حسين رياض.. الفنان صاحب الألف وجه

حسين رياض..  الفنان صاحب الألف وجه

العدد 620 صدر بتاريخ 15يوليو2019

شهد الواقع المسرحي المصري إصدارا رفيع المستوى يقدمه د. عمرو دوارة في كتابه العبقري “حسين رياض.. الفنان صاحب الألف وجه”، الذي يأتي كمرجع علمي وفني شديد الثراء، يتناول خلاله تلك التجربة الاستثنائية لأشهر فرسان الفن المصري والعربي، وصاحب الإسهامات والإنجازات والبصمات والمواجهات، وأحد أيقونات النهضة الفنية، فهو يمتلك بريقا مشعا ووعيا ثائرا، يفتح دائما مسارات للدهشة والأمان والجمال، والاحتفال المتجدد بالحياة. عرف ذاته واعترف بإنسانية الإنسان، وظل يعزف بأدائه الفريد على أوتار حلم ذهبي، ليساهم في منح الوجود المعنى والهدف والدلالات.
إذا كان د. عمرو دوارة يؤكد أن هذا الكتاب هو مجرد محاولة للاقتراب من ذلك العالم الإبداعي الرحب، بهدف تسجيل وتوثيق إنجازات وإسهامات الفنان حسين رياض، فإن الحقيقة العلمية تقتضي أن نسجل أن هذه المحاولة تمثل في حد ذاتها سبقا علميا ثقافيا رفيع المستوى، يأتي ككتابة حية في أعماق الزمن والفن والتاريخ والإنسان، تلك الحالة التي تضع المؤلف في مصاف الكبار الذين أدركوا معنى الوطن والانتماء والوعي والحرية، فبحثوا عن جوهر تجربة الفن وفلسفة الجمال، وكيفية صياغة مجتمع يبحث عن الصعود.
يؤكد مؤلف الكتاب أنه لا يمكن إجراء أي دراسة أكاديمية عن تطور فن التمثيل في ومصر والعالم العربي دون تناول أعمال الفنان حسين رياض، موضحا أن الكتابة عن قامة شامخة بحجم وقدر هذا الفنان هي عملية شاقة ومرهقة، نظرا لإسهاماته الكثيرة جدا والمتعددة والمتنوعة في كل المجالات، بالإضافة إلى غياب دور المراكز البحثية المسئولة عن التوثيق، وكذلك ندرة الدراسات الأكاديمية والمراجع التي تتناول أعمال الممثلين بالبحث والدراسة والتوثيق، وكذلك غياب البيانات والمعلومات الموثقة عن بعض مراحل حياته.
يرتكز كتاب «حسين رياض.. صاحب الألف وجه» على مفاهيم الدقة والموضوعية والرؤية العلمية، لكنه على مستوى آخر يأتي مسكونا بوهج الحياة ونبض الحرية وحرارة المشاعر، فالكتاب قراءة مبهرة في المسرح والسينما والإذاعة والتلفزيون، وهو أيضا اشتباك مع الفن والسياسة والمجتمع والاقتصاد، وفي هذا السياق يمثل الكتاب كشفا مبهرا عن روح الشغف وملامح الموهبة التي تسكن أعماق د. دوارة، الظاهرة الفكرية الفنية اللامعة والكيان الثقافي المشاغب، الذي تتضح بعض ملامحه عبر إنجازه العظيم “موسوعة المسرح المصري المصورة”، ذلك الإنجاز العبقري غير المسبوق عالميا، فهي موسوعة مسرحية مصورة توثق للمسرح المصري منذ 1870 وحتى الآن (في سبعة عشر ألف صفحة)، ومن المؤكد أن الزمن القادم سوف يذكر أن د.عمرو دوارة من الكبار المفكرين الذين بحثوا عن واقع مختلف، وساهموا بإيجابية في تغيير مسارات الواقع المسرحي والبحث العلمي في مصر.
