«اكتشاف الممثل».. حين تكون الرحلة هي الكنز

«اكتشاف الممثل»..  حين تكون الرحلة هي الكنز

العدد 619 صدر بتاريخ 8يوليو2019

مؤخرا، أهداني الصديق العزيز الدكتور مدحت الكاشف أحدث إصداراته «اكتشاف الممثل». ولأنني أعرف مدحت الكاشف معرفة وطيدة، وأثق في جديته، وتميزه في تخصصه (تدريس علم التمثيل) شرعت على الفور في قراءة كتابه. وكما توقعت! لم يخذلني مدحت، فقد أخذني منذ سطوره الأولى إلى رحلة إمتاع أجمل ما فيها هي الاكتشاف. فإذا بي أقر في نهاية رحلتي معه بأن ذلك الكتاب سفر جديد يضاف إلى ذخائره العلمية عن فن التمثيل ومعناه وعن الممثل وأدواته.
مدحت الكاشف واحد من فريق كبير تزاملنا في المعهد العالي للفنون المسرحية، كان كل منا محددا لهدفه الذي سيسير إليه بجهد يعرف أنه ليس سهلا. فمنا من اختار، ومن أول يوم، أن يكون مخرجا، ومنا من اختار أن يكون ناقدا يضيف إلى تراث النقد العربي، ومنا من اختار أن يصبح معلما يستكمل طريق الآباء في تقديم أجيال من الممثلين والمخرجين والنقاد، يعتمدون العلم أساسا لمهامهم. وكان مدحت من أولئك الذين لم يكتفوا بوظيفة الأستاذ وظل منذ يوم تخرجه الأول عاكفا على البحث غير مكتفٍ بما تحصل عليه، فخرج علينا بالكثير من الدراسات التي أعتبرها إضافات حقيقية للمكتبة المسرحية العربية، ومنها: (اللغة الجسدية للممثل، المسرح والإنسان، البانتوميم - فن الصمت، والوجه والظل في دولة التمثيل).
كتاب الكاشف الأخير (اكتشاف الممثل) سيأخذك في رحلة عبر التاريخ لا بهدف التأريخ في حد ذاته، ولكن إلى إشراكك في حل هذا اللغز الذي لم يتفق العالمون السابقون على تعريف واحد له، وأقصد به لغز فن التمثيل. ورغم ما يمكن أن يعطيه هذا من انطباع بالثقل والدخول في ممرات أكاديمية مظلمة، ستكتشف ومع السطور الأولى للكتاب، بل من مقدمته التمهيدية، أن مدحت الكاشف يمتلك موهبة تحويل الصعب إلى سهل ممتع، فأنت تقرأ وكأنك تجالس الكاشف في جلسة حوارية لا يعوقها مصطلح ولا يفسدها تحذلق أو ادعاء معرفة، بل على العكس ستتخللك معلومات الكتاب ومعها رؤى الكاتب وتفنيداته وشروحاته بسلاسة لا يمتلكها إلا الحكائون العظام.
تتبدى براعة مدحت الكاشف منذ اختياره للعنوان – اكتشاف الممثل – الذي سيكون بمثابة اتفاق بينه وبينك على نهج الرحلة، رحلة الاكتشاف، لتتيقن في نهايته من صحة المقولة الخالدة (الكنز في الرحلة ذاتها)، ومع آخر سطر من بحثه ستكتشف أن (الكشف) أو (الاكتشاف) الذي يعنيه ليس إلا المشاركة في فك طلاسم هذا اللغز. وربما لذلك بدأ مدحت كتابه بمقدمة حشد فيها أقوال ممثلين ومدربي تمثيل ومخرجين، قدامى ومعاصرين، عالميين ومحليين، لتكتشف بنفسك عدم وجود تعريف جامع مانع لهذا الفن. لكن هذه الآراء - وفي الوقت نفسه - تتفق في أن لهذا الفن سحرا خاصا يستحق أن نبذل جهدا في فهمه، ومن ثم في ضرورة خروج هذا الكتاب إلى النور.
المتعة بوابة المعرفة
