قضايا الهوية وملامحها بالعروض المسرحية الراهنة

قضايا الهوية وملامحها بالعروض المسرحية الراهنة

العدد 863 صدر بتاريخ 11مارس2024

 عُقد في الأسبوع الماضي المؤتمر العلمي الدولي الثالث للمعهد العالي للنقد الفني بأكاديمية الفنون، وكان تحت رعاية ورئاسة شرفية الأستاذ الدكتورة نفين الكيلاني وزيرة الثقافة، ورئاسة أ. د. رانيا يحيى عميد المعهد العالي للنقد الفني، وأمانة أ. د. سامح صابر عميد المعهد السابق، وكان المقرر العام أ. م. د. شوكت المصري أستاذ النقد الأدبي ورئيس قسم النقد الأدبي فرع الإسكندرية تحت عنوان “الوعي النقدي وتحولات الإبداع: التنوع الثقافي وسؤال الهوية» بعد تجهيزات استمرت لشهر ونصف، وفاعليات تتابعت وأقيمت فيها إحدى عشرة جلسة نقدية ومائدتان مستديرتان، بالإضافة إلى حفلي الافتتاح والختام واللقاءات الفكرية الثلاثة التي استضاف فيها نجوم الفكر والثقافة والفنون، على مدار أربعة أيام، شارك به واحد وستون باحثًا، وواحد وتسعون متحدثاً من مصر وست دول عربية بأبحاث متميزة من خلال ستة محاور هي: فنون الإعلام والاتصال: تحديات التنوع والخصوصية الثقافية، هوية الطفل العربي في العصر الرقمي.. إبداعُ المستقبل، الفلكلور وصون التراث: من القراءة إلى تجذير الهوية، الراهن المسرحي وتساؤلات الهوية، سيكولوجية الإبداع وتحولات الوعي النقدي، قوانين الملكية الفكرية وتشريعات العمل الثقافي، المتغيرات الاجتماعية والتقنية: صناعة السينما والإنتاج الدرامي، الفنون التشكيلية ومفردات الهوية البصرية، البالية والأداء الحركي والتفاعلات الثقافية والحضارية، النص الأدبي المعاصر: عناصر الهوية والتنوع الثقافي.
وقد حرصت مسرحنا على حضور ومتابعة الجلسة الخاصة بالمسرح في اليوم الرابع للمؤتمر وهي آخر جلساته وحملت عنوان «المسرح والهوية»، وقد أدار الندوة الدكتور شوكت المصري، والذي شارك بها عبر الإنترنت كلا من: محمد نوالي من المغرب ببحث بعنوان «النقد المراجعاتي في مجال المسرح وتناسج الثقافات»، مسلتي حبيب من الجزائر ببحث بعنوان «الكتابة لمسرح الطفل للجزائر»، محمد سيد مصطفى من السودان ببحث بعنوان «المسرح وقضية الهوية الثقافية»
أما الأبحاث المصرية والتي ناقشتها المنصة وتفاعل معها الحضور فكانت للباحث الدكتور عبد الكريم الحجراوي الذي شارك ببحث بعنوان «المسرح وقضية الهوية الثقافية- حجاج الهويات في المسرح العربي المستلهم من السير الشعبية 1967: 2011
وأعطيت الكلمة للدكتور عبد الكريم الحجراوي وفي قراءته للبحث قال:
اتصل المسرح العربي بقضية الهوية منذ نشأته حين عرفه العرب من خلال الجاليات الغربية الموجودة في بلادهم وقد وصفه «الجبرتي» أثناء الحملة الفرنسية بـ «فن لم يعرفه العرب» لذا حاول الذين نقلوه أن يربطوه بالثقافة الشعبية العربية فـ «مارون النقاش» اختار حكاية من ألف ليلة وليلة ومسرحها، وفي مصر قام «يعقوب صنوع» باختيار اللغة العامية لمسرحه كبديل للفصحى من أجل أن يقرب هذا الفن المجتلب من الجمهور فلقي هجومًا من المشايخ بسبب اعتماده على اللهجات العامية، فالصراع بين الفصحى والعامية كان صراع هوية خاصة بعد اهتمام المستشرقين بالعامية المصرية وتشجيعهم للكتابة بها، وهو ما رأى المعارضون أن هذا الاهتمام غرضه القضاء على الفصحى ومن ثم ضياع الهوية العربية والإسلامية. ومن مظاهر ارتباط المسرح بالهوية العربية في وقت مبكر من القرن العشرين ما قام به الكاتب المسرحي اللبناني «شكري غانم» عام 1910م الهارب من الاضطهاد العثماني، حين كتب مسرحية بعنوان «عنترة» ذات مضمون وطني مناهض للعثمانيين، وقد اعتبرت هذه المسرحية أول تظاهره نظمها الوعي القومي العربي في باريس قبل الحرب العالمية الأولى.
