علي عبد النبي الزيدي: الناقد حسن عطية رجلُ مسرحٍ وتأريخ من الجمال

علي عبد النبي الزيدي: الناقد حسن عطية رجلُ مسرحٍ وتأريخ من الجمال

العدد 720 صدر بتاريخ 14يونيو2021

قدم الكاتب المسرحي العراقي علي عبد النبي الزيدي، شهادة في ندوة بعنوان «الناقد المسرحي المصري الدكتور حسن عطيه واسهاماته في المسرح العراقي»، والتي نظمتها نقابة الفنانين العراقيين في بغداد وبشراكة مع كلية الفنون الجميلة جامعة بابل.
وجاء نص الشهادة للكاتب المسرحي العراقي كالآتي: 
واحدةٌ من اشراقاتِ المسرح العظيمة هي شطب مسافات خرائط الجغرافيا البعيدة بين الشعوب بفضله، وتقترب الأصوات والأرواح معاً في بيته الكبير والساحر، وعلى خشباته يحكي حكاية صراع الإنسان الجميل مع الإنسان القبيح، الإنسان المقموع من قبل قوى تريد له الشر، مع السلطة، الآلهة البشرية، السيد، الجلاد... وفي الجانب الآخر.. حكايةُ أن تقترب بروحِك وتصوراتِك ووعيِك مع الآخر البعيد في هذا الكون مترامي الألم والهموم والأسئلة والانتظارات، ويكون (البعيد) بالمسافات جزءً من ذاكرتك ويومياتك وربما حتى سعادتك، وما أن تقترب من هذا (الآخر) الجميل حتى تعرف أن هناك الكثير من المشتركات الربّانية الراقية بينكما، وكأنكما خُلقتما على شكل نُسخٍ متشابهةٍ موزّعة على هذي الأرض (الأم) التي خرجت هذه النُّسخ الطيبة من رحمها، ونموذجٌ مهمٌّ لهذه المُشتركات هو الدكتور حسن عطيه الذي أحببته قبل أن أراها لكثرة المحبين له من المسرحيين العراقيين الذين يتحدثون عن رجل ملائكي، وقرأت له كثيراً قبل أن ألتقيه في القاهرة بسنوات، وهو يُشعرك للوهلة الأولى من لقائك به أنك تتحدث مع انسان تعرفه منذ زمن بعيد دون أن تدري، وهو يقترب منك بروحه وتواضعه وكلماته وصدقه وانسانيته، ويدخل إلي القلب مباشرة، كُلُّ هذا لأنه ببساطة –كما أرى- رجلُ مسرحٍ من حب، وقد أدهشني بآرائه عني ككاتب مسرحي عراقي مشيراً لنصوص كتاب الإلهيات وكتاب ما بعد الإلهيات، مؤكداً على طلابه في الدراسات العليا دراسة هذه النصوص، ومنهم طالبة الماجستير مروه الجبالي في رسالتها (تكفير التفكير في المسرح العربي).. وهو عنوانٌ على قدرٍ كبيرٍ من الأهميةِ والجدل والخطورةِ في طروحاته.. تبناه لطالبته وراح معها يُشيران لنصوص الإلهيات كنموذج لهذه الرسالة في موضوعةٍ مسكوتٍ عنها في واقعِ مسرحنا العربي الذي يُغلق عينيه ويدير ظهره لمناقشة هذه الاشكاليات التي تتعلق بالمقدس واشتغالاته في المسرح والفن عموماً، والدكتور حسن عطيه يُدرك تماماً -كما أكد لي- أهمية أن ندرس المفاهيم الجديدة لعلاقتنا مع المقدس من خلال الكتابة للمسرح والتي انطلقت أساساً من جدران المعابد، أي من روح المسرح الإغريقي وهو يشير لوثنياتهِ آنذاك بوصفها مقدساً، والجديد هنا الاشارة للإلهيات كمفهوم توحيدي وقرآني خالٍ من فعل القصد في قضية الذات العليا وتجلياتها من عدمه، بل هو التأكيد على تجليات الوجود بذاته العليا وبناء علاقة جديدة ومختلفة مع المقدس الذي نُدرك عظمته الآن، وهي قراءة رجل المسرح المتحرر الذي يُدرك ان الفرضيات الجديدة التي أتبناها تشتغل على أفكار بكر في روح مسرحنا العربي بعيداً عن حدود القصديات الخانقة والفهم الميت لتلك الأفكار.
