«مسرح القسوة: ثورة على ديكتاتورية العقل وتمرد على الأنساق الثقافية»

«مسرح القسوة: ثورة على ديكتاتورية العقل وتمرد على الأنساق الثقافية»

العدد 735 صدر بتاريخ 27سبتمبر2021

تم مناقشة رسالة الماجستير بعنوان «مسرح القسوة: ثورة على ديكتاتورية العقل وتمرد على الأنساق الثقافية» مقدمة من الباحث نوزاد جعدان، وذلك بالأكاديمية العربية بالدنمارك، وتضم لجنة المناقشة الدكتور سيد علي إسماعيل (مناقشًا ورئيسًا)، الدكتور عمر محمد نقرش (مناقشًا)، الدكتور فيصل محسن القحطاني (مناقشًا)، والدكتور سعيد كريمي (مشرفًا). والتي منحت الباحث من بعد حوارات نقاشية انتظمت وفق شروط ومعايير أكاديمية درجة الماجستير.
وجاءت رسالة الماجستير الخاصة بالباحث كالتالي:
تعتبر ثنائية المسرح والجنون هذه، متشابهة ومتناقضة في آن واحد، إنهما عالمين رمزيين يلتحمان إلى حد الانصهار، ويفترقان كذلك إلى حد التناقض، ولعل ما يفسر هذه العلاقة المتناقضة بين هذين العالمين الغريبين، كون أحدهما يشكل تنظيما، وجنونا لا تنظيميا في آن واحد.
أليس المسرح جنونا عاقلا، والجنون مسرحا غير عاقل؟ وهكذا، فإن هذه المفارقة هي العتبة التي سنلج من خلالها إلى هذا الموضوع الإشكالي، فهو مثير من وجهة نظر جمالية تستحضر الممارسة الركحية، بوصفه فضاء للجنون، وباعتباره طاقة تخيلية، وإبداعية مهمة؛ وهو أيضا موضوع متعب، لكونه يستجلي الحساسيات المرتبطة بالجنون لأنه معادل، لكل ما هو ضد عقلي، وخارج عن المألوف، وفاقد للتواصل، ولا إنتاجي، ومخرب، وفوضوي. وهنا يحضر المنظور الاجتماعي بكل إكراهاته، وآليات إقصائه الرمزية، والفعلية، وأشكال تهميشه المؤسسية.
وفي مقاربتنا هاته، سنحاول تحجيم مساحة الأخلاقي، بل وتجاهلها لمعاجلة العلاقة الكائنة والممكنة بين المسرح والجنون، من أجل الكشف عن الأبعاد الجمالية لهذه العلاقة من خلال ثنائية: مسرح الجنون وجنون المسرح، دون إغفال جانب مهم ترتب على هذا البعد الجمالي، وهو البعد العلمي، أو الطبي في هذه العلاقة.
ومن ثمة، فبهذا الشكل سنلج إلى عوالم أنطونان أرتو، وهو أحد رموز التجريب المسرحي في نموذج مسرح القسوة الذي أحدث فتحاً عظيماً في الميدان المسرحي، وأرخ لميلاد تجربة جديدة متفردة المعالم والقسمات، فمسرح القسوة يخلق رؤية جديدة، ويقيم علاقات مغايرة بالثقافة الإنسانية، تخرج من دائرة الاتباع الى الأفق المفتوح للإبداع، وتتجاوز المتفق عليه إلى المختلف فيه، ويشكل الجنون عنصرا هاما من مسرحه، ولكنه جنون عاقل، ومن التقاطعات بين ثقافتنا الغربية، والشرقية يحضر مسرح القسوة، لاسيما أن الشرق بثقافته وحضاراته الغنية، شكل منعطفاً حاسماً في لفت انتباه أرتو إلى هذا الآخر، وقاده نحو تفجير النسق الفرجوي الغربي. لذا، لا يعتبر الموضوع مستغربا، بل إن الشرق صار أهم مصدر من مصادر تفتق عبقريته المسرحية، حيث أوحى له بضرورة إعادة النظر في السمو المزيف للغرب، وانتقاد مركزيته، وهيمنته على الشعوب العريقة المغلوبة على أمرها. كما أن ولعه بالمسرح الشرقي ذو النزعة الميتافيزيقية، دفعه إلى تقديمه بديلا للمسرح الغربي ذو النزعة السيكولوجية المريضة والمبتذلة. 
ومن هنا، رأى أن يكون المسرح حارساً أمنياً على الطقوس والشعائر، والأفكار، والممارسات التي تضرب عميقاً في التاريخ، كما أنه من أشهر المترافعين عن العباقرة المرضى العقليين كما وصفهم الأطباء. 
وفي الفصل الأول الذي تناولنا فيه العقل والعقلانية بين الثقافتين الغربية والعربية، بدأناها بالأسطورة، والتقاليد، ومن ثم بزوغ العقل مع الفلاسفة اليونانيين كأفلاطون، وأرسطو، مرورا بتجارب ديكارت، وتقديس العقل، ثم تطرقنا إلى إشكالية النقل والعقل في الفكر العربي، خاصة صراع الفلاسفة مقابل الأفكار المعلّبة، ومن ثم وصلنا إلى نقطة الفكر العربي المعاصر وما ينقصه لكي يتطور، وشأن الفلسفة في الوقت الحالي. وفي المبحث الثالث، بحثنا فلسفة ما بعد الحداثة بدءا من نيتشه، إلى هوسرل، وهايدغير، وبول ريكور، وغادامير، وأفكارهم حول منزلة العقل، ومساجلاتهم الخاصة في هذا المجال، وفسح الطريق نحو الأفكار اللاعقلانية والإبداع.
