«فاطمة قالير.. 5 مسرحيات» مناقشة كتاب ضمن سلسلة إقرأ كتب الهيئة

«فاطمة قالير.. 5 مسرحيات» مناقشة كتاب ضمن سلسلة إقرأ كتب الهيئة

العدد 755 صدر بتاريخ 14فبراير2022

قدمت الهيئة العربية للمسرح الحلقة الثانية عشرة من سلسلتها الشهرية «إقرأ كتب الهيئة» حول كتاب «فاطمة قالير.. 5 مسرحيات»، وشارك في الحلقة كل من الكاتبات والباحثات الجزائريات د.جميلة مصطفى الزقاي، د.جازية فرقاني، ود.منالعباد رقيق، وأدار نقاش الحلقة أ.عبد الجبار خمران مسؤول الإعلام والتواصل في الهيئة العربية للمسرح.
قال عبد الجبار خمران، إن محور نقاش الحلقة يدور حول أعمال الكاتبة المسرحية الجزائرية الفرنسية فاطمة قالير: خصوصية مضامينها، أسلوب الكتابة وتقنيتها، خاصة أنها مثلما كتبت المسرح كتبت أيضا أدب الطفل والرواية والسيناريو، كما أشرفت على عدد من ورشات الكتابة في لقاءات محلية ودولية.
ونتناول أيضا بالدرس والنقاش مع ضيفات الحلقة عملية الترجمة التي تصفها جميلة الزقاي بـ «السفرية المحفوفة بالمكاره والعذابات التي تتوج بأريحية الانتصار على نص يكون في بداية ترجمته في منتهى العنجهية والتعالي المرفوق بإعلان التحدي ومجابهة ربان السفينة الذي يتسلح بترسانة لغوية وتركيبية بلاغية هي بمثابة بتلات زهور لا يكتمل جمالها ودلالتها إلا بديدن درامي من شأنه أن يشد المتلقي طوال رحلته».
ونطرح التساؤلات التي رافقت هذه الترجمة، ونستقصي مهمة المترجم الأساسية أمام نص إبداعي مفتوح على التأويل والقراءات المتعدد، وهل تحافظ الترجمة على روح العمل الإبداعي الأصل أم تنفخ فيه روحا أخرى جديدة في صيغته المترجمة؟
الكتاب المترجم للمسرحيات الخمس للكاتبة الجزائرية الفرنسية فاطمة قالير أو بورقعة بنت الحروش التي بزغ نجمها بضواحي مدينة الجسور المعلقة «قسنطينة». وهي الطالبة التي تكونت بجامعة الجزائر في الأدب الفرنسي. وهي الكاتبة ذات الانتماءين؛ راحت للضفة الأخرى عن طيب خاطر محملة بالأماني والأحلام الوردية الواسعة التي لا ضفاف لها ولا حواجز تقف دونها والتجسيد، وبدلا من أمتعة السفر انتقلت معتدة بثقافتها، عازمة على التسامح والتعايش والرغبة الجامحة في نشر الحوار الحضاري وروح المثاقفة التي كانت تمثلها باعتبارها جسرا ممتدا لطرفي تلك الثنائية الثقافية. فما كان منها إلا أن كتبت أدبا ومسرحا جزائريين بلغة الآخر التي لم تكن تعتبرها غنيمة حرب، بل كانت تتهالك في عشقها فتلبسها الحلل البهية التي لا عهد لها بها، كما أنها كانت أحيانا تكتب بإديولوجية يتلقفها الآخر بعين الرضا.
هاجرت عن قناعة واختيار وفي ذلك تقول: أتيت إلى هنا بمحض إرادتي، وسأتكلم وأصرح دون خوف لأنني لا أخشى أي أحد» وهو التصريح المتمرد الذي ورد على لسان بطلة مسرحية «الأميرات» بعد رجوعها إلى أرض الوطن وهذا يميز بجلاء الخطة الأصلية التي تبنتها الكاتبة التي كانت مؤمنة بضرورة أخذها للكلمة الذي كانت تعتبره ضرورة وجودية بالنسبة إليها، لذلك كانت تؤكد على فضح الحقائق»نكتب لكي لا نموت» ولذا كانت تؤكد على ما يلي: « باعتباري كاتبة ولدت وسط صراعات متعددة، ومطبوعة على امتزاج الثقافات، فإنني أمنح نفسي الحق لقول كل ما أفكر فيه فيما يخص فرنسا والجزائر، لأنها قصة حب. لي الحق في الكتابة وفي منحها للجمهور ليمارس عليها نقده.