اهتمامات الدكتور حسن عطيه بالمسرح العراقي عرفتها عن كثب وهو يتحدث عن تأريخ هذا المسرح بأسمائه وتجاربه وعروضه ومبدعيه في القاهرة والعديد من البلدان العربية، ويتحدث عنها كناقد وشاهد عيان على تلك التجارب المؤثرة، مدركاً أننا كجيلٍ متأخرٍ لهذا الأسماء قد خرجنا من معطف مبدعين كبار قدموا الكثير من أجل أن نكون الآن.
لا يمكن الاشارة للمسرح المصري دون أن نشير بدقة للدكتور حسن عطيه واسهاماته منذ مطلع سبعينيات القرن الماضي إلي آخر لحظة من عمره وهو يُعد الوريث الشرعي لجيل الستينيات من النقاد والباحثين في مصر، وقد ترك لنا إرثاً كبيراً من كتبه ومقالاته ودراساته عن المسرح والسينما وسواها في حركة دؤوبة ومتواصلة مع الفن المصري لا تقبل التقاعد.. بشكل تشعر مع هذا الرجل بأنه تحوّل إلي مؤسسة متحركة وفاعلة ومؤثرة في المشهد المسرحي المصري، فهو هنا رجل مسرحٍ تنويري تراه دائما يتنفس الأوكسجين النقي من خشبات المسارح، وتجده أيضا بين أروقةِ الندوات الفكرية والتطبيقات النقدية على العروض، وتجده على صفحات المجلات والصحف اليومية ناقداً مسرحياً متجدداً لا يركن للثبات في اطروحاته النقدية بل تراه ناقداً حداثوياً مواكباً لحركة وحياة المشهد المسرحي الجديدة بكل تفاصيلها، واستاذاً اكاديمياً في المعهد العالي للفنون المسرحية في مصر وأباً روحياً لطلابه الذين آمنوا به وأحبوه وتأثروا به، ومخططاً ومديراً لمهرجانات المسرح المتعددة... وهنا تكمن واحدة من اسهاماته الادارية والنقدية المهمة التي تتواصل مع (الآن) المسرحي، فهو لم يركن لحركة النقد الستيني أو السبعيني بانطباعاتها بل راح يؤكد أهمية مواكبة حركة النقد المسرحي بمنهجيةٍ وأدواتٍ جديدةٍ تتناسب مع تحوّلات نصوص وعروض المسرح الجديدة وتتحايث معها، حركته المتواصلة هذه.. هي رسالةٌ غاية في الأهمية لكل المشتغلين في المسرح.. مفادها العمل إلي آخر لحظات العمر في مشروعك الإبداعي وعدم الركون لليأس أو اللاجدوى وسواها من المفردات التي تُحارب المبدع وتجعله أسيراً لها.
أما بيت الدكتور حسن عطيه فهو ملاذنا الجميل في مصر المحروسة، ملاذٌ رائعٌ للكثير من المسرحيين العراقيين والعرب على حدٍّ سواء، بيت الأب الذي يحتضن أبناءه القادمين من بلدان شتى.. كأنك تدخل بيتك تماماً وتمسح من رأسك فكرة الغربة في بلد آخر، أمُّنا الدكتورة عايده علام زوجة الدكتور الراحل تجدها بانتظار طرقات الباب من قبلِ أبنائِها وهي تشتاق للقائهم أيام مهرجان القاهرة للمسرح التجريبي وغيره من المهرجانات، وتضمهم لروحها المحبة النقية بنقاء روحها.. فأنت في بيت حسن عطيه.. الأب بمعنى الكلمة، وجودك فيه.. طقسٌ لا يُوصف في هذا البيت الطيب والعامر الذي يضمُّ الكثير من الأحبة بمختلف جنسياتهم العربية ويجمعهم بمودة لا مثيل لها، ويشير لك دكتور حسن رحمه لله إلي مكتبته وسط البيت بأن خذ ما تشاء من الكتب التي تحتاجها بكرم المحب والأب.
الاحتفاء بهذه الشخصية الفذة هو احتفاء بخمسين عاماً وأكثر من العطاء والانجازات الكبيرة والمشاريع والأحلام والتطلعات والأفكار، شريط من الابداع وحكايا المسرح وذكرياته الحلوة، وهو احتفاءٌ أيضاً –بتقديري- بأجيالٍ عاصرت هذا المبدع وكانوا خير الآباء لأجيالنا المسرحية، وأزعم بأنه هو احتفاءٌ عراقي بألق وأهمية المسرح المصري بعمومه.
 


ياسمين عباس