 ولم تختلف بقية البلدان العربية في تقديم موضوعات مسرحية تخدم الهوية العربية مستمدة تارة من التاريخ العربي القديم مثل قصص فتح مصر، وصلاح الدين الأيوبي، والأندلس، والبرامكة، وتارة أخرى عبر الاعتماد على الحكايات الشعبية المشتركة مثل السير الشعبية وحكايات ألف ليلة وليلة، أو الاعتماد على الحكايات الشعبية الخاصة بكل قطر عربي. وحتى في البلدان العربية التي تأخر فيها ظهور المسرح كان لأسباب تتعلق بالهوية، ويرجع «حبيب غلوم العطار» تأخر ظهور المسرح في منطقة الخليج إلى القوى الاستعمارية مشيرًا إلى واقعة تاريخية حدثت عام 1956م حين قدم نادي الشعب بالشارقة مسرحية بعنوان «وكلاء صهيون» ولخطورة الطرح السياسي الذي تتضمنه اعترض على تقديمها المعتمد البريطاني. فلا يوجد مسرح دون هوية وإلا فقد قيمته الفنية.
ومن أكثر القضايا التي ارتبطت بمفهوم الهوية في المسرح العربي القضية الفلسطينية وانشغل بها كتاب المسرح العرب وكذلك الفلسطينيون حيث «توجه رواد الفكر العربي القومي الاستقلالي مسيحيون ومسلمون إلى تذكية هذا الشعور بالقومية العربية بفلسطين قبل وبعد الاحتلال الصهيوني للأراضي العربية هناك، وقد ارتبط هذا المسرح هناك بالظواهر الشعبية مثل رواة السيرة والحكاواتية والحكايات التاريخية من أجل تجسيد هذه الهوية».
وفي الستينيات ارتبط المسرح  بالهوية العربية من خلال الدعوات التي سعت إلى خلق اتجاه مسرحي عربي يرتكز على الموروث الشعبي في البلدان العربية، التي بدأت مع «يوسف إدريس» بدعوته إلى مسرح السامر، ثم «توفيق الحكيم» في كتابه «قالبنا المسرحي» وكذلك دعوة «محمد مندور» للمسرح الارتجالي، ثم انتقلت إلى العديد من البلدان العربية؛ فدعا الدكتور «عبد الكريم برشيد» في المغرب لما يعرف بالمسرح الاحتفالي في المغرب، وكذلك «عبد القادر علولة» في الجزائر، و«سعد الله ونوس وفرحان بلبل» في سوريا، و«يوسف عيدابي» في السودان، و«عز الدين مدني» في تونس، و«جبريل الشيخ، وغنام صابر غنام» في الأردن، «وراضي شحاذة» في فلسطين. كل هذه الدعوات رسخت لما يمكن أن نطلق عليه الاتجاه الشعبي في المسرح العربي.
ويهدف هذا البحث إلى دراسة الحجاج  بين الهويات داخل المسرحية العربية المستلهمة من السير الشعبية (1967: 2011م) مع الأخذ في الاعتبار أن السير الشعبية كانت إحدى الركائز التي اعتمد عليها مؤلفو المسرح في مختلف الأقطار العربية من أجل خلق اتجاه مسرحي عربي، فهذا النوع من المسرح يشكل صورة من صور «الهوية» الاجتماعية التي تشترك فيها المسارح العربية ويمتد منذ عام «1849م» مع نص «ربيعة بن زيد المكدم» للمؤلف المسرحي «نقولا النقاش» بوصفه أقدم نص أُشير إلى أنه متحول عن سيرة شعبية «عنترة» وصولًا إلى نص إبراهيم الحسيني «تغريبة آدام الليلكي» الذي يستلهم فيه سيرة حمزة البهلوان لعام 2020م، والثلاثية المسرحية لبكري عبد الحميد المأخوذة من السيرة الهلالية، ومسرحية المدسوس لياسين الضوي الصادرة في 2024 عن الهيئة المصرية العامة للكتاب.
