العدد 739 صدر بتاريخ 25أكتوبر2021
“انسوا هيروسترات” هذا ما طالب به القياصرة والكهان.
“انسوا هيروسترات” هكذا أمر الجبابرة والطغاة.
“انسوا... انسوا” ولكن هل تستطيع الأوامر السيطرة على ذاكرة الناس.
هذه العبارات ما زلت أسمعها بصوت أستاذي د. فوزي فهمي الكاتب الكبير ورئيس أكاديمية الفنون السابق -رحمه الله- وما زال صداها يرن في أروقة الصرح العظيم المعهد العالي للفنون المسرحية، التى قالها في بداية محاضرته الصباحية، والتي كان يلقيها في تمام الساعة التاسعة صباحا كل يوم إثنين. وقد كانت محاضرة مقدسة بالنسبة لي كطالبة، وقد ظلت كذلك حتى بعد تخرجي من المعهد، وكنت أحرص دائما على حضورها رغم أنها كانت تبدأ مبكرا، ومرفوض التأخير تماما ولو دقيقة عن ميعاد المحاضرة، وكان حرصي ليس خوفا من نسبة الغياب، ولكن لشعوري كطالبة بأنها محاضرة ثمينة ومفيدة، ورغم أنني لم أكن بذات الخبرة التي أنا عليها الآن، وقد كانت محاضرة شيقة مليئة بغذاء للعقل، والروح يتخللها بعض المرح، وكأنها توليفة رائعة صنعت بدقة من محاضر عبقري يستطيع توصيل المعلومة المغلفة بالأفكار التي ببساطة إن تدخل عقولنا تكون نواة لثمرة تكبر في عقولنا وأرواحنا وتخلق منا أجيالا من الكتاب المثقفين والنقاد، لنرى الحقائق بشكل مختلف ونستطيع بدورنا تقديمها للفن والدراما أيضا بشكل مختلف.
ورغم مرور أكئر من عشرين عاما على هذه المحاضرة، فأنا أتذكرها حاضرة إلى ذهني بكل تفاصيلها، فقد كانت من الجمال والتأثير الذي يجعلها تفوق وتخترق حدود الزمن، “فهل تستطيع الأوامر السيطرة على ذاكرة الناس”، فهي عبارة تذكرني أيضا بفيلم “المصير” للمخرج يوسف شاهين على لسان أحد أبطال الفيلم، وهو الفنان نور الشريف في دور “ابن رشد”، والعبارة هي “إن الأفكار لها أجنحة محدش يقدر يمنعها توصل للناس”. وقد أكملت تذكري للمحاضرة، ولكن لا أعرف لماذا تذكرت الآن هذا الهيروسترات، فهل ذلك لما أراه يحدث الآن من أفعال، وأيضا أقوال، تارة لإنصاف المثقفين، وتارة لبعض ممن يسمون أنفسهم علماء، ووجدت نفسي أقوم بإحضار نص المسرحية من مكتبتي وأقوم بإعادة قراءتها من جديد، فوجدت في بداية المسرحية أن الكاتب قد كتب عن لسان شخصية من شخصيات المسرحية أسماها “رجل المسرح الآتي”.
رجل المسرح: واليوم، عندما أصبحت الكرة الأرضية تهتز من جراء الطلقات النارية والانفجارات، وفي وقت أصبحت فيه الجرائم والقسوة شيئا طبيعيا لبعض البلدان، فإنني كثيرا ما أتذكر ما حدث وقتها.. في القرن الرابع قبل الميلاد.
