قراقوش الأراجوز1.. مسرحية الكاتب السيِّد حافظ وعتبات النص الكاشفة

 قراقوش الأراجوز1.. مسرحية الكاتب السيِّد حافظ وعتبات النص الكاشفة

العدد 830 صدر بتاريخ 24يوليو2023

تتعالق الكوميديا، والمسرح الشعبي، والإسقاط السياسي والتاريخي أو «التحيين» بشكل مدهش في مسرحية (قراقوش الأراجوز)3 للكاتب (السيِّد حافظ)، وتحمل لغتها إيحاءات تتجاوز حدود اللغة الاصطلاحية وحتى المجازية لتنداح إلى انزياحات دلالية عدَّة، فتولِّد المعاني الجديدة التي تحملها تلك الدلالات التي تتفجر من إعادة قراءة التاريخ من وجهة نظر (الشعب) مروراً بذهنٍ مفكِّرٍ خَبِرَ الحياة وضروبها معتمداً الاستقراء الفلسفي لتحليل المادة المسرحية، بهدف الوصول إلى غايات حديثة في قراءة وقائع التاريخ لفهمه من وجهة نظر معاصرة، بعيدا عن تأريخ القصور الذي يلوي عنق الحقيقة لصالحها عادةً.
 وقبل الوقوف عند عتبات النص المسرحي (قراقوش الأراجوز) لا بُدَّ من الإشارة إلى أنَّ الآراء اختلفت حول حقيقة قراقوش وشخصيته وأفعاله. فمنهم من اعتبره مظلوماً، ومنهم من أكَّد ظلمه للناس، وأنه كان حاكما غشوماً.
 كما لا بُدَّ من الإشارة إلى أن لفظ )قراقوش( مكون من كلمتين تركيتين تعنيان (العقاب الأسود)،  قرا: أسود. قوش: الطير. وهو في هذا المستوى الدلالي يحمل معنيان: معنى طائر العقاب في حد ذاته. ومعنى العقاب (من العقوبة) التي ابتلي بها الشعب المصري، ويحيلنا إلى معنىً ثالثاً جديداً بإضافة الأسود على ما فيه من شؤم يحمله الطائر. وهو مما تتطير منه العرب، السواد والريح الشمالية وهي المنطقة التي ينتمي إليها قراقوش.

قراقوش وابن مماتي
 وقد اختلف قراقوش مع الوزير الكاتب والمؤرخ المصري (أسعد بن مماتي) فكتب عنه كتاباً شهيراً هو (الفاشوش في أحكام قراقوش) وتعني كلمة (فاشوش) في اللغة العربية: الأحكام الفاشلة أو الوهمية،  وقد ورد ي لسان العرب: فاشوش: ضعيف الرأي والعزم. ويقال في اللهجات العربية الدارجة: «فشوش» للشيء، أو للكلام أو للفعل الفارغ الذي لا مضمون له.
 لقد تناول ابن مماتي وغيره أحكام قراقوش بكثير من التهكُّم ونسبوا إليه أفعالاً تجافي العقلَ، لكن السيِّد حافظ سجل بمسرحيته علامة فارقة في تناول موضوعات الرجل تندرج في باب الفن، وليس من باب السيرة، مع أنهما اشتركا في التأريخ لحياة قراقوش. 
وقد عُرفَ (حافظ) بالغوص في التاريخ ومعرفة تفاصليه، ومعالجة خباياها، من وجهة نظر تقدمية. وقدم العديد من المسرحيات التي تحاكي التاريخ، من مثل: (حكاية الفلاح عبد المطيع) و(ملك الزبالين) التي تحكي قصة من تاريخ دمشق، ومسرحية (الحاكم بأمر الله أو القاهرة حلاوة زمان)؛ إضافة إلى إسهامه في مسرح الطفل والمسلسلات التليفزيونية عدا عن الأفلام السينمائية.