وكون فاطمة قالير بدأت الكتابة بالفرنسية، وبما أنها تعيش في فرنسا، فإنها توجه إنتاجها إلى جمهورين الفرنسي والمغترب المغاربي وبذلك يصنفونها هناك على أنها كاتبة مغاربية تندرج ضمن الأدب الفرنكوفوني المغاربي،مما يجعلها خارج سرب الأدب الفرنسي. وفي الجزائر اختيارها للغة الآخرالمستدمر الفرنسي، فإن ذلك يجعلها تتعرض للانتقاد، وقد تتهم بخيانة الوطن مثلما أشارت إلى ذلك في مسرحية الأميرات...
قد يندرج مسرح فاطمة قالير فيما يطلق عليه «أدب الدياسبورا» وهو ذاك الابداع الذي يتراوح بين انتماءين ووطنين وجنسيتين وهويتين وثقافتين بحسب الباحثة «نقوي المهدي» في مقاربتها لخصائص الأدب المهجري. وهذه البينونة المزدوجة بين وطنين وانتماءين هي التي تمنح خصوصية لمسرح هذه الكاتبة الاستثناء.
قد تبدو للبعض أنها كانت لا تكتب إلا بعين الآخر، بينما الحقيقة الفعلية أنها ما كتبت إلاّ بفؤاد جزائري انشطر إلى قسمين، لكنه يصبو إلى إحداث تغيير مأمول في الذهنية الجزائرية بخصوص بعض المواضيع السوسيو سياسية على غرار المرأة والعلاقات الانسانية منها علاقة الرجل بالمرأة وبالأسرة والمجتمعإضافة إلى التطرف الديني وظاهرة المفقودين السياسيين التي تناولتها في مسرحيتها «جمال الأيقونة» وغيرها من المواضيع الشائكة.
 كما يعكس هذا المؤلف أريحية الكاتبة في دراماتورجيتها وعشقها المستميت للمسرح بالرغم من احترافيتها في كتابة القصة والسيناريو إذ صرحت يوما: «أستطيع القول أنني أحب المسرح مثلما يحبني لأنه يحاصرني ويسكنني حقيقة، اختطفني منذ الوهلة الأولى التي قرئت فيها مسرحيتي وحين عرضت... وبالفعل تلقيت طلبات لمسرحياتي من كل الأمصار؛ تلك النصوص التي تتناول مواضيع مغضبة في عمومها وحساسة قليلا... مواضيع لا تريد بعض الأمم أن نثيرها أو نتحدث عنها»
حيث عبرت عن مدى استيلاب المسرح لخلدها، بخاصة بعدما قرئت أعمالها وأصبحت مطلوبة من المخرجين والمنتجين. كما أشارت إلى ردة فعل بعض الأطراف من تناولها لمواضيع حساسة تقابل بالرفض والغضب. وهذا مصير العروض المسرحية للكاتبة إذ حتى استراتيجية التلقي تشكل بينونة بين أوربي يطرب لتلك المواضيع ويرحب بمشاهدتها تشفيا أو إشباعا لفضول يعتريه في التعرف على المجتمعات العربية. وبين بني جلدتها الذين يشمئزون منها ويعرضون عنها، وهذا هو سبب عرض أعمال قالير في العديد من البلدان الأوربية المختلفة، بينما يقل أو ينعدم إخراجها في المسارح العربية ومنها الجزائر. وناهيك عن طغيان السرد والإدعان في إدراج التفاصيل التي لا يهتم بها كثيرا في السيرورة الدرامية التي تركز على الفعل أكثر من تفاصيل زائدةقد تثقل كاهل المتلقي، وتشط به عن الكتابة الركحية التي تصبو إليها الكتابة المشهدية للنص. لكن الكاتبة ترى أن أعظم خيانة بالنسبة للدراماتورج هي ألاّ تمر نصوصه للخشبة.
وفي أغلب ما تناولته من مواضيع؛ اخترقت قالير العادي والمألوف هذا الذي يصبح اعتداء على حرية المرأة وظلما لها في منبتها، لذلك فوضت هذه النصوص المسرحية للبوح الأنثوي الصارخ في ظلوظلال الإنتاج المسرحي النسوي، وقد عافت كل أنواع الكبت والضغوط الممارسة على المرأة الجزائرية بخاصة في المناطق القروية والمدن الصغيرة أو مناطق الظل عموما.