وقد أيقنت أن هذه الكلمات إجابة على سؤالي: لماذا تذكرت هذا الهيروسترات؟ فما يحدث الآن يذكرني كثيرا بأحداث هذه المسرحية العبقرية. وهنا يأتي صوت أستاذي د. فوزي فهمي مرة أخرى ليقول “ولكن من هو هيروسترات؟”، ثم يكمل: هيروسترات هو إنسان عادي، ولكنه قرر أن يكون غير عادي، قرر أن يكون مشهورا وخالدا في ذاكرة الناس، بعد أن فقد الثقة في أشياء كثيرة في الحياة، قرر ألا يفعل ما فُرض عليه على أنه من المسلمات، واستغل كل ما لديه من ذكاء ومكر وجنون وشجاعة وعدم مبالاة بالحياة لكي ينفذ أفكاره، الفرق بينه وبين أي إنسان عادي يعيش في زماننا هذا، أن من يحاول أن يفعل ما فعله سوف يعاقب بالسجن أو النفي عن وطنه، ولكن هيروسترات لم يعاقب بأي من هذه العقوبات، وذلك للذكاء الشديد الذي كان يتمتع به، من ناحية. ومن ناحية أخرى، فقد حكم الموقف العديد من الأشياء التي أرادها الآخرون على اختلاف مواقعهم ومناهجهم، فهناك الكاهنة والملك وزوجة الملك والقاضي والسجان والرجل المرابي، ولكن ماذا فعل هيروسترات ليستحق العقاب والسجن وينتظر المحاكمة؟ ماذا فعل؟ ما فعله أنه حرق المعبد الذي يتعبد فيه الإغريق ويقدمون القرابين للآلهة تقريا لها ورغبة في قضاء حوائجهم، حرق معبد الربة أرتميدا أفخم معبد في التاريخ وإحدى عجائب الدنيا السبع، دون أي خوف من الآلهة وكهنتها، وهو يعرف عقوبة جرم كهذا. وقد تم القبض عليه ودخل السجن، وتدور كل أحداث المسرحية من داخل هذا السجن، في مدينة إيفيس الإغريقية عام 356 قبل الميلاد، التي ألفها جريجوري جورين، الكاتب الروسي عام 1970، ومن داخل السجن يتحكم هيروسترات في ما خارجه، وبدل من إعدامه فورا لم يحدث ذلك، بل حفر هيروسترات اسمه في سجل التاريخ، فهل يمكن لفعل أحمق أن يصنع مجدا؟! وهل الفعل أحمق فعلا؟ وهل يستطيع هذا البائع الذي أعلن إفلاسه ولن ينل حظه في العمل أن يفرض نفسه على ذاكرة الناس. والحقيقة، إن هيروسترات لم يعدم لأن كهنة المعبد طلبت من الحاكم تأجيل محاكمته حتى تقتص منه الآلهة، فقد فكر الكهنة ماذا يفعلون مع هذا الشاب الذي تجرأ على الآلهة بحرق معبدهم، فإذا قاموا بإعدامه قد يفقد الشعب الثقة بآلهة المعبد التي لم تستطع أن ترد عن نفسها الإيذاء، وهم الذين يتقلدون مكانتهم ويكسبون الأموال من خلال هذا المعبد، في حين طالب القاضي الذي يمثل العدل بإعدامه فورا. ولكن هيروسترات قرر أن يستغل هذا الفعل الأحمق في اكتساب الشهرة والمال، فقام برشوة السجان لكي يأتيه بالتاجر المرابي، ثم يغريه لكي يشتري منه مذكراته، وهي مذكرات حارق المعبد التي سوف يتهافت عليها الكثيرون، والجميع كانوا يحملون الكثير من الفضول لمعرفة شخصية حارق المعبد، ومن أهم هؤلاء زوجة الحاكم التي أرادت أن تشارك في الدخول إلى التاريخ، بأن يكتب في مذكراته أنه حرق المعبد لأنه يحبها، والحاكم بدوره خاف على كرسي العرش لأنه فارسي يحكم الإغريق. وفي النهاية لم يبقَ من هيروسترات إلا ذكراه، وما كان أمام الكهنة والملك إلا إصدار مرسوم يحرم ويمنع ذكر اسم هيروسترات حارق المعبد “انسو هيروسترات”.
والحقيقة، إن أستاذي العظيم د. فوزي فهمي اختار تلك المسرحية برؤية ثاقبة للمرحلة التي نمر بها كطلبة لقسم الدراما والنقد وكتاب المستقبل، لأن هذه المسرحية غنية جدا بالكثير من الأفكار التي ترتبط بأهم وأخطر آفات المجتمعات كالعنصرية والتجارة بالدين والرشوة وعلاقة الشعب بالحاكم. ثم يكمل أستاذي د. فوزي فهمي بقية المحاضرة بترك تساؤل مهم جعلنا شغوفين بقراءة المسرحية، وهو: لماذا حرق هيروسترات المعبد؟ لماذا كفر بالقرابين وآلهة المعبد؟ وهو ما تجيب عليه نهاية المسرحية. وتذكرت أيضا نهاية المحاضرة، فبعد أن شرح د. فوزي فهمي موضوع المسرحية أعجبت بها جدا، وقد أنهى كلامه بسؤالنا ما رايكم؟ هل نأخذ هذه المسرحية أم أقوم بعرض غيرها، فقمت أنا برفع يدي فورا قائلة له: “لأ يا دكتور.. المسرحية دي حلوة جدا”، فقال: تمام، انسوا هيروسترات. فقلت له: “ليه يا دكتور”، فنظر لي ضاحكا وقال: ده اسم المسرحية “انسوا هيروسترات”، وليس هيروسترات.
شكرا لمحاضرات دكتور فوزي التي كونت وجداني وعقلي. وإذا نسينا هيروسترات، فلن ننسى بالتأكيد الأستاذ والكاتب والمحاضر دكتور فوزي فهمي -رحمة الله عليك أستاذي العزيز.