حين يتكلم الجسد وتصمت اللغة تأملات فى كتاب روافد المسرح التجريبى

حين يتكلم الجسد وتصمت اللغة  تأملات فى كتاب روافد المسرح التجريبى

العدد 950 صدر بتاريخ 10نوفمبر2025

صدر كتاب «روافد المسرح التجريبي: تشكّل قسمات مسارح ما بعد الدراما» للدكتور سعيد كريمى ضمن إصدارات مهرجان القاهرة الدولى للمسرح التجريبى فى دورته الثانية والثلاثين لعام 2025، ليضيف لبنة فكرية جديدة إلى المشروع الثقافى الذى تبناه المهرجان منذ تأسيسه. فالمهرجان، الذى يُعدّ الأهم عربيًا فى مجال التجريب المسرحى، لم يكن يومًا مجرد فضاء لعرض التجارب الفنية المتنوعة، بل كان ولا يزال منصة للحوار بين الفكر والممارسة، بين النظرية والتطبيق، بين الفنان والباحث، بين المسرح العربى ونظيره العالمى. وفى هذا الإطار، يأتى هذا الكتاب كأحد أهم الإصدارات التى تُضىء المسار النقدى والفلسفى لفن المسرح المعاصر، وتفتح بابًا للتأمل فى تحوّلاته الجمالية والفكرية.
منذ أولى صفحاته، يضعنا الكتاب أمام رؤية واسعة المدى، لا تكتفى بوصف الاتجاهات المسرحية الحديثة، بل تسعى إلى تحليلها وتأملها وربطها بسياقها التاريخى والثقافى. فالدكتور سعيد كريمى، وهو أكاديمى مغربى متخصص فى الدراسات المسرحية، لا يقدم عملًا مترجمًا بالمعنى التقليدى، بل يصوغ مشروعًا معرفيًا متكاملًا يجمع بين التحليل والنقد والترجمة، ليقدّم للقارئ العربى صورة شاملة عن عالم المسرح التجريبى وما بعد الدرامى فى آن واحد.
فهو لا ينقل الأفكار كما هى، بل يعيد صياغتها فى ضوء الهمّ العربى والإنسانى، رابطًا بين ما يحدث على خشبات أوروبا وأميركا وما يمكن أن يتفاعل معه المسرح العربى فى سياق بحثه عن ذاته ولغته المعاصرة.
يبدأ الكتاب بمقدمة ثرية يتأمل فيها المؤلف معنى التجريب فى المسرح، مبينًا أنه ليس مجرد نزعة شكلية أو ميل نحو الغرابة، بل هو موقف فكرى وفلسفى من الوجود والفن معًا. فالتجريب هو البحث الدائم عن المجهول، والرغبة فى تجاوز السائد، والسعى لاكتشاف أشكال جديدة للتعبير عن الإنسان فى زمن يتغير بسرعة مذهلة.
ويذكّرنا المؤلف بأن جذور التجريب ليست غريبة عن ثقافتنا، فالمسرح العربى، منذ بداياته الحديثة، عرف تجارب جريئة ومبتكرة حاولت كسر القوالب التقليدية وفتح أفق جديد للعرض والتلقى، بدءًا من محاولات رواد مثل يوسف إدريس وسعد الله ونوس، وصولًا إلى تجارب الشباب المعاصر. ومن هنا، فإن التجريب فى المسرح العربى ليس وافدًا، بل امتداد طبيعى لمسار طويل من البحث والتساؤل.
فى هذا السياق، يوضح الكتاب أن مهرجان القاهرة الدولى للمسرح التجريبى لعب دورًا محوريًا فى ترسيخ هذا الوعى، لأنه أتاح للمسرحيين العرب فرصة نادرة للاطلاع على التجارب العالمية، وفتح أمامهم أفق المقارنة والتفاعل والتجديد. لذلك، فإن إصدار هذا الكتاب فى إطار المهرجان ليس مجرد عمل توثيقى، بل هو امتداد للفعل المسرحى التجريبى نفسه، لأنه ينقل النقاش من الخشبة إلى الورق، ومن العرض إلى الفكر، ليظل التجريب حيًا فى كل أشكاله.