  لعل هذه النصوص جميعها أو الأحرى جلها انبثقت من السيرة الذاتية للكاتبة، وما تنصلت من أناها إلا لماما، فهي بطلة مسرحياتها وبخاصة مسرحية «أميرات» التي أبرزت فيها كينونتها المتمردة على أوجاعها وأناتها. والنص عبارة عن محاكمة لـ «أميرة» تمثل شريحة كل المغاربيات اللواتي ارتبطن بأجانب ولم يفلحن في هدايتهم لاعتناق الدين الاسلامي. حوكمت البطلة لأن ابن جلدتها أضحى يراها عميلة للآخر وخادمة لهن وناطقة بلغته، وتارة يتهمها بهدم الأعراف ونكران الدين والعقيدة. لكنها صمدت وتحدّت وتمردت بمعية ثلة من النساء الشابات اللواتي تمكنت من إقناعهن ليناضلن إلى جانبها بغية دحض العادات والتقاليد البالية والغثة التي لا تبقي ولا تذر، ليعلن في الأخير تأسيس إمارتهن بعد انتصارهن على مسنات وعجائز العشيرة اللواتي حاكمنها بما يحملن من أفكار وليدة الذهنية المحلية ككل، فكانت المحاكمة إذن من العشيرة ضد الكاتبة العائدة للديار بعد سنوات من الهجرة والغياب الاختياري.
  أما بخصوص «الحفلة الذكورية» وعتبتها تشي بفحواها ألا وهو الختان، وقد تكون –نسبيا- استمرارا للمحاكمة التي خرجت منها منتصرة، فصارت أكثر جرأة وجسارة في تناول مسألة حساسة، فكان ولابد من تكييف النص وتشذيبه حتى يقدم لمتلقٍّ عربي دون خدش حيائه بخاصة أن الكاتبة أدركت الفحش العلني بمسمياته، مع العلم أنها ليست الوحيدة التي بلغت هذه الدرجة من حيث عدم وقوفها عند الثلاثي المحرم « السياسة والجنس والدين» بل تكاد تعكس سمة أسلوبية في الكتابة النسوية المغاربية والعربية ككل. لذلك ما كان من المترجمة لها إلا أن تتوخت الكياسة في انتقاء المتكافئات والمتقابلات اللفظية والمعنوية التي من شأنها أن لا تنآى عن التركيبة السوسيونفسية والفكرية والثقافية للمتلقي العربي. وهي مسرحية غاية في التهكم والكوميديا وفق ما أقرته الباحثة الناقدة الجزائرية صورية غراندي.
ومن المسرحيات الأولى للكاتبة والأكثر دسامة وإدعانا في الطول «الضراير» ولذلك استغرق عرضها ما يناهز الساعتين؛ وهي أيضا عبارة عن كوميديا تستخف بمسألة تعدد الزوجات، حيث تناولت قصة رجل قرر الزواج بثانية بسبب عقم الأولى. وكانت ثمرة زواجه الثاني أن أصبح أبا لسبع بنات، مما جعله يبدي رغبته في الاقتران بثالثة لعله يرزق بوريث ذكر يحمل اسمه. لكن زوجتيه كن له بالمرصاد، وقد أعلن العصيان والرفض المطلق لظروف حياتهن القاسية التي لم تكن تبتعد عن عيش الدواب –بحسبهن- إذ لم يكن لهن غير العمل الشاق في حرفة النسيج بله عن الانجاب ورعاية الزوج وطاعة حماتهن وتحملهن لجسارتها وسيطرتها عليهن وتدخلها في كل صغيرة وكبيرة تخصهن. بطلة العمل هي «سيرنا» حاملة لخطاب الكاتبة بكل شحناتها الفكرية والدينية التي جعلتها تتحول في هذا النص إلى مصلح سوسيو نفسي للمرأة المغلوبة على أمرها كي تكسب ودّ زوجها وترسم له الحدود التي لا ينبغي له تخطيها.
وردًا على المحاكمة الأولى بمسرحية « أميرات» نجد في نص « من بعيد أشجار الخرنوب» محاكمة من نوع آخر تتعلق بمحاكمة الآخر بعدالته لكن بضفة وأرض الأنا الجزائرية. ويتعلق الأمر بخيانته لهذه الأنا التي ساندها بثورتها المظفرة، حتى أنه فضل البقاء في الجزائر ولو محملا بوخزة الضمير على إثر خيانة اقترفها بالرغم منه، فأراد البوح بها ليرتاح من التأنيب الذي صاحبه لسنوات، بخاصة أنه كان صديق العائلة الجزائرية التي جعل ابنها يدفع ضريبة الخيانة؛ خيانة الشرطي الفرنسي فريد Fraid.
