مهرجان شرم الشيخ الدولي للمسرح الشبابي .. بين تحديات كورونا وعوائق اللغة

مهرجان شرم الشيخ الدولي للمسرح الشبابي ..  بين تحديات كورونا وعوائق اللغة

العدد 693 صدر بتاريخ 7ديسمبر2020

 رغم الحصار العالمي المفروض على البشرية بأسرها جراء جائحة كورونا التي لم تزل تهدد العالم كله حتى الآن ، نجح منظموا مهرجان شرم الشيخ الدولي للمسرح الشبابي ، وعلى رأسهم المخرج الشاب «مازن الغرباوي» في تنظيم الدورة الخامسة من المهرجان والتي حملت هذا العام إسم الفنانة الراحلة «سناء جميل» من خلال استضافة عشرة عروض ضمن ثلاث مسابقات للعروض الحية مثلت العراق وكوسوفو وإسبانيا وليبيا إلى جانب مصر .
 إلا أن العائق الأساسي الذي يعترض طريق العروض الدولية بصفة عامة في أي مهرجان يظل هو عائق اللغة والذي تحاول بعض المهرجانات تجاوزه من خلال توفير ترجمة باللغة الإنجليزية – كلغة عالمية – للعروض المقدمة ، وهو ما لم يحدث في دورة هذا العام من المهرجان ، ولعل السبب وراء ذلك هو سرعة الإعداد للدورة والظروف العالمية التي أعاقت الكثير من المهرجانات المسرحية الدولية عن الظهور وأجبرتها على الاحتجاب أو على الأقل على تغيير صيغتها إلى صيغة قد لا تبدو مسرحية في الأساس ، فالمسرح تفاعل حي بين جمهور حي وممثل حي على خشبة مسرح أو في فضاء بديل معد للعرض المسرحي . لذلك فإن إقامة هذه الدورة بكل فعالياتها الأساسية والمصاحبة وبكل ما مثلته من تحديات ومخاطر حقيقية تحملها فريق إدارة المهرجان هو بالفعل عمل بطولي يستحق التحية في حد ذاته لإثباته بالدليل العملي أننا نمتلك من الكوادر الفنية الشابة من يستطيعون إقامة فعالية مسرحية دولية وتأمين انعقادها تحت أقصى وأقسى الظروف .
 ومن خلال مشاهدتي لعروض الدورة الخامسة من المهرجان والتي انعقدت في الفترة من 16 إلى 20 نوفمبر 2020 اخترت الكتابة عن ثلاثة عروض ترتبط معاً بفكرة محاولة تحدي عائق اللغة لإيصال الرسالة المسرحية إلى الجمهور دون غموض أو إلحاح ، تلك العروض هي العرض المصري «إيزيس» والعرض الإسباني «أبي رجلاً» والذان قدما ضمن مسابقة العروض الكبرى ، وعرض كوسوف «حلم هاملت» والذي قدم ضمن مسابقة عروض المونودراما .
إيزيس ... حتمية البعث وأبدية البحث ..
منذ تأسيس فرقة فرسان الشرق التابعة لدار الأوبرا المصرية انصب اهتمام الفرقة على استلهام التراث المصري بكافة صوره وتقديمه في إطار درامي راقص معاصر يتناسب مع الروح الحديثة لمصر لتتحقق بذلك معادلة الأصالة والمعاصرة في ما تقدمه الفرقة من عروض .
وقد استضاف مهرجان شرم الشيخ الدولي للمسرح الشبابي في دورته الخامسة لهذا العام عرض «إيزيس» للمخرجة المصرية «كريمة بدير» ضمن فعاليات مسابقة العروض الكبرى كعرض افتتاح لفعاليات الدورة وكممثل رسمي لمصر في فعاليات هذه الدورة ، وهي أول مشاركة في مهرجان دولي للعرض .