ينتقل المؤلف بعد ذلك إلى عرض مجموعة من الدراسات والمقالات التى تشكّل العمود الفقرى للكتاب، وهى دراسات كتبها عدد من أبرز منظّرى المسرح فى العالم مثل باتريس بافيس ويوجين يونسكو وهانز تيس ليمان وروميو كاستلوسى وبرونو تاكيلز. هذه النصوص لا تجمعها وحدة الموضوع بقدر ما يجمعها شغف البحث عن معنى المسرح فى زمن جديد، حيث لم تعد الكلمة وحدها كافية للتعبير، ولم يعد النص هو الحاكم الأوحد للخشبة، بل أصبح العرض فضاءً مفتوحًا للغة الجسد والصورة والحركة والصوت.
فى القسم الأول من الكتاب، نجد مقالة باتريس بافيس التى تتناول العلاقة المعقدة بين الكلاسيكيات والتجريب. يرى بافيس أن المسرح الحديث لا يمكن أن ينفصل عن تراثه، لكنه يعيد قراءته من زاوية جديدة. فالعروض التى تستلهم نصوص شكسبير أو سوفوكليس لا تسعى إلى إعادة إنتاجها كما كانت، بل إلى إعادة تأويلها بما يتناسب مع روح العصر. وهذا التأويل لا يتم من خلال الحوار فقط، بل عبر السينوغرافيا والإضاءة وحركة الجسد والموسيقى، بحيث تصبح النصوص القديمة مادة حية قابلة للتشكل المستمر. وهكذا، تتحول الكلاسيكيات إلى مختبر للتجريب، ويصبح المخرج مؤلفًا جديدًا يكتب بلغات متعددة لا تنحصر فى الكلمة.
فى موضع آخر، يتوقف المؤلف عند رؤية يوجين يونسكو، رائد «مسرح العبث»، الذى أحدث ثورة فكرية وجمالية فى منتصف القرن العشرين. فمسرحيته الشهيرة «المغنية الصلعاء» جعلت اللغة تنهار من الداخل، حين تحولت إلى أصوات خالية من المعنى، فى انعكاس لواقع إنسانى فقد قدرته على التواصل.
يرى كريمى أن يونسكو، بهذا التفكيك الجرىء للغة، مهد الطريق لمسرح ما بعد الدراما، لأنه وضع الأصبع على جوهر الأزمة: أزمة المعنى فى عالم تفيض فيه الكلمات وتفرغ من مضمونها. فالمسرح بعد يونسكو لم يعد قادرًا على الاكتفاء بالحوار اللفظى، بل أصبح يبحث عن بدائل جديدة للتعبير: الصمت، الحركة، الإيماءة، الصورة، الصوت.
هنا تبدأ مرحلة جديدة يصبح فيها الجسد هو اللغة الأولى، وتصبح الصورة أكثر صدقًا من الكلمة.
ويأتى فى قلب الكتاب فصلٌ مكرّس لفكر هانز تيس ليمان، صاحب كتاب «مسرح ما بعد الدراما»، الذى غيّر وجه الدراسات المسرحية فى العقود الأخيرة. يوضح كريمى أن ليمان يرى فى المسرح المعاصر امتدادًا للأزمات الفكرية للعصر الحديث، عصر تكسّرت فيه الحكايات الكبرى وتلاشت الحدود بين الواقع والتمثيل.
فما بعد الدراما، فى رأيه، ليس نفيًا للدراما، بل إعادة تعريفها فى ضوء عالم جديد لم يعد يؤمن بالتسلسل المنطقى أو الحبكة المتماسكة.
فى هذا المسرح، يصبح العرض تجربة حسية يعيشها المتفرج فى الحاضر، لا قصة تُروى له من الماضى. الممثل لا يؤدى شخصية محددة، بل يجسد حالة أو فكرة أو طاقة. المتفرج لا يراقب فقط، بل يشارك فى إنتاج المعنى من خلال تفاعله الداخلى مع ما يحدث على الخشبة. وهكذا يتحول المسرح إلى فعل مشترك بين المبدع والمتلقى.
لكن أكثر الفصول سحرًا فى الكتاب هو ذلك الذى يتناول تجربة المخرج الإيطالى روميو كاستلوسى، أحد أبرز ممثلى مسرح الصورة والجسد. يصف المؤلف عروض كاستلوسى بأنها لوحات حية تتكلم فيها الأشياء قبل الكلمات. الضوء، الظلال، الأصوات، الجسد، كلها عناصر تتفاعل لتخلق معنى يتجاوز المنطق اللغوى.