وأجادت الكاتبة حبكة هذا النص؛ حيث تعمدت إرجاع عائلة فرنسية، كان الأب فيها محافظ شرطة، فبنت نصها على صراع مشحون ومتقد حدث معظمه في الكواليس بين الشرطي والمحافظ، ويختلف هذا النص عن بقية النصوص الأخرى في تخلصه نسبيا من أنا الدراماتورج. كما أن النص عبارة عن تحقيق استخباري انتهى بفضح المحافظ للجرم والإثم المشهود للشرطي فْريد. وذلك لأن الكاتبة أرادت لهذه المحاكمة أن تكون لفرنسي في وطنها لكن بعدالته وقانونه.
وبخصوص نص «ريم الغزالة « الذي ورد تتويجا للنصوص السابقة، وقد تناولت فيه مسألة الجنازة في الأعراف الجزائرية، لذلك لم تغفل الكاتبة أي تفصيل يجعلها بمقام الفقيدة التي كانت والدتها، ونظرا لعراقة الأسرة ومنزلة الفقيدة فقد حرصت الدراماتورج على إبانة منزلتها في العشيرة حتى أن الخدم والحشم شق عليهم فراقها. عكس النص مدى تأثر الكاتبة برحيل أمها وصعوبة مرافقتها إلى مثواها الأخير، لكنها تصرّح في الأخير إنها أدت واجبها تجاه الأم والوطن وهما صنوان لديها، لتعود بعد ذلك مرتاحة الضمير إلى وطنها الثاني فرنسا.
سعيدة بتواجدي معكم في هذه الصبيحة العلمية لنتدارس قضية مهمة جداوهي: المسرح والترجمة؛ فماهي الوسائل والأدوات التي يمكن بها أن نقف على هذا الإبداع النوعي في طبيعته؟ وكيف يمكن لنا أن ننقل هذا الأثر الإبداعي والعمل الفني من ضفة إلى أخرى بأقل إشكال ممكن؟
المسرح ذاك الشكل الفني الذي أفرد له أرسطو كتابه فن الشعر،والترجمة في عمقها التاريخي المرتبط باللغة بوصفها هوية ينبغي الحفاظ عليها حتى وإن كانت في صورتها الخارجية بأصوات الآخر لكن في عمقها هي اللغة الأم بحمولتها المعرفية والثقافية وبقضاياها النابعة من بيئتها التي حملتها معها في حقائبها لتحط بها الرحال في وطنها الثاني الذي تبناها.
يقول أنطوان بيرمانAntoine Berman: إن جوهر الترجمة هو الانفتاح والحوار والهجانة واللاتمركز،فالترجمة تستدعي إقامة العلاقة بين الذات والآخر وإلا فقدت أساس وجودها.
عندما تعاملنا مع هذه النصوص – وأشكر هنا الأستاذة د.جميلةالزقاي لأنها من أتاحت لنا فرصة قراءة هذه الأعمال وترجمتها – وقفنا أمام جدلية المد والجزر بين اللغات والثقافات، والذي يعكس الدور الذي تؤديه الترجمة في تنظيم التواصل وانتقال الأفكار وهجرة الكتابات، قصد تحقيق تفاعل ثقافي مع الآخر؛ تفاعل فاعل ومؤثر ومنتج.
لا يتأتى هذا إلا بمعرفة الأنا أولا وإدراكنا لها ومعرفتنا بالآخر. وكانت الترجمة مساعدة لمعرفة الآخر عن طريق نقل فكره. لكن القضية هنا معكوسة: فالأنا هو «الأنا الجزائري» والأداة هي «أداة الآخر» فكيف ننقل الأنا الجزائري بأداة الآخر،لتقديمه مرة أخرى إلى الأنا الجزائرية، والعربي بشكل عام؟
تعتبر الترجمة قضية حضارية فهي تمثل الجذور والانتماء ممثلا في اللغة الأم التي نسعى جاهدين للبحث عن وسائل للارتقاء بها، كما تمثل أيضا الأهداف المتوخاة من السعي لإيجاد طرق وسبل لدفع عجلة التطور والبناء الحضاري، وبعبارة أخرى جدلية الأنا في شعوره بالانتماء إلى لغة ما وتعريف الآخر بها ثم الوسائط الممكنة للارتقاء بها عن طريق الآخر دون الامحاء فيه والذوبان في ثناياه، إضافة إلى معرفة الذات من خلال الآخر.