في مقدمة هذا الكتاب الثري اعترف «د. دوارة» أنه وقع ومنذ الصغر في هوى وتقدير نجوم وعمالقة زمن النهضة والفن الجميل، ومن بينهم الرائد حسين رياض، النجم الذي لا يزال مضيئا في سماء الفن المصري والعربي، فقد تعلم مؤلف الكتاب من نجوم هذا الزمن عشق الفنون الراقية، وفي مقدمتها المسرح بتقاليده الصارمة، والالتزام بآداب ممارسة الفن بصفة عامة. ويذكر أن المبدع حسين رياض قد استطاع أن يحقق مكانته الرفيعة، ويمتلك بصمته الفريدة وخصوصيته الأثيرة عبر موهبته التي صقلها بالدراسة الأكاديمية والثقافة الموسوعية، والعمل الجاد مع كبار المبدعين العرب والأجانب، حتى إن كل الذين اقتربوا من عالمه قد أكدوا على أنه حالة إنسانية مدهشة، فهو شديد الاعتزاز بنفسه دون غرور متواضع وتموج أعماقه بالحنان والعطف والأبوة الصادقة والعطاء المستمر، يحترم فنه ويقدس قيم العلم والثقافة والمعرفة. ويذكر أن أداءه الفني يكاد يصل إلى العالمية عبر تيارات مشاعره الصادقة وملامح وجهه وصوته ولغة جسده، تلك الحالة من الصدق والإبداع التي اتضحت أبعادها على خشبة المسرح وعلى الشاشات الكبيرة والصغيرة حتى أطلقوا عليه لقب «أبو السينما المصرية».
يحتوي كتاب «حسين رياض.. صاحب الألف وجه» على مقدمة مدهشة غزيرة الثراء، عميقة التفاصيل والأبعاد ترسم ملامح التجربة، وتضع المتلقي في قلب هذا الوجود الإبداعي المثير عبر الفصول الثمانية للكتاب، الذي يتضمن: أولا «السياق التاريخي والفني» الذي تأثر به وأثر فيه، والمناخ العام لإسهاماته الفنية، ثانيا «السيرة الذاتية والمسيرة الفنية» خلال مراحل حياته المتتالية، بالإضافة إلى توثيق لأهم مظاهر التكريم ومجموعة الجوائز التي حصل عليها، وفي الفصل الثالث نتعرف على «الإسهامات الفنية» في مختلف المجالات الإبداعية، في حين يتضمن الفصل الرابع إبداعاته في مجال التمثيل المسرحي التي يطرحها «د. دوارة» بأسلوب منهجي متميز، أما الفصل الخامس فهو يتناول مجموعة إبداعات «حسين رياض» في مجال التمثيل السينمائي، ويأتي الفصل السادس بعنوان: «رؤى وكلمات من القلب» متضمنا مجموعة مختارة من أقواله التي وردت في الأحاديث الصحفية والبرامج الإعلامية، والتي توضح خبراته الفنية ووجهة نظره في الفن والحياة، تلك الحالة التي تكتمل أبعادها في الفصل السابع من خلال الشهادات النقدية بأقلام نخبة من كبار النقاد، الذين تناولوا عروضه وأفلامه بالنقد والتحليل، وكذلك بعض الشهادات التي سجلها عنه الزملاء الفنانون، وأخيرا يختتم الكتاب بالفصل الثامن الذي يتضمن أهم النتائج والسمات العامة للفنان الكبير حسين رياض.
والحقيقة، إن هذا الكتاب يعتبر أيضا تطبيقا نظريا على بعض مناهج الأداء التمثيلي، فهو مفيد لجميع هواة المسرح والدارسين بالمعاهد، خصوصا أنه يتضمن كثيرا من المعلومات الموثقة عن بدايات الفن المصري، ومراحل تطوره في كل من المسرح والسينما والإذاعة والتلفزيون، مع إيضاح الفروق الفنية في كيفية التعامل مع كل منها طبقا لمتطلباتها التقنية، كما أنه يحتوي على بعض المعلومات عن السينما العالمية. وتجدر الإشارة إلى أن هذا الكتاب المرجع يعتمد بشكل أساسي على الصور في كل فصل من فصوله، وهي من الإضافات الفنية المتميزة التي منحت الكتاب أبعادا غزيرة من المصداقية والمنهجية وأصول التوثيق، وقد بلغ إجمالي عدد الصور في الكتاب مائتي وعشرين صورة من بينها مجموعة نادرة جدا لبعض أعمال حسين رياض وخصوصا بمجال المسرح.