فى مسرحية «أنفرنو» مثلًا، يستخدم كاستلوسى المؤثرات البصرية والصوتية ليبنى عالمًا غامضًا بين الحلم والكوابيس، يجعل المتفرج يعيش تجربة روحية أكثر منها فكرية. لا شيء يُفسّر على نحو مباشر، لأن الغرض ليس الفهم العقلى، بل المشاركة الحسية. وكأن المسرح هنا يتحول إلى نوع من الطقس، إلى تجربة وجودية تُخاطب المشاعر واللاوعى، لا العقل فقط.
يوضح كريمى أن ما يميّز كاستلوسى هو إيمانه بأن الجسد البشرى نفسه نصٌّ مفتوح، يمكن قراءته بلا كلمات. فالممثل فى عروضه لا يتقمص شخصية بقدر ما يجسد فكرة أو شعورًا. كل حركة تصبح كلمة، وكل صمت يصبح صرخة. وهكذا، يتحول المسرح إلى لغة بصرية وصوتية قادرة على التعبير عن المجهول، عن المسكوت عنه فى التجربة الإنسانية.
ويشير الكتاب إلى أن هذه الرؤية ليست بعيدة عن الفلسفة الحديثة التى رأت فى الجسد وسيلة للمعرفة، كما قال موريس ميرلو بونتى، فالفكر لا ينفصل عن الجسد، والتعبير لا ينفصل عن الحضور.
ويتوسع المؤلف فى تحليل فكرة «دراماتورجيا الصورة»، موضحًا أن الصورة فى المسرح المعاصر أصبحت قادرة على أن تروى قصة كاملة دون كلمات. فالإضاءة والموسيقى والفراغ وحركة الممثلين تصنع سردًا بصريًا، يتغير بتغير عين المشاهد.
إنها دراماتورجيا لا تعتمد على النص المكتوب، بل على التكوين الحى فى اللحظة. ومن هنا يصبح المسرح حدثًا فريدًا لا يُعاد، لأن كل عرض يولد من جديد مع جمهوره المختلف.
ويصف كريمى هذا النوع من المسرح بأنه «فن الحضور»، حيث تتلاشى المسافات بين الممثل والمتفرج، ويصبح الاثنان شريكين فى التجربة.
كما يتناول الكتاب فكرة الصمت فى المسرح التجريبى بوصفه لغة قائمة بذاتها. فالصمت، كما يوضح كريمى، ليس فراغًا صوتيًا بل امتلاء بالمعنى، لحظة يتكلم فيها ما لا يُقال. الصمت يوقظ وعى المتفرج، ويفتح له المجال ليملأ الفراغ بمعناه الخاص. وهكذا يصبح الصمت أحد أكثر عناصر المسرح التجريبى ثراءً وعمقًا، لأنه يحفّز المشاركة الذهنية والعاطفية فى آن واحد.
بعد هذه الرحلة عبر التجارب العالمية، ينتقل الكتاب إلى التأمل فى علاقة المسرح التجريبى بالواقع العربى. يطرح المؤلف سؤالًا مهمًا: هل يمكن للمسرح العربى أن يستوعب هذه المفاهيم الحديثة دون أن يفقد خصوصيته؟
ويجيب بثقة أن ذلك ممكن بل ضرورى، شرط أن يتم التجريب بوعى لا بتقليد. فالتجريب، فى رأيه، لا يكون مجديًا إلا إذا انطلق من سؤال حقيقى يخصّ المجتمع والثقافة التى ينتمى إليها الفنان. وهنا تأتى أهمية المزج بين التراث والتحديث، بين الروح المحلية واللغة العالمية.
ويضرب كريمى أمثلة لمخرجين عرب ومصريين حاولوا تحقيق هذا التوازن، سواء عبر توظيف التراث الشعبى، أو عبر استلهام الطقوس الصوفية، أو عبر دمج الفنون البصرية والرقص والموسيقى.
ويؤكد أن مهرجان القاهرة الدولى للمسرح التجريبى كان أحد المحفزات الكبرى لهذه التجارب، لأنه وفر مناخًا من الحرية والتنوع جعل المبدعين العرب أكثر انفتاحًا على التجريب، وأكثر جرأة فى إعادة تعريف مسرحهم.
ويمضى الكتاب إلى أبعد من ذلك، حين يربط بين المسرح التجريبى والهمّ الإنسانى الأوسع. فالمسرح، كما يقول كريمى، لم يعد مجرد وسيلة ترفيه، بل وسيلة تأمل ومساءلة.