هذا هو حال فاطيمة قالير التي كتبت لكيلا تموت، وكتبت لأن لها الحق في الكتابة، كتبت مسرحا بلغة الآخر لكن ريبرتوار مضامين نصوصها هو العادات والتقاليد والموروث الشعبي وكل ما يمت بصله للهوية وتمفصلاتها،هوية هي الانتماء لكن الأداة التعبيرية هي أداة الآخر فهل هي غنيمة حرب كما كانت عند كاتب ياسين؟
لمن كتبت فاطمة قالير مسرحها،وأين نموضع هذا النوع من الكتابة فهل هو مسرح جزائري لأن الرؤية جزائرية والبيئة جزائرية والأمثال خلاصة تجارب من الواقع المعيش للفرد الجزائري؟أم هو مسرح فرنسي لأن أداة التعبير التي تحمل عبء المضامين المنتقاة بعناية فائقة من البيئة الجزائرية هي اللغة الفرنسية؟ أين يقع هذا النوع من الكتابة؟ نحن نترجم لكتاب أجانب لتعريف المتلقي الجزائري/العربي بنتاج الأجنبي أما مسرح قالير فهو لجزائرية ونعيده إلى أصل انتمائه فالآية معكوسة.
لقد عالجت الكاتبة في مسرحية ريم الغزالة موضوع الجنازة وطقوس إقامتها في التقاليد والأعراف الجزائرية فوجهت عناية لأدق التفاصيل لترسم صورة واضحة المعالم لكل من أراد أن يستنبط من معلومات عن الفقيد، فكل شيء ينم عن أن الفقيد ذو مكانة عالية في أسرة عريقة، الفقيد «أُمٌ» لها حضور مميز ومكانة مرموقة وسط عشيرتها، تسرد علينا فاطمة قالير رحلتها مع أمها وهي تودعها إلى مثواها الأخير لتعود إلى «وطنها» فرنسا بعد أن أنهت مهمتها وبكت الأم والوطن معا..
إن أنا الدراماتورج مهيمنة ومسيطرة على النص، وقد ولج السرد الدراما بعدما كانت الكلمة/الفعل هي سمة المسرح وروحه وقد قال المعلم الأول أرسطو في»فن الشعر» أن الدراما هي محاكاة لفعل نبيل وتام له بداية ووسط ونهاية، بواسطة أناس يفعلون لا بواسطة الحكاية، لكن السرد عرف طريقه إلى الدراما مع بيسكاتور وبريخت الألماني الذي يقول- على الرغم مما يبدو من تعارض بينه وبين أرسطو- أتفق مع أرسطو على أن الحكاية وروح الدراما.
إن تأصيل النص المترجم في الثقافة المستقبلة ليصبح جزءا منها يتطلب تهيئة البيئة لضمان فعل التلاقح، فالتأصيل قوامه ترجمة تحصيلية تحاول فيها الذات تحصيل معاني المفردات في سياقاتها التي وردت فيها ثم ترجمة توصيلية تسعى إل إيصال المعنى إلى المتلقي وفق قواعد وقوانين لغة نص الوصول، ثم ترجمة تأصيلية تهدف إلى جعل النص مقبولا ومقروءا ومفهوما من الآخر في موطنه الجديد وقد حقق معايير النصية على حد تعبير دي بوقراندDe beaugrande..
 لن يأتى هذا لمترجم النصوص الأدبية بعامة والنص المسرحي على وجه الخصوص إلا إذا توسل باستراتيجيات الترجمة وتقنياتها لتفادي تعذر الترجمة وتزداد الأمور صعوبة لأن النص المسرحي يحمل في طياته إمكانات إخراجه على حد تعبير يوجين يونسكو E. Ionesco، فهو معد ليعرض أمام جمهور الآن و/هنا وقد حمل نص قالير العديد من الإرشادات الإخراجية لإعادة كتابته  كتابة ركحية تتأزر فيها السينوغرافيا والكوريغرافيا مع اللغة و تتعاضد لإيصال الرسالة المتضمنة في النص المكتوب دون أن ننسى الرؤية الإخراجية للمخرج و مدى تأثيرها على سيرورة العرض.
إن التعامل مع عناصر الثقافة في مسار الفعل الترجمي إشكال في حد ذاته لأن عناصر الثقافة تسوق معها التاريخ و الانتماء و الأيديولوجيا و....وفعل العبور تعوقه العديد من المعيقات و الصعوبات الناجمة المقاومة التي تمارسها هذه العناصر التي لا نجد لها مقابلا يكافئ شحنتها في لغتها الأم فهل نوطنها بتقنية الاقتراض على حد قول لورنس فينوتيL.Venuti وهو كتابة صوتية تحافظ على أصوات اللفظ في لغة الانطلاق أم نغربها  محدثين صدمة للقارئ  وأي الاستراتيجيتين قادر على  تحقيق التلاقح مع أقل ضرر ممكن .
