الغرف الصغيرة.. أزمة نفسية ذات أبعاد إنسانية

الغرف الصغيرة.. أزمة نفسية ذات أبعاد إنسانية

العدد 567 صدر بتاريخ 9يوليو2018

كثيرا ما يبحث المرء بذاته عن نقاط قواه، تلك القوى التي تجعله يغالب ضعفه ليُثبت لذاته وللمجتمع أنه قادر على الفعل، قادر على رسم طريقه بصورة مختلفة عن ذلك الطريق المجبر عليه، فيشعر كما لو كان دمية ماريونت قررت أن تقتطع خيوطها وتتحرر بحثا عن حياة جديدة لا يجبرها فيها أحد على أي حركة أو فعل، فهو يصنع عالما لذاته وبذاته دون النظر ما إذا كانت هذه القرارات صائبة أم خاطئة، وهل ستتسبب في أذى شخص آخر؛ لا يري شيئا سوى التحرر حيث يكتفي بأنه استطاع التحرر من تلك القيود المجتمعية.. قد تصبح رغباته المكبوتة هي المحرك وربما الحب، وسواء كان الدافع حبا أم رغبة فقطعا سيطرح السؤال ذاته: ماذا لو كانت هذه التجربة مُعادية للمجتمع ولنظامه السائد؟ هل سيستطيع التحرر أم سيظل عالقا بهذا الألم خوفا من محركه الأقوى؟
هذا ما جسده الكاتب السوري وائل قدور بنص «الغرف الصغيرة» مخاطبا مشاعر وعواطف المتلقي من خلال محاكاة لواقع أربع شخصيات، هم: «صبا» و«عمار» و«حنان» و«سعد»، الذين تتشابك قصصهم كخيوط العنكبوت، قصص تدور أحداثها بداخل غرف صغيرة، وخلف أبواب تلك الغرف المغلقة مزيج بين حالات الحب والرغبة والاحتياج حينا، وحينا مزيج من الألم والرعب والخوف من بطش الآخر الذي يمارس سلطته على من هو أضعف منه ليرسم له خطاه وكأنه لاعب دُمى يحرك عروسته الماريونت كما يريد فحسب، وبين تلك المشاعر المختلطة والمشتبكة يرصد وائل قدور إحاسيس ودوافع هذه الشخصيات لننظر بداخلهم ونرى المبررات والدوافع لأفعالهم، فقد صنع قدور نصا مسرحيا مُحكما تغمره المشاعر الإنسانية، فنحن بصدد أربع شخصيات لكل منهم أبعاد نفسية واجتماعية شكلت أفعالهم وجعلت منهم ضحايا وأبرياء في الوقت ذاته، بحيث لن يجد المتلقي إجابة لسؤال ولو قرأ النص عشرات المرات، فقدور يزج المتلقي بعمق داخل الأحداث من البداية وإلى أن تنتهي فلا يدري ما إذا كان عليه التعاطف معهم وخلق أعذار لما ارتكبوه من إثم أم أنه يتمنى لو أنهم لقوا حتفهم جميعا! فهم أبرياء ومذنبون في آنٍ واحد!
يخفق قلب المتلقي حتما وهو يستمع إلى دقات عقارب الساعة التي تنم عن مرور الوقت والأيام بفتور كما استخدمها المخرج حسن الجريتلي بالعرض المسرحي “الغرف الصغيرة”، إنتاج فرقة الورشة وتمثيل عبير علي، وأحمد شكري وداليا الجندي وسيف الأسواني، وذلك ضمن إعداد للهجة المصرية قام به شادي عاطف، ليصبح العرض أقرب لواقع المجتمع المصري ومرآة تعكس المجتمع، وهو التكنيك نفسه الذي استخدمه وائل قدور عند كتابة النص فقد كتبه باللغة السورية الدارجة ليجسد الواقع السوري، ومن ثم يمكننا القول إن أزمة النص هي في الواقع أزمة المجتمعات الشرقية ككل - فقد تتعدد اللهجات ولكن الألم واحد - فعلى الرغم من اختزال المخرج حسن الجريتلي لبعض المشاهد والأحداث من النص، فإنه قدم بنية محكمة الصنع ذات مبررات درامية لكل أحداثها دون أن ينشق عن بنية النص الأساسية وهي تعرية المجتمع والذات، فنجد أن دقات عقارب الساعة التي استخدمها المخرج حسن الجريتلي لتعبر عن مرور الأيام (كما ذكرت من قبل) أحد العناصر المهمة لزج المتلقي بكل مشاعره وأحاسيسه بالأحداث والتفاعل مع الشخصيات وحكايتهم، فمع كل إظلام حين تستمع إلى تلك الدقات تجد نفسك مترقبا أن تعم الإضاءة الغرفة لتعرف أكثر عن حكايات هذه الشخصيات وكيف سينتهي بهم المطاف، هل سيظل بداخلهم شغف الحرب على النفس والتحرر من هذا الواقع الأليم أم أنهم سيتركون الراية مُعلنين الاستسلام.
كانت البساطة سمة العرض الأساسية، فقد ابتعدت السينوغرافيا عن كل التعقيدات وربما كان هذا ليورط المتلقي بعمق خيوط الأحداث المشتبكة دون أن تشتته تعقيدات الإضاءة أو الديكور، فـ”صبا” فتاة ضعيفة تعيش كالآلة بشكل نمطي ولا تستطيع أن تعيش حياة طبيعية بسبب أخيها الذي يجبرها على أن تبقى مع والدها حتى يسترد وعيه أو يفقد حياته؛ مما يتسبب في إصابتها بخلل نفسي يجعلها تستسلم لـ”سعد” بدافع الرغبة الجنسية وحتى تشعر أنها قادرة على فعل شيء هي من قررت فعله بإرادتها دون أن يجبرها أحد، بل إن محاولتها للانتحارها تقوم على الأسباب ذاتها، وفي المقابل يفرض المجتمع سيطرته على “صبا” و”سعد” برفضه لقصة حبهما متصديا لزواجهما؛ لذا تعود مرة أخرى لمحاولات الانتحار العبثية التي تنجو منها كل مرة قبل أن تلفظ أنفاسها الأخيرة. أما “عمار” فيحاول مرارا وتكرارا أن تعود حياته كما كانت مع زوجته “حنان”، ولكنها أيضا محاولات عبثية، فهي تريد أن تكمل حياتها مع شخص آخر، ولذلك تطلب منه الانفصال. 
وبفعل ما يمر به هؤلاء الأشخاص بداخل تلك الغرف المغلقة، ينتهي العرض المسرحي “الغرف الصغيرة” بشكل منطقي، فبعدما اتفق “عمار” و”صبا” على قتل والدها – أو بالأحرى التحرر من هذا القيد وبالتبعية التحرر من قيود أخيها والمجتمع أيضا – قررا الزواج، ربما كانت مشاعر الحب بينهما هي السبب المُعلن، ولكن السبب الخفي وراء زواجهما كان أصدق، فـ”عمار” يبحث عن زوجة تهتم به ولا تقوم بخيانته كما فعلت “حنان”، و”صبا” تبحث عن نافذة تنظر منها إلى العالم وأن تشعر بمتعة الحياة التي افتقدتها لسنوات طويلة.
 


رنا أبو العلا