يقوم العرض على استلهام التراث الأسطوري المصري القديم المتمثل في عدد من الأساطير المرتبطة بالربة «إيزيس» أولها أسطورة الخلق والتي يتزاوج خلالها «جب» (الأرض) مع «نوت» (السماء) لإنجاب أربعة أبناء هم أوزيريس وإيزيس و ست و نفتيس. لينتقل العرض بنا إلى قصة الحب بين أوزيريس وإيزيس التي تنتهي بزواجهما ومن ثم زواج ست بنفتيس غير أن نفتيس تعلم بأن ست غير قادر على الإنجاب لذلك تلجأ إلى أوزيريس ليتزوجها وينجب منها «أونوبيس» الذي تلقيه أمه وسط الكلاب خوفاً من غضبة ست إن علم بالأمر إلا أن إيزيس الأم الطيبة تتلقاه وتمنحه رعايتها ليكبر تحت رعايتها وحنانها . وتتصاعد القصة لتصل إلى ذروتها عندما يقرر ست قتل أخيه أوزيريس من خلال حبسه في التابوت للاستيلاء على عرش مصر ، وعندما يحدث ذلك تعاني مصر من كسوف للقمر لنرى بنات الحور يرقصن للقمر ليعود بنوره من جديد ليملأ السماء . ولا يكتفي ست بحبس أخيه في التابوت وإلقائه في النيل وإنما يمزق جثته ويبعثرها في أرجاء مصر لتبدأ رحلة إيزيس الملحمية بمعاونة أونوبيس لجمع أشلاء أوزيريس وإعادة بعثه من جديد لتنجب منها البطل حور المخلص الذي ينتقم لأبيه . وخلال تلك الرحلة تستعرض مخرجة العرض التراث الفولكلوري المصري من رقصات وطقوس من الصعيد إلى الدلتا في مزيج تراثي يجمع بين أصالة التراث ومعاصرة الشكل المسرحي المقدم به وهو الرقص المسرحي الحديث .
يؤكد العرض بجميع مفرداته على أن إيزيس / الأم الحنون غي رحلتها الأبدية بحثاً عن جثة حبيبها وزوجها أوزيريس لتجميع أشلائه إنما هي في سعي دائم نحو تحقق حتمية البعث بعد الموت وتجدد الحياة من رحم الأرض التي تحتضن بذرتها ليخرج منها الخير فياضاً على هذا الوادي الطيب وأهله الطيبين . إنها في أبدية بحثها عن الزوج / الحبيب إنما تسعى إلى تحقيق حتمية استمرار الحياة رغم كل العوائق والقيود وتجددها من بين ركام الموت .
ورغم قلة استخدام اللغة المنطوقة – وهي اللغة العربية بلهجتها المصرية - في العرض واعتماد العرض كلياً على التجسيد الراقص للحدث إلا أن الجمهور من مختلف الجنسيات استقبل العرض بحفاوة بالغة وتفاعل كبير يثبت أن التراث المصري القديم صالح للتقديم بكل الصور على خشبة المسرح كما أنه يحمل إمكانية كسر حواجز اللغة للوصول إلى الجمهور بكل أطيافه – وحتى الذي لا ينتمي إلى الثقافة المصرية وهو ما يؤكد أن مثل العروض تلعب دوراً بالغ الأهمية على الصعيد الدولي في التعريف بالثقافة المصرية وحضارتها العريقة .
قدم العرض في افتتاح المهرجان يوم الثلاثاء الموافق 16 نوفمبر 2020 على خشبة مسرح قصر ثقافة شرم الشيخ ، وهو من أشعار «محمد زناتي» كما قام بإهداء تصميم الديكور والملابس «أنيس إسماعيل» والإعداد الموسيقي «محمد مصطفي ، إضاءة «رضا إبراهيم» . وقام بالأداء الصوتي لا?يزيس الفنانه - فاطمه محمد علي . صمم العرض وأخرجه كريمه بدير، كما توج العرض بجائزة لجنة التحكيم الخاصة كأفضل عرض بمسابقة العروض الكبرى لهذا العام .
«أبي رجلا» ... لعنة التنافسية وعلاقات القهر..
عندما تتحول الحياة إلى سباق تنافسي بالغ الحدة ، يتحول الدافع المحرك لأي نشاط بشري إلى الفوز بالسباق ، وعندها يصبح الفوز مصدراً للفرح بينما الإخفاق فيصبح عنصر جذب واضح للشعور بالإحباط . تلك هي الركيزة الأساس التي ينبني عليها العرض الإسباني «أبي رجلاً» والذي شارك ضمن مسابقة العروض الكبرى بالدورة الخامسة لمهرجان شرم الشيخ الدولي للمسرح الشبابي .
كذلك فإن النزوع إلى السلطة يجعل من الإنسان إما متمسكاً بسلطته ممارساً لها في إطار من القمع والديكتاتورية أو خاضعاً لسلطة الآخر في حالة من الخنوع . إلا أن العرض يستعرض واحدة من علاقات القهر السلطوي غير المألوفة نوعاً وهي علاقة القاهر المستتر بالمقهور الظاهر ، وفي إطار هذه العلاقة يستخدم القاهر المستتر سلطته «الأبوية» في إملاء إرادته على الأتباع «الأبناء» لتحقيق الفوز أو الانتصار في صراع أو سباق يخصه هو . فهو بهذه الطريقة يؤكد على أن الأتباع المقهورين لا يعلمون إلى حد بعيد بنوايا القاهر بل أنهم قد يفرحون لإحراز الهدف وكأنه هدفهم هم دون أدنى معرفة بأنه مجرد أداة لتحقيق أهداف قوة قاهرة أخرى .