إن الترجمة حوار بين مؤلف أنتج نصا ومترجم يصبو إلى إعادة إنتاج نص - وقد اتكأ على الأول السابق عنه في الزمان والمكان لأنه موجود قبله بالقوة-على الرغم من كل الإكراهات و العوائق التي تقف في وجهه؛ عوائق ذات منابع متعددة و متباينة لأن العبور بواسطة اللغة غير كاف،فالعبور يتم بأداة هي اللغة لكن الحوار يتجاوز الأداة إلى الثقافة ليقيم حوارا معها وقد عمدت المبدعة إلى توظيف التراث الشعبي و مفردات من اللهجة العامية التي تمثل تحديا بالنسبة للمترجم،ولهذه الأسباب مجتمعة كان التكييف الإبداعي وسيلة مسهمة في تجاوز هذه العقبات لكن إشكال الأمانة والخيانة يطفو إلى السطح في كل مرة ليذكرنا بأخلاقيات الترجمة. نحن نتحدث عن هجرة النصوص في الترجمة لكن مع مسرح فاطمة قالير هو عودة للنص إلى موطنه ليروي تفاصيل حياة بريشة الفنانة التي حرصت كل الحرص على تقديم صورة تعكس خصوصيات الكتابة عندها على المستويين، مستوى رؤيتها الفنية وتصورها للكون والحياة ومستوى أداتها التعبيرية الجمالية التي ارتوت بأسلوب الآخر فكيف لنا أن نعيدها إلى بيئتها التي كان يجب أن تنمو فيها وتترعرع في أحضانها ونحقق بفعل استنباتها في بيئتها الأم تواصلا وتلاقحا.
سأتطرق في تدخلي إلى طريقة ترجمتي لمسرحية «الأميرات» لفاطمة قالير وكيف استطعت الولوج إلى ثناياها وما الأثر الذي تركته في قراءة هذه المسرحية وترجمتها، حيث يكتسي استلهام التراث في المسرح المكتوب بلغة الآخر أهمية كبيرة وحيزا معتبرا يدل على مدى ارتباط هؤلاء الكتاب بالتركيبة الثقافية للتراث غير المادي لبلدانهم وأوطانهم، وكأنهم يتخذونه طوق نجاة خشية انغماسهم الكلي في أجواء البيئة الجديدة التي انتقلوا إليها كرها أو طواعية. كما يتخذون هذا التراث بمثابة حبل صري يبقي على مدى ارتباطهم بوطنهم الأم. علاوة على أن أسباب ودواعي استلهام التراث في المسرح الجزائري تختلف من كاتب إلى آخر؛ ذلك أن التراث يعدّ أولى انشغالات الكتاب والمخرجين بخاصة بالنسبة للذين تشبعوا بتقنيات هذا الفن الوافد من الغرب، وهذا لعدة أسباب نجملها بداية فيما يلي:
-الوعي القومي بما خلفه الأجداد من ذاكرة الشعب وضميره الجمعي، وإلى حدٍّ ما تاريخه المعبر عن طموحاته وتحدياته. ومما لا شك فيه أن معظم شعوب العالم استفادت من تراثها في تطوير آدابها وإثرائها له، وذلك بجمع التراث ودراسته وتمحيصه، ونشره. ولذلك كان التراث من المصادر الأساسية والرئيسية لأعمال أدبية كثيرة، فألفى فيه المسرحيون تجسيدا صريحا لصراعات الإنسان ومواقفه وأحلامه فغرفوا منه مواقف العظمة، وفترات الازدهار في التاريخ العربي والجزائري، لشحذ الهمم وبعثها على الفخر والاعتزاز والأنفة نتيجة لظلم العثمانيين في بعض البلدان العربية. وطغيان المستعمرين وجورهم في البعض الآخر، فنجم عن ذلك التأخر حضاريا .
فكل انتكاسة تعيشها الأمم تدفعها إلى إعادة التفكير في الذات، وإذا كانت بعض الاتجاهات تفعل ذلك من أجل الاختباء في الماضي الوردي، الماضي النضر، فإن اتجاهات أخرى، تهدف من خلال هذه العودة إلى إعادة دراسة الذات من أجل تأسيس المستقبل...»
- البحث عن مضمون عربي إسلامي جزائري، عبر الغوص في رحم التراث ومحاولة إيجاد مقومات المسرح، في الظواهر التراثية الشعبية، ومحاولة التأصيل للمسرح العربي، من أجل الخروج عن القالب الأوروبي شكلا ومضمونا، فالمضامين التراثية تضمن التعبير الصادق عن الإنسان الجزائري، فهي تحفل بالحضور الدائم والحي في وجدان الجماهير الشعبية.