إنه المكان الوحيد الذى يمكن للإنسان أن يرى فيه نفسه وجهًا لوجه، دون وسائط ولا أقنعة. فالممثل الذى يقف على الخشبة بجسده الحيّ يعيد إلينا معنى الحضور الذى فقدناه فى حياتنا الافتراضية المزدحمة بالشاشات. وفى هذا الحضور تكمن قوة المسرح، لأنه يذكّرنا بأننا كائنات تتواصل بالنظر واللمس والتنفس، لا بمجرد الكلمات.
ويختتم المؤلف كتابه بتأمل فلسفى عميق فى معنى أن يتكلم الجسد وتصمت اللغة. فالكلمة، رغم قوتها، تظل محدودة، لأنها تنتمى إلى المنطق والعقل، بينما الجسد ينتمى إلى الوجود ذاته. عندما يتحرك الممثل أو يصمت أو يصرخ أو يبتسم، فإنه لا يعبّر عن فكرة فحسب، بل عن تجربة حياة.
وحين يصغى الجمهور إليه، لا يتلقّى رسالة جاهزة، بل يعيش لحظة إنسانية خالصة، لحظة مشاركة وجدانية تتجاوز اللغة. وهكذا، يصبح المسرح التجريبى وسيلة لاستعادة الإنسانية فى عالم فقد جزءًا من روحه.
ومن خلال هذا المنظور، يرى كريمى أن التجريب ليس غاية فى ذاته، بل طريق لفهم الإنسان من جديد. فالمسرح الذى يجرؤ على التجريب هو المسرح الذى يجرؤ على طرح الأسئلة الكبرى: من نحن؟ ماذا يعنى أن نعيش؟ ما معنى أن نتواصل؟
وفى زمن يسوده الزيف والسرعة والتكرار، يصبح المسرح التجريبى مقاومة صامتة ضد السطحية، واحتفاءً بالعمق والبطء والتأمل.
ويختم الكتاب برسالة يمكن اعتبارها وصية فكرية: «إن التجريب لا يعيش إلا فى الحرية، والمسرح لا يزدهر إلا فى الإنسان».
فحين يحرّر الفنان خياله من الخوف، وحين يجرؤ على الإصغاء إلى جسده وصمته، فإنه يفتح بابًا جديدًا للحياة نفسها. وهذا هو المعنى الأعمق لمسرح ما بعد الدراما: أنه مسرح الحياة فى حالتها الأكثر صدقًا وشفافية.
فى ضوء ذلك، يبدو أن كتاب «روافد المسرح التجريبى» ليس مجرد عمل نقدى، بل بيان فكرى وإنسانى يؤكد أن الفن ما زال قادرًا على إعادة اكتشاف الإنسان. فهو يقدّم رؤية تجعل من المسرح مساحة للتأمل فى معنى الوجود، لا مجرد وسيلة للعرض أو المتعة.
وما يميز هذا العمل أنه مكتوب بلغة تجمع بين الرصانة العلمية والدفء الإنسانى، فى أسلوب أقرب إلى الحوار منه إلى التقرير، ما يجعل القارئ يشعر أنه يشارك الكاتب فى رحلة فكرية نحو جوهر المسرح.
وفى النهاية، يليق أن نرى فى هذا الكتاب امتدادًا لرسالة مهرجان القاهرة الدولى للمسرح التجريبى، الذى فى دورته الثانية والثلاثين عام 2025، أثبت أن الفكر لا يقل أهمية عن العرض، وأن المسرح ليس حدثًا لحظيًا بل مشروع معرفة مستمر.
فحين يصدر كتاب بهذا العمق فى قلب مهرجان يحتفى بالتجريب، فإننا ندرك أن المسرح العربى يسير بخطى ثابتة نحو أفق جديد من الوعى الفنى والإنسانى.
وهكذا، فإن عنوان هذا المقال «حين يتكلم الجسد وتصمت اللغة» لا يعبّر فقط عن مضمون الكتاب، بل عن جوهر التجربة المسرحية ذاتها. فالمسرح، فى أجمل حالاته، هو لحظة يلتقى فيها الجسد بالصمت، والفكر بالحس، والإنسان بالإنسان.
وفى عالم يزداد ضجيجًا وتشتتًا، يظل المسرح التجريبى هو المكان الوحيد الذى يعيد إلينا إنسانيتنا الأولى، حيث يكفى أن يقف جسدًا واحدًا على خشبة صامتة ليقول كل ما عجزت اللغة عن قوله.


حسن عبد الهادي