يقول مدحت الكاشف في مقدمته: «من خلال تجاربي في تدريس التمثيل بالمعهد العالي للفنون المسرحية، وتدريب الممثلين الهواة في ورش واستوديوهات متعددة، وكذلك الدورات المتخصصة في تدريب الممثل، وجدت شغفا من قبل المتدربين – على اختلاف خبراتهم التمثيلية – لممارسة التدريبات بمنتهى الطاقة والحيوية والتلقائية، مما يعني أن التدريب – في حد ذاته – يمثل متعة للممثل لا تقل عن متعة الأداء أمام المتفرجين، كما يشكل من جانب آخر متعة (الاكتشاف) للمدرب والممثل على حد سواء».
ويؤكد الكاشف على أن التدريب الحقيقي (تدريب الممثل) لا يستهدف أبدا اكتساب مهارات بعينها، ولا يتطلب من الممثل أن يدخر مجموعة من الحيل التي قد يحتاج إليها في (جراب) خاص يحمله على كتفه ويستخرج منه ما يعينه على أداء شخصية ما، بل إن التدريب هو «الباب الملكي نحو الاكتشاف، (اكتشاف الممثل) لما هو بداخله من مهارات وإمكانيات كان يجهلها، أو ربما لم يعرف كيف يمسك بتلابيبها، أو أنه لم يختبرها من قبل، الأمر الذي يجعل من التدريب فرصة سانحة لتنظيم أفكار وتأملات الممثل حول كنه التمثيل ومتطلباته. فالتدريب هو بمثابة رحلة للكشف عن عوائقه وما يعترض تداعيات الأداء عنده، لينطلق إلى اكتشاف طاقات لا نهائية للتعبير».
في البدء كان الفهم
وكأي رحلة يشرع قائدها في وضع خطة السير، سيبدأ الكاشف من السؤال الأزلي (ما التمثيل؟) عارجا على آراء عدة في تعريفه، مفندا وشارحا هذه الآراء، لا بهدف نفيها، بل على العكس بهدف التأكيد على أن جميعها صحيح كل في سياقه. ومنها سيدخل إلى التاريخ يمر عليه مرور العارف الذي يختار ما يخدم هدفه، لا مرور المؤرخ المتحفي الذي يسرد وقائع لا يقرأ دلالاتها. وهو في كل ذلك يحقق مقولة المخرج الفرنسي «جاك لاسال» الذي استشهد به في أحد فواصل كتابه «هناك فرق بين الأستاذ الذي ينقل المعارف والمعلم الذي ينقل الشك، القلق، والاستفادة الجيدة من ذلك القلق». ففي رحلتك مع الكتاب ستعرف حقائق عن أشياء كنت تعدها من المسلمات، فإذا بالكتاب يكشف لك ما هو أعمق مما كنت تعرفه، ويشكك في تلك المسلمات، مستهدفا أن تستزيد بنفسك. بل إنك ستقرأ عناوين ربما كنت تظن أنها من البديهيات، فإذا بك تعرف عنها جديدا كان خافيا عليك وربما هادما لما كنت تظنه الحقيقة. ستقرأ مثلا (فن الممثل تعليم أم اكتشاف؟) وستقرأ (الموهبة.. ما كنهها؟) وستقرأ (التمثيل مهنة أم حرفة؟) وستقرأ (التقنية وعلاقتها بالممثل) و... و... لتعود من رحلتك مع الكتاب محملا بأفكار جديدة ومستمتعا بما حصلت عليه من (اكتشاف).
بقي أن أشير إلى أن كتاب «اكتشاف الممثل» الذي هو من إصدارات الهيئة العامة للكتاب، ويباع في كل منافذها، هو ضرورة لكل ممثل (شابا كان أم كهلا، في بداية الطريق أم في أوج شهرته) بل هو ضرورة لكل من له علاقة بفنون التمثيل (مسرحي أو سينمائي) مخرجا كان أو ناقدا أو معلما.


محمد الروبي