-عندما يستخدم المسرحي هذا المضمون التراثي فإنه سيضفي على عمله نوعا من الأصالة.
- يبقى النص مرتبطا بطبيعة المكان والزمان والجمهور، لهذا كان لزاما على المسرحيين، إعادة النظر في المواضيع المعالجة، والاحتياجات الجديدة للجمهور بإعادة بناء آليات جديدة للعرض وإرساء علاقات جديدة مع جمهور أصبح يراقب عن كثب سيرورة هذا الفن، فكان من الواجب إعادة تملك الجمهور عن طريق الإشارات الجاذبة له من الثقافة الشعبية. كون التراث يحتوي على إشارات تنقل حياة هذا الشعب ومفاهيمه وقيمه التي ينشدها في خلده، فيجب التماشي مع رغبات الجمهور والإصغاء لانشغالاته. بالإضافة إلى توظيف البعد الفكاهي الشعبي، أين كانت بنية الحكاية الشعبية حاضرة بقوة، فسهل اندماج الجمهور، لكونه يسقط واقعه المعيش على الخشبة.
وإذا تعلق الأمر باستلهام قالير لتراث منطقتها، فإنها طريقتها لإعلان وفائها لوطنها حتى وإن لم تكن راضية على بعض مظاهره، ومع ذلك كثرت المفردات والعبارات المحلية المستمدة من تراث المنطقة وبلغته لتشفي حنينها للغتها الأم. كما عبأت «كتابتها بالكثير من التعابير المستمدة من عتبة الأوساط الشعبية الشفهية...»  والملفت للانتباه أن الخاصية الموضوعاتية للكاتبة في استلهامها للتراث هي التي تؤدي بالمترجم إلى الاهتمام أكثر بنقل الصور وليس بالمفردات اللغوية التي شكلته.
ومسرحية «أميرات» هي مسرحية سلطت الضوء على معاناة المرأة في مجتمع يتطلب العيش فيه إلى المؤازرة والذكاء للتخلص من مأزق يضع فيها المجتمع الذكوري المرأة نصب عينيه ليقيدها بسلاسل واهية، الهدف الوحيد منها هو التحكم فيها وإرضاخها لأهوائه، فتجد نفسها جراء تلك المحاصرة مجبرة على سلك طرق وعرة محفوفة بالمكاره التي تتمكن من التخلص من مطباتها بفضل ذكائها. وهذا ما أثاره وتحدث عنه التراث الجزائري الذي يزخر بقصص تلك النساء اللواتي يستطعن الخلاص من مخالب العشيرة، فيتغنى للأجيال بتمردهن، وتحكي قصصهن الجدات إلى يومنا هذا، وذلك وفق ما ساد في التراث الشعبي «من شيم وصفت بها المرأة في الحكاية الشعبية هي الذكاء والشجاعة والبطولة، والتمكن من تحويل المواقف لصالحها من أجل الخلاص. وقوة الحيلة والدهاء مستخدمة ذلك للوصول إلى ما تريد ردا على تجاهل المجتمع لدورها ومكانتها...»  ومن تلك النماذج الآسرة في الحكايات الشعبية «لونجة والغولة»، «بقرة اليتامى» وشهرزاد في حكايات ألف ليلة وليلة وغيرها... حيث كانت تستلهم تلك البطولات في الأعمال الأدبية والمسرحية منها بطريقة أو بأخرى من أجل ترسيخ هذا النضال في روح الصغار والكبار لمواصلة غرس بذور الأمل في غد أفضل. ولذلك حظيت المرأة في نصوص هذه الكاتبة بمراتب تجسد المكانة والحضور القوي لتكون أهلا لتتقلد رمز «الأميرة» التي توحي بدلالات السطوة والجمال والمكانة الرفيعة.
على الرغم من اختيار الكاتبة اللغة الفرنسية كأداة لإيصال إبداعها الأدبي إلا أنها كانت متشبعة بتراث لغتها الأم فلم تتخلى عما يزخر به التراث الشعبي المغاربي من أغنية شعبية وحكاية وتقاليد وعقيدة وأعراف. فالمسرحية تتحدث عن صراع الأجيال بين رضوخ العجائز ورغبتهن في الحفاظ على الممارسات البالية والشابات اللواتي يرغبن في القضاء على الذهنية المتحجرة والأفكار التعسفية في مشاهد من التعاون والتراحم للنجاة من مخالب المحاكمة الظالمة التي لولا تلك المكاثفة النسوية لانتهت بما لا يحمد عقباه. تبنت الكاتبة تلك المحاكمة التي صممت أركانها دون أن تغفل عن المادة أو الحمولة التراثية التي تزخر بها بيئتها التي نشأت بجنباتها.