وعقب الدكتور شوكت المصري، ثم أعطى الكلمة للباحثة والناقدة المسرحية نور الهدى عبد المنعم والتي شاركت ببحث يحمل عنوان «ملامح الهوية المصرية في العروض المسرحية الراهنة/ مسرحيتا «جنة هنا» و»قمر الغجر» نموذجين»، ومن خلاله استعرضت في البداية بعض العروض المصرية التي تقوم بإلقاء الضوء على هوية الشخصية المصرية بما تتضمنه من ثقافة وعادات وتقاليد ولهجات وملابس؛ سواء من خلال البيت الفني للمسرح أو البيت الفني للفنون الشعبية والاستعراضية أو مسرح الهيئة العامة لقصور الثقافة أو فرق الهواة، منها على سبيل المثال عرض «ولاد البلد» تأليف د. مصطفى سليم إخراج محمد الشرقاوي إنتاج فرقة المسرح الحديث، كذلك مسرحية «المقام» كتابة وإخراج سعيد سليمان إنتاج فرقة الفيوم المسرحية، «جنة هنا» تأليف صفاء البيلي إخراج محمد صابر إنتاج مسرح الغد، «السيد درويش» تأليف السيد إبراهيم، إخراج أشرف عزب، إنتاج مسرح البالون، «مشاحنات» المأخوذ عن نص «المتنازعات» للكاتبة الإنجليزية كاترين هايس، وترجمة د. هناء عبد الفتاح، إنتاج مركز الإبداع، إخراج هاني عفيفي، «المطبخ» لفرقة (1+1) تأليف وإخراج محمد عادل، «سيرة حب» تأليف أيمن الحكيم، إخراج د. عادل عبده، إنتاج مسرح البالون، «قمر الغجر» كتابة وإخراج د. عمرو دواره عن نص للكاتب محمود مكي، إنتاج مسرح البالون. وقد ساهمت هذه العروض بقدر كبير في إلقاء الضوء على الهوية المصرية من جوانب مختلفة منها: هوية الرجل المصري، هوية المرأة المصرية، الحياة الاجتماعية والثقافية والسياسية والاقتصادية في عصور مختلفة، تناول التراث المصري سواء فيما يتعلق بالعادات والتقاليد أو القصص والأمثال والمعتقدات الشعبية، أو بعض الشخصيات المهمة والمؤثرة في الفكر والثقافة.
وبعد أن عرضت إشكالية البحث وأهدافه والحدود وشرحت المنهج الذي اعتمد عليه في التحليل وهو السيميولوجي، والمصطلحات المستخدمة (سيميولوجيا، هوية، مسرح، أوبريت )، انتقلت إلى النماذج التى اختارتها للتطبيق عليها وهي «جنة هنا»، تأليف صفاء البيلي، إخراج محمد صابر، «قمر الغجر» كتابة وإخراج د. عمرو دوارة،  وذلك لكونهما من المسرحيات المعاصرة التي لا ترتبط بالهوية المصرية فحسب بل إنهما من أكثر العروض إبرازًا لملامح الهوية، خاصة وأن كلا منهما قد حقق نجاحًا على المستويين الأدبي والجماهيري، فقدمت ملخصا لكل عرض ثم دراسة تحليلية لعناصر البناء الدرامي، وانتهت بالنتائج التي جاءت كالتالي:
 أولاً مظاهر الهوية وكيفية توظيفها في مسرحية جنة هنا:
1.  هوية المرأة المصرية بخصائصها خاصة الأم، ثم الابنة التي تحمل الخصائص نفسها لكنها لم تكتشفها إلا بعد وفاة الأم.