أما في الفصل الثاني، فقد تطرقنا إلى موضوع الجنون، وإثبات الهوية المفقودة، بدءا من الموضوع الذي شكل مفترق طرق تائهة للباحثين، حول الفصل بين العبقرية، والجنون، والجمع بينهما، فبحثنا في موضوع تعريف الجنون، والتنقيب عن تاريخ الجنون عبر العصور، وكيفية التعامل معه في الثقافتين الغربية والعربية. أضف إلى ذلك، الحضارات السابقة، ثم نظرة الدين للجنون، والفلاسفة، والمؤسسات الطبية، وأن الجنون ليس مرضا، بل هو تعبير عن حالة عقلية تقف في منتصف الطريق بين مرحلة ذهنية وأخرى، تنقل الكائن من مرحلة إبستمولوجية إلى أخرى. وسعينا في دراستنا هذه أيضا إلى التعرف على أبعاد حضور الجنون في مسرح القسوة، وعبقرية أرتو، وانتقاله من السريالية إلى الثورة الشاملة في مسرح القسوة، ونسف كافة الأنساق الثقافية الجاهزة في الثقافة الغربية، وآلية تحدي آرتو ديكتاتورية العقل. 
وفي الوقت نفسه، حاولنا في هذا البحث كشف تجليات الجنون في مسرح القسوة، من خلال دراسة استكشافية بحثية لرصد مسرح القسوة، وإثبات طليعيته، وأهم تجلياته وآلياته، وإبراز ما قدمه من نموذج مسرح علاجي بالسحر النابع من الحركة، والتعرية العنيفة للصراعات المتأصلة في اللاوعي الإنساني الجماعي، ففيه يصبح للعرض وظيفة جسدية، مثل حركة الدم في العروق، أو مرور صور الأحلام في المخ، وفيه أيضاً يختفي التناقض بين المؤلف والمخرج، وينشأ خلق جديد يكون مسؤولاً عن العرض كله، بما فيه من حرفة وقصة، وفيه تصبح للكلمات الأهمية ذاتها التي تتخذها في الأحلام والرؤى، وفيه تختفي المنصة والصالة ويصبح المسرح عرضاً يقام في أي مكان، في مخزن، أو في كراج، قاده هذا الشكل المقترح إلى البحث عن لغة مسرحية توازيه في الإدهاش، لغة بعيدة عن الكلام العادي الذي أثقل المسرح الكلاسيكي وجعله مملاً، لغة تنتمي لخصوصية خشبة المسرح، لغة ملموسة موجهة للحواس.
كما أن اختيار هذا الموضوع هو بمثابة تحد، لما يمثله من أهمية كبرى. وبخاصة، مرافعة أرتو عن المجانين، وتبيان مدى ديكتاتورية الأنظمة في عزل المبدعين عن المجتمع وإبعادهم، وإقصائهم عن دورهم المحوري.
 أما عن الصعوبات التي جابهتنا منذ البداية، فنعترف أنّھا من طبيعة فلسفية تتلخص أساسا في ما يلي:
- رغم حميمية البحث، والمُتعة التي يُوفرھا للباحث، أو حتى للقارئ المُتمتع، إلا أنھا تشكَّل صعوبة فائقة نتيجة كثرة الرموز، والاستعارات المعتمدة، فكثيرا ما وجدنا أنفسنا ميالين لاعتماد معنى، ربما يختلف تماما عن المعنى الذي رمى إليه الفيلسوف، ما بجعلنا نقف محتارين نَظْلِم الفيلسوف أحيانا، ونظلم أنفسنا أحيانا أخرى.
- أما وفرة وتعدد القراءات فزادت الطين بلة، كوننا اصطدمنا في ھذا البحث بحوارات متعدّدة السلط، فنجد قراءات حذرة، و أخرى مغرمة، و ثالثة مناهضة. بل حتى القراءات العربية نجدها تختلف باختلاف مذاهب أصحابها.
- وكذلك، شساعة جغرافيا الموضوع، وتعدد أوجھه جعلتنا في الكثير من المرات نقع في مزالق كثيرة، بدءا من إشكالية الموضوع إلى غاية تحديد النتائج. فالموضوع ھنا، يرتبط بعلم النفس، وبالأنساق المسرحية وطرق بنائھا. ونعترف ھنا أنه لولا رحابة الصدر التي ميزت الأستاذ المؤطّر، وإغداقه لنا بالنصائح، والتوجيھات لما استطعنا تجاوز الكثير منھا. وفي النهاية، نقول ونؤكد أن ھذا العمل الذي لا ندعي فيه الكمال، إنما هو محاولة متواضعة، حاولنا فيھا، ومن خلالها فھم طبيعة العلاقة بين المسرح، والجنون، والعقل، ورجاؤنا فقط أننا قد وفقنا في ذلك.
 


ياسمين عباس