يصور العرض أربعة من لاعبي الكرة أو محبيها بينهما شابان وفتاتان – تحت قيادة مدرب يطالبهم ببذل الجهد لإحراز الهدف إلى الحد الذي قد يدفعك إلى الاعتقاد بأنه هو المتسلط القاهر إلا أن دوره لا يتعدى دور الوسيط الذي يتلقى هو الآخر قسماً من القهر من صورة الأب المتسلط أو الديكتاتور المستنير التي تظهر على شاشة عرض خلفية في تسجيل فيديو تفاعلي أثناء العرض . وهو بهذه الصورة يؤكد وجوده الافتراضي في حياة الأبناء / المقهورين وتسخيره لهم لإحراز هدفه والفوز بالدوري .
أما على مستوى المقهورين فهناك صراع من نوع آخر على من يمكنه أن يلقب نفسه بلقب الرجل ولقب الأب صاحب السلطة ، حتى أن إحدي الفتاتين تتمكن بمعاونة الشاب والقتاة الآخرين من انتزاع شارة القيادة (الكابتن) من فوق ذراع الشاب الذي كان يرتديها منذ بداية العرض والذي يعود للمطالبة بها إلا أن الشباب الثلاثة يراوغونه فتقوم إحدى الفتاتين بارتداء الشارة ثم يشرع الثلاثة في تداولها إلى أن يتدخل المدرب / الوسيط ليعيد الشارة إلى القائد مع ممارسته لقدر واضح من قهر على القائد فيما بعد كنوع من العقاب الضمني على هزيمته الضمنية المتمثلة في انتزاع الشارة من فوق كتفه .
وباستخدام فكرة فريق الكرة الساعي إلى الفوز بالدوري يحاول المخرج التماس مع فكرة الفساد المستشرية في أغلب المجتمعات المعاصرة من خلال ما يتم احتسابه من أهداف «كاذبة» يتعجب من احتسابها محرزها وخصمه في آن واحد . ليصل العرض إلى نهايته عندما يتحقق الهدف والفوز بالدوري ومع لحظة تسلم كأس البطولة يدرك الأربعة أنهم كانوا مجرد أداة في يد قوة أخرى ترغب في فرض إرادتها وإنفاذ أهدافها فيستقبلون كأس البطولة بمشاعر الإحباط مما يفقدهم فرحة الفوز .
مثلت اللغة التي قدم بها العرض عائقاً أساسياً في التلقي حيث قدم العرض باللغة الإسبانية دون ترجمة إلى الإنجليزية أو العربية ، كما اختار مخرج العرض بعض الجمل غير ذات الدلالة الواضحة لتنطق بالإنجليزية وهو ما زاد من تشتيت ذهن الجمهور في محاولة للبحث عن علاقة بين الجمل الإنجليزية المفهومة له وما يدور على خشبة المسرح .
رغم ذلك حاول الممثلون تحقيق قدر من التواصل مع جمهور العرض من خلال استخدام بعض الكلمات العربية التي يفهمها الجمهور ومنها «محمد صلاح» ، «ميسي»، «بطيخ» . إلا أن تلك المحاولات اقتصرت على تلك الكلمات ولم تتجاوزها حيث جاءت كمحاولة باهت لاستعادة انتباه الجمهور الذي تشتت كلياً بشبب عائق اللغة وعدم تناسب الصورة البصرية للعرض مع تقديمه على خشبة مسرح ، حيث كان من الأوفق لعرض كهذا أن يقدم في فضاء غير تقليدي كشارع مثلاً أو ملعب كرة قدم صغير إلا أن الظرف الاستثنائي الذي انعقدت فيه دورة المهرجان حال بكل تأكيد دون إنفاذ مثل هذا الاقتراح الذي لو تم لكن لتواصل الجمهور مع العرض شأن آخر .
قدم العرض على خشبة مسرح قصر ثقافة شرم الشيخ يوم الثلاثاء الموافق 17 نوفمبر 2020 . العرض من تأليف سيا تراسباسارتي ، ديكور سيليا ناسيمينتو ، ملابس أنا تومي والكوريوجرافيا من تصميم ماريا مورينو  ووضع له الموسيقى ريف سيلفر ، وأخرجه ألبيرتو سابينا .
حلم هاملت ... كوابيس رجل ميت !!