2. ذكورية المجتمع المصري المتمثلة في الأفكار البالية كرفض تعليم البنت وجريمة الختان واعتبار المرأة شخصا قاصرا لم يبلغ سن الرشد ولابد من الوصاية عليه من قِبل الرجل، مما جعل الأم تخفي خبر وفاة زوجها.
3.  الديكور الذي يعبّر عن هوية البيت الريفي المصري القديم بكل ما يحتويه من ديكور متمثل في السرير الحديد ذي الأعمدة وهو أكثر العناصر بروزًا حيث يتم توظيفه في عدة وظائف: سرير، سجن، مذبح، مقام، وإكسسوار متمثل في طبلية، غربال.
4.  الملابس: التي تؤكد هوية المرأة المصرية من خلال ملابس الأم التي تلائم طبيعتها العمرية والثقافية، ملابس البنت المصرية العصرية والتي تلائم طبيعة شخصيتها المتمردة.  
5.  الألوان: الأبيض، الأسود حيث الخير والشر بالإضافة لكون الأسود يدل على حزن الزوجة على رحيل زوجها.
6.  الحوار: حوار الأم والبنت طوال الوقت يعرض للأفكار البالية التي تعكس الهوية المصرية في مجتمع الريف المصري وخاصة الصعيد كموقفه من تعليم البنات وعملها وكذلك عملية الختان التي أجريت للبنت، موقف المجتمع من المطلقة والأرملة.
7. الأغاني والموسيقى عبرتا بوضوح عن الهوية المصرية خاصة في أوبريت السبوع.
ثانيًا مظاهر الهوية وكيفية توظيفها في أوبريت قمر الغجر
1. من خلال الشخصيات يتم توضيح ملامح هوية الشخصية المصرية بشكل عام والمتمثلة في كل الشخصيات التي تنتمي للمجتمع المصري (الصيادون، الطلبة وأستاذهم)، ثم هوية الغجر وطبيعتهم وخصائصهم، ثم خصائص الهوية العربية من خلال الشخصية اللبنانية د. وطفاء والصداقة التي توطدت بينها وبين قمر و د. رؤوف، وكذلك تضافر الجميع تجاه القضية الفلسطينية وأحداث غزة.
2. الملابس: قامت الملابس بدور كبير في إبراز هوية كل شخصية من صيادين، غجر، طلبة عصريين، بجانب بُعدها الجمالي وألوانها التي اتسقت مع ألوان الديكور.
3.  الديكور: مقهى الصيادين، الفندق، حي الغجر ولكل منها سماته المختلفة التي توضح خصائص المكان وهويته
4. الاستعراضات: كل فئة قدمت استعراضات تختلف عن استعراضات الفئات الأخرى، فالصيادون لهم استعراضاتهم الخاصة بهم، كذلك الغجر، ثم الطلبة الذين يجسدون المرحلة الحالية من خلال رقصاتهم العصرية، ثم اشتراك الجميع في أغنية مصر والفرح.
5. الغناء: أغلب الأغنيات عبرت عن الغجر وحياتهم ومنها أغنيات لأم كلثوم مثل:
«يا صباح الخير ياللي معانا»، «غنيلي شوي شوي» وهما أغنيتان قامتا بوظيفتين معًا؛ الأولى تجسيد حياة الغجر، ثم توظيفها في العرض كجزء من التراث الفني المصري، كذلك غناء الصيادين والذي عبر عنهم بدقة من خلال المعلومات والمفردات التي تضمنها.
6. الشاشة: قُدم من خلال الشاشة أوبريت كبير بعنوان تحيا مصر، يتم من خلاله حكي تاريخ مصر وهويتها الثقافية والدينية والسياسية، كذلك عرض أحداث غزة وتضامن العالم العربي معها بل العالمي.
7. الحوار: تم وصف الوضع السياسي الذي ينعكس بالضرورة على الوضع الاقتصادي والاجتماعي الحالي، حيث تعويم الجنيه المصري وارتفاع سعر الدولار واستغلال التجار للموقف ورفع الأسعار من خلال حوار الصيادين مع تجار السمك، كما ظهر من الحوار عادات وتقاليد الغجر وطبيعة حياة الصيادين وسكان السواحل.
 


جمال الفيشاوي