كانت مساهمتي في ترجمة نص «أميرات» محاطة بهالة من التعقيدات والمكاره نظرا لتطرقها لمواضيع بجرأة فائقة تعدت فيها كل الخطوط الحمراء التي لا يتقبلها المجتمع العربي خاصة إذا كان النص المسرحي سيمر إلى الخشبة ليعرض على جمهور محافظ حتى وإن تظاهر في بعض الأحيان هذا الجمهور بالتفتح وقبول التغيير، وتجاوز الأفكار البالية المهترئة، فإن المترجم يجد نفسه حائرا بين نقل أفكار الكاتبة كما هي أو تكييفها وفق ما تتطلبه ثقافة اللغة الهدف، متخذا قرار الخيانة التي حاربها الكثير من منظري الترجمة على غرار جورج مونان.
لم يكن من مخرج في ترجمة هذه المسرحية غير الحرص على اختيار المتقابلات اللفظية والمعنوية التي توائم وتتماشى مع التركيبة النفسية والفكرية والثقافية لهذا المتلقي الجديد لإحداث الأثر نفسه الذي أحدثه نص الانطلاق. كما يجد المترجم نفسه مجبرا على ارتداء لباس الرقيب والقاضي، مما يخلق ثورة في نفسه تولد العديد من التساؤلات؛ فبما أن فاطمة قالير تعمدت الكتابة عن هذه الافكار الجريئة بالحدة نفسها التي يتلقاها الجمهور في الضفة الأخرى رغبة منها في إحداث ثورة لدى المتلقي العربي. وقد تكون قد رغبت في تحريك الراكض في وضعية المرأة في المجتمع العربي، واستنادا للفرضيات السابقة، هل للمترجم الحق في أن يخفف من الحدة التي أرادت الكاتبة أن تطرح بها تلك القضايا التي رأت من الضرورة بما كان أن تزعج وتقزز من أجل أن تغير. ألم تكن فاطمة قالير واعية بجرأتها فاتخذتها وسيلة لتغيير العادات والتقاليد التي تكبل المرأة وتمنعها من التقدم في الطريق الذي اختارته هي حتى لا ترضخ أو تنصاع لما سطره لها هذا المجتمع بتقاليده وعاداته وأعرافه المضللة؟.
لم تكن فاطمة قالير الوحيدة التي كتبت مسرحا باللغة الفرنسية محملا بثقافة عربية أو بالأحرى جزائرية، فكاتب ياسين هو الآخر كتب نصوصا باللغة الفرنسية التي عدّها غنيمة حرب مستلهما تراثا جزائريا مغاربيا.
ومما لا شك فيه أن الكاتبة تأبطت بحقوق المرأة بعدما آمنت بضرورة التغيير وهي بذلك من الأسماء التي ولجت الأدب النسوي ومنه المسرح النسوي بقناعة تامة أنه الجسر الذي سيؤدي لا محالة إلى إحداث الثورة وخلخلة الموازين من أجل أن تظفر المرأة في المجتمعات العربية بالعيش الكريم و»إذا كان الأدب النسوي وليدا لتطور المجتمع ونمو الوعي لديه، مما أدى إلى كسر بعض العادات والتقاليد والأعراف الاجتماعية وتلاشيها من المنظومة الجمعية، و ذلك ما سمح بتحسن أوضاع المرأة و تغيير النظرة السابقة عنها»  .كما أن الكتابة النسوية دون تغييب الجسد هي أسلوب ومنهجية استفزازية من أجل إحداث التغيير والنهضة المنشودين، كما أنها ضرب من النضال الهادف «صارت الكتابة بالجسد نضالا يهدف إلى تغيير الموقع في المجتمع الذي اعتاد الإجهاز على العديد من حقوقها وفي مقدمتها حقها في التعبير المختلف».
وتجدر الإشارة إلى أنه بالإضافة إلى عدم تخلص الكاتبة من السردية الشفهية التي مارستها وهي تتفنن في الحكي أو هي قاصة بارعة في توصيف الواقع ومزجه بخيالها الخصب الذي يمنح الحدث أبعادا لا متناهية. وهذا ما كان أيضا عقبة في طريق المترجم الذي وجد في عملية مراعاة النص المسرحي وطريقة كتابته التي تعتمد على الحوارات الطويلة التي ترد أحيانا بالغة الدارجة الجزائرية للمنطقة التي تنتمي إليها الكاتبة.
 


ياسمين عباس