علاقة حافظ بالتاريخ وبالتحيين
 وبالنسبة لتعمُّق السيِّد حافظ بالتاريخ يشار –مثلاً- إلى أنَّه عَمِلَ أكثر من ثلاثين عاماً من البحث الدؤوب حول شخصية الحاكم بأمر الله الفاطمي يتحرَّى الدقة في هذه الشخصية الإشكالية؛ كشخصية قراقوش قبل أن يكتب ويهديها إلى من أسماه “الأمير النبيل الذي ظلم كثيراً»، كما يشير إلى أن الحاكم قد سبق زمانه فكرياً بألفي سنة. 
  وتُسجَّل للسيِّد حافظ موضوعيته –هنا- حيث بحث وتأمَّل وفكَّر ثم انتصر للحاكم وعرى شخصية قراقوش، في حين سنجد أنه قد بيَّن لنا جوانب عن تلك الشخصية وهو ما كشفه (يوسف زيدان) في روايته (حاكم) عن الشخصية نفسها. فنال قصب السبق... بمعنى: إن  السيِّد حافظ كان يبحث عن الحقيقة وينتصر لها من دون النظر إلى الرأي العام في المسألة، بل إنَّه كان يذهب إلى غاية التأثير في الرأي العام، خاصَّةً إن كان على خطأ، أو انساق لحالة نقلها مؤرخو القصور على نحو مغاير لحقيقتها لإرضاء ذوي السلطان، أو المنتصر. كان (حافظ) غير هيَّاب من الآراء المخالفة، قاصداً المقولة الحق لا يخشى في قولها لومة لائم. 
 وفي مسرحية (قراقوش الأراجوز) قدَّم الكاتب عملاً تاريخياً غير وثائقي بقدر ما هو إبداعي، إذ يأتي نتيجة محاكمة فكرية لشخصية تاريخية متناقضة جلست على كرسي السلطة لثلاثة عقود، وعانى منها الشعب المصري معاناة كبيرة، وللتأكيد على موقف السيَّد حافظ الواضح من قراقوش نقف عند عتبات النص، محاولين تحليل مقتضى القول وأغراضه.

عتبة العنوان
 وبالوقف عند العتبة الأولى، ألا وهو العنوان، سنجد أولى الإحالات الذكية التي تربط بين شخصيتين موجودتين في الخيال الشعبي إلا وهما: (قراقوش) و(الأراجوز) أو «قراقوز». وإن كانت الأولى شخصية تاريخية من لحم ودم، فإن الثانية هي مجرد (دمية) و(صوت) لكاركتر اخترعه الخيال الشعبي، وتعامل معه، على أنه مدعاة للسخرية التي يحملها من حيث (الشكل)، ومن حيث (الموضوع) أيضاً، فهو ساخر في الوقت الذي هو مدعاة للسخرية، فهو ساخر لكنه مثال للهزء في الوقت نفسه. وأن تنعت شخصاً بأنَّه أراجوز فإنك تلحق به ضرراً معنويا، وتصمه بتلك الشخصية التي تحمل معاني الغباء والتردُّد والاستنتاجات الغشيمة التي توقعه في مشكلات عويصة. وهي دمية ألعبان، يحركها اللاعب الأساس كما يشتهي، وفي تلك إحالة لا تخفي على المتلقي، أو القارئ الحصيف.
  إذن هي تركيب غريبة ابتدعها المخيال الشعبي بشكل فريد وجمع فيها التناقضات التي يمجها الطبع العام لدى الشعب، تتلخص فيه الكليشهة الشعبية “مُقْرِف وبيتمقرف» أو (غبي ويعلم الفلسفة). فلأول مرة يكون الساخر غبياً لا متغابياً –كما في شخصية جحا- وهو بالتالي يثير الضحك على غبائه على على تغابيه، كما يحصل في طرائف جحا الذي يلوذ بتغابيه لينقذ نفسه من مواجه الحكام، أو لتدارك المواقف المحرجة. وكذلك سنجد مثل هذه الطرائف لدى أبي النواس الذي يتغابى اتقاء شر السلطان لتمير مواقف ساخرة.
لكن الأهم في عتبة العنوان هو أن الكاتب مرَّر عبارة تمرُّ على الذهن سريعا، لكنها تترسخ في (اللاوعي) لتربط بين الشخصيتين، ومع دورانها على الألسن يتشكل تركيب مزجي جديد، يولِّد معنىً راسخاً: (قراقوش الأراجوز)! وكأنه يعلن موقفه من عتبة العنوان: بأن قراقوش كان ألعوبة “أراجوز” بيد من صنعه ووضعه في سدَّة الحكم.