تعد رائعة وليم شكسبير «هاملت» واحدة من روائع المسرح العالمي التي راودت الكثير من المخرجين لتقديمها على خشبة المسرح برؤى متنوعة ومتعددة . فهاملت أرضية خصبة لإعادة الطرح خاصة في ظل ما تعالجه من حالة قلق وجودي لدى هذا الشاب الذي تضعه الأقدار في معترك صعب من المشاعر المتضاربة التي تدفعه نحو الانتقام من عمه لأبيه القتيل إلا أن ما يغل يده عن الانتقام هو ضلوع أمه – وفق ما يعتقد – في ذات الجريمة . هذه الحالة المنقولة عبر تساؤل واحد رئيس «أكون أو لا أكون ؟» وهذا التأرجح بين القيام بالفعل والامتناع عنه هي ما تمنح دراما هاملت ثراءاً خاصاً يضعها في قمة الأعمال الكلاسيكية الخالدة .
 جاءت مشاركة كوسوفو في الدورة الخامسة من مهرجان شرم الشيخ الدولي للمسرح الشبابي (دورة سناء جميل) من خلال العرض المسرحي «حلم هاملت» والذي شارك ضمن فعاليات مسابقة عروض المونودراما . يقوم العرض على معالجة نفسية لنص هاملت الشكسبيري إلا أن هاملت هنا في حالة ما بعد موته ، إلا أن سؤاله الخالد عن كينونته يظل هو المؤرق له حتى في قبره . يتعامل هاملت طوال العرض مع مجموعة من الأصوات التي تمثل شبح أبيه القتيل ، جريترود الأم ، العم القاتل ، بولونيوس والد أوفيليا ، روزنكراتس ، أوفيليا الحبيبة ، وفورتنبراس الشخص المهدد لسلام وأمن الدنمارك . ومن خلال تفاعله مع هذه الأصوات التي لا نرى شخوصها الفعلية يناقش هاملت مع ذاته صياغة جديدة للتساؤل الشهير . هذه الصياغة منحصرة في أن تكون كما يكون الاخرون أى أن تتماثل معهم في كل شيئ حتى في خنوعهم وقبولهم بالأمر الواقع أم لا تكون مثلهم وتظل على تمردك ، وكأن هذا التساؤل ما هو إلا رجع صدى لما كتبه الكاتب المسرحي السوري الكبير «ممدوح» عدوان» في رائعته «هاملت يستيقظ متأخراً ، غير أن طرح «أحلام هاملت» يختلف عن طرح عدوان في أمر واحد فقط وهو تمسك عدوان بإسقاط حالة القلق الوجودي الهاملتي على المثقف العربي في مجتمع ما بعد 1967 أما عرض «أحلام هاملت» فيطلق العنان لهذا التساؤل ليؤرقنا كبشر كما أرق هاملت كبشر . إن ما يؤرق هاملت في قبره هو تشككه الدائم في جدوى ما فعله وطريقة رد فعله على جميع الشخصيات التي شكلت تاريخ حياته الأرضية
 ورغم تقديم العرض بلغة غير العربية إلا أن الممثل تمكن من تحقيق حالة من الحميمية والتواصل مع الجمهور لذلك لم تشكل اللغة في هذه الحالة أى عائق أمام تلقي العمل حيث ركز العرض على جماليات حركة جسد الممثل في فراغ أجاد المخرج ومصمم الإضاءة تحديده بدقة بالغة للفصل بين الحالات النفسية المختلفة والتي تترافق مع سماع أصوات شخصيات بعينها . ولعل اللافت للنظر في هذه المعالجة هي حذفها لشخصية تمثل محوراً هاماً في الدراما الشكسبيرية وهى شخصية هوراشيو ، فرسالة العرض هنا ليست في حاجة إلى وجود هوراشيو الذي يمثل إلى حد كبير سواء عند شكسبير أو عند عدوان فيما بعد ، حالة التفكير المتعقل والضمير الواعي بالفعل وعواقبه ، لذلك عمدت «نينا مازور» مؤلفة النص الألمانية إلى حذف هذه الشخصية لأنه – وفق ما يطرحه العرض – ما حدث قد حدث وإنما نحن نتعامل الآن مع تبعات ما حدث .
 قدم العرض على خشبة مسرح قصر ثقافة شرم الشيخ يوم الخميس الموافق 19 نوفمبر 2020 في ختام عروض المونودراما وهو من تأليف نينا مازور ، تصميم الديكور والملابس زيني بالازي ، كوريوجرافيا ميراك زيمبراج ، موسيقي اندين راندوبرافا العرض من بطولة وإخراج مينتور زيمبيراج الذي توج كذلك بجائزتي أفضل ممثل وأفضل عرض في مسابقة المونودراما .

 


طارق عمار