يشير د. دوارة في كتابه الأحدث عن الفنان حسين رياض «صاحب الألف وجه» إلى تأخر ظهور دور المخرج في مصر - وهو الدور الذي عرفته أوروبا في نهاية القرن الثامن عشر - ويوضح أن تطور الإخراج المسرحي قد تأثر بعودة الرائد جورج أبيض من أوروبا عام 1910، ويمكن اعتبار ذلك التاريخ هو بداية لتيار جديد في المسرح العربي، حيث درس «جورج أبيض» الفن بأسلوب علمي، وقدم للجمهور كلاسيكيات المسرح الأوروبي، وفي هذا السياق ارتبط الشاب حسين رياض بفرقة “جورج أبيض”، وهناك عاش موقفا فارقا في حياته الفنية والإنسانية، فقد حصل على أول دور مسرحي كبير وهو دور “الملك/ جورج”، وجمعته الأحداث الدرامية بجورج أبيض ليلقي أمامه جزءا من الحوار، لكنه تلجلج من الهيبة والخوف أثناء تأدية الدور، فلم يتحمله «جورج أبيض» وقام بطرده من فوق خشبة المسرح أمام المشاهدين، ولم يستطع الفتى آنذاك تحمل ما حدث فخرج وهو يبكي أمام الجمهور. وهكذا يحسب لحسين رياض قدرته على تجاوز الموقف بسرعة وشجاعة، بل وزاد إصراره على تحقيق النجاح، فالتحق بعدة فرق أخرى. وكما يشير «د. دوارة» فقد تحققت انطلاقة «حسين رياض» الكبرى بعد ذلك من خلال فرقة “رمسيس”، التي أسسها الفنان يوسف وهبي عام 1923، وضم إليها كبار المسرحيين آنذاك ومن بينهم: روز اليوسف، أحمد علام، زينب صدقي، بشارة واكيم، فاطمة رشدي، وعزيز عيد. ويذكر أن المبدع حسين رياض قد انضم عام 1935 إلى «الفرقة القومية» التي أسستها الدولة فكانت أول فرقة حكومية في الوطن العربي، وقد شارك الفنان الكبير في بطولة أول عروضها مسرحية «أهل الكهف» لمؤلفهاالرائد توفيق الحكيم، والمخرج الكبير زكي طليمات، وظل يؤدي أدوار البطولة المطلقة سنوات طويلة وكانت آخر مسرحياته هي “تاجر البندقية” عام 1963.
يشير الكتاب إلى أن الفنان حسين رياض هو أحد أهم الفنانين الذين قامت على أكتافهم صناعة السينما في مصر، وكذلك بداية الدراما الإذاعية والتلفزيونية، فهو من كبار الممثلين الذين امتلكوا عبقرية الأداء الساحر، بسيطرته الدقيقة على تيارات مشاعره وانفعالاته المدروسة، وبنعومة انتقاله من التراجيديا إلى الكوميديا، ومن القسوة إلى الطيبة. فهو يتبنى مدرسة التمثيل بلا تمثيل، وبالتالي فقد ابتعد عن المبالغة والحركات الجسدية المفتعلة والإشارات الحادة والتشنجات، والصوت العالي والنبرات الخطابية. وقد اتفق بعض كبار النقاد على الجمع بين مدرسة «حسين رياض» في الأداء وبين مدرسة النجمين العالميين «أنتوني هوبكنز»، «وبيتر أوستينوف»، كما أكدوا تفوق النجم حسين رياض على النجم العالمي تشارلز لوتن، الذي قام بدور السجين في النسخة الأجنبية لفيلم «أمير الانتقام».
كان حسين رياض نجما لامعا في مجال التمثيل السينمائي وقام ببعض أدوار البطولة المطلقة في عدة أفلام، وكذلك بالأدوار الرئيسية في البعض الآخر، ومن أهم أفلامه: رد قلبي، غضب الوالدين، حديث المدينة، المراهقات، في بيتنا رجل، ويمكن للقارئ تتبع القائمة السينمائية الطويلة لأعماله الكاملة، وكذلك الرصد الموثق للمخرجين الذين تعاون معهم، ولأهم اللقطات والمشاهد التي لا تنسى لحسين رياض من خلال هذا الكتاب القيم المهم عن فنان كبير ومبدع، ويكفي أن نذكر بأنه أحد الذين حصلوا على لقب «فنان الشعب»، كما أن السينما المصرية قد شعرت باليتم بعد وفاته، فهو حالة سينمائية فريدة تستحق التأمل، وقد كان بالفعل أبو السينما.
ويكفي أن نسجل له مشاركته في بطولة مائتي وخمسين فيلما، وأكثر من ثلاثمائة مسرحية، ومائة وأربعين مسلسلا إذاعيا، وما يزيد على خمسة مسلسلات تلفزيونية، حيث لم يمهله القدر للمشاركة بأعمال تلفزيونية أكثر، ورحل عن عالمنا في عام 1965.
أخيرا، يظل هذا الكتاب ثروة إبداعية غزيرة التفاصيل والمعلومات، وتضيف إلى الواقع المسرحي أعماقا وأبعادا رفيعة المستوى.

 


وفاء كمالو