عتبة الإهداء والتحيين
 أما العتبة الدلالية الثانية للنص فقد جاءت في كلمة المؤلف، إذ يقول الكاتب: «إلى قراقوش- العبد الخصي الذي حكم مصر في عهد صلاح الدين الأيوبي، وحكمها بعد موت صلاح الدين». 
 ولكي يؤكد الكاتب موضوعيته، فإنه لم ينزع عن شخصية قراقوش محاسنها في حين حكى مثالبها. يهدي الكاتب مسرحيته إلى (قراقوش) ذاته قائلاً: “إلى العبقري في الحرب والبناء، الغبي في العدل والإنصاف».
 إذن نجد أنَّ الكاتب حدَّد موقفه التاريخي منذ البداية، بل في الصفحة الفاصلة بين عنوان المسرحية، والورقة الأولى منها، ومضى إلى الإفصاح أكثر عندما وصف قراقوش بشكل صريح: “إلى عدو الثقافة والكتب، حبيب العسكر والمماليك».
 كثيرون هم الكتاب الذين لم ينظروا إلى المماليك وحكام مصر الأغراب طول نحو ثمانية قرون تلك النظرة الموضوعية على أنهم وافدون للتحكم بخيرات مصر وإرضاء إما الآستانة، أو  الدول الأوروبية، وكان ولاؤهم للقوى الفاعلة، في حين يديرون ظهرهم للشعب، وإنه لم يحكم مصر حاكم من أبنائها إلا بعد ثورة 23 يوليو 1952. لكن الكاتب الحصيف رأى أنهم أغراب تسطلوا على مقدرات الشعب المصري، وعلى إرادته الحرة في أن يكون حراً مستقلاً يحكم نفسه بنفسه. من هؤلاء الكُتَّاب يأتي السيِّد حافظ الذي يمايز بين القومية المبنية على هوية حضارية، وبين قومية براغماتية سواء أكانت اقتصادية أو دينية، فهو مؤمن أن الدين لا يقيم قومية كتلك التي سمحت لحكام أجانب أن يتحكموا بمصر البلد تحت شعارات براقة لم يقدرها المتسلطون، فعبثوا بمقدرات الشعب وحرياته وتصرفوا وكأنهم يملكون الناس والبلد بصك ووكالة أبدية غير قابلة للعزل.
 وخير دليل على هذا المذهب أن السيِّد حافظ نظر إلى الأمر نظرة تاريخية واعية، فجاء الإسقاط التاريخي والسياسي لديه انطلاقاً من قاعدة: (إن التاريخ يعيد نفسه دائماً)، فها هو يقول: «إلى زمنٍ ولَّى، وزمنٍ يجيء» أي أن المتسلطين والغزاة لم يكن وجودهم رهيناً بمرحلة تاريخية ولَّت.
 ويستعير الكاتب (حافظ) عبارت الشاعر المصري (أمل دنقل) مؤيداً وشاهداً على مرامه: “لا تحلموا بعالم سعيد، فخلف كل قراقوش، يقف قراقوش جديد».
 إنَّ السيِّد حافظ يمزج الكوميدا بالألم بالوعي التاريخي، لِمَ لا وهو الابن البار لطبيعة الشعب المصري الذي يحوِّلُ الألمَ إلى نكتة، والقهر إلى مزاحة، والوجع إلى أغنية، وينال الظالم والظلم بطرفة عميقة الغور بعيدة  المرامي، وخير مثال على ذلك دراسة الدكتور محمد رجب النجار4 في دراسته (جحا العربي) الذي عالج فيها طبيعة الشعب المصري المقهور تاريخياً والذي يبتدع النكتة عبر التاريخ بخفة دم صارت من سمات الشعب المصري. وفي هذا الاتجاه نفسه يقول (حافظ): “خلف كل ثائر يموت دمعة أسى وأحزان بلا جدوىن لكنني أرى في هذا الحزن كما في الكوميديا والضحك... كوميديا الشعب المصري  الي واجه السيف بالضحك، وواجه الظلم بالنكات».
 ويمضي (حافظ) إلى المواجهة الثورية أكثر فأكثر إذ يقول: «دعوني أقدم هذه الكوميديا الساخرة  في زمن قراقوش... رحمة الله على أجدادنا الذين تحملوه». ولا يغفل الكاتب عن (التحيين) والإسقاط التاريخي -الذي هو غاية الغايات عنده- فيختم بالقول: «يرحمنا الله من أي قراقوش».

