يلتهم لهب النار جسده، أمران كلاهما مُر، أو أن تكون النار بردًا وسلامًا على جسده إذا نفّذ القفزة بسرعة عندئذ تُسمع صياحات وآهات الجمهور الذي انخرط في المشهد المسرحي وأصبح جزءا منها، وهم جميعًا يصنعون النهاية وإغلاق المشاهد حتى إذا وصلت المسرحية إلى الذروة وأغلقت شرنقتها قفز الحاوي من الإطارات النارية، قام الجمهور بنثر النقود عليه، مكافأة لإمتاعهم ولقدرته الفنية، فهو الذي ينال الجزاء بلجنة الحكام في التوِ واللحظة، ويتميز بهذا الفعل وفي كل مرة يجيد في اللعبة، وهو هنا يقوم بتأكيد الحدث ويؤكد على استمرار الحرفة، وتداولها وعدم اندثارها، فالحاوي أحد حاملي التراث الشعبي فاعلاً مؤدياً، ويتكسب قوت يومه، ولقمة عيشة بالنار المشتعلة (والعة).    


إبراهيم عبد العليم حنفي