عتبة الإيقاظ
 أما العتبة الثالثة في مفاتيح النص فتأتي في كلمة الكاتب (للباحثين والنقاد) التي ينبه فيها ويشير إلى مقاصده، لمن فاته ذلك، أو يحاول التفسير في سبيل غير الذي نهجه الكاتب، حيث يشير إلى أنه يعالج موضوعاً يهم الإنسان بالدرجة الأولى، ولا يقدم قطعة فنية متحفية بقدر ما يعالج واقعاً يتكرَّرُ بتكرُّرِ الظالمين عبر التاريخ.
 يقول السيِّد حافظ: “أعلم أنكم تقولون إنَّ القراقوز ظهر في مصر في عصر العثمانيين. إنني قد أراه ظهر في مصر في عهد الفاطميين، وعندما واجهت امرأة الحاكم بأمر الله –طيَّب الله ثراه- وكتبت له تشكوه، وتدعو عليه، وقدمت الورقة بيد القراقوز، وعندما أمسك الورقة لم يجد إلا عصل عُقلَ عليها اليد والطرحة... وشكل دمية المرأة. لذلك أرى أن هناك علامة قديمة بين القراقوز والشعب المصري، وأن خيال الظل كان موجوداً أيضاً. لذلك أجمع بين القراقوش والقراقوز لعلها تعجبكم5».
 إنَّ العبارة الأخيرة “لعلها تعجبكم» هي عبارة محايثة، أراد منها الكاتب أن يلوذ خلفها كعبارة انزياحية عن مفهوم آخر، هو عمق المقارنة بين شخصية هزلية، بل هي (هُزء) لدى الشعب، وبين شخصية تاريخية انقسمت الأراء حوله، فيما إن كان غشوما ظلوماً، أم مظلوماً لأنه بنى سور القاهرة وقلعة الجبل، وقناطر الأزبكية؛ وتسبب انقسام الشعب بشأنه –ربما- على أسس مذهبية فرضته إرادة المنتصر الذي مارس تنكيلاً بحق بعض المذاهب، لم يمارسه التتار ولا الصليبيون على المسلمين بشكل عام. بيد أن الكاتب كان ذكياً في استحضار التاريخ لوضعه في صورة لوحات ذكية في بنائها وفي نظمها، ولولا أن الكاتب أراد التصريح بموقفه، لكان من الصعب على النقاد والباحين والمراقبين أن يعرفوا حقيقة موقفه، بل ربما اختلف في موقفه كما اختلفت الآراء حلو شخصية قراقوش وصلاح الدين. لكن السيد حافظ قدم –في اعتقادي- شهادة تاريخية على التاريخ وللتاريخ. وهو يوضح رفض الشعب للظلم:
وجدان  : انت عارفة قراقوش عازم صلاح الدين على  الغداء، بيقولوا في اجتماع هام النهارده.
نرجس    : مش قادرة أفهم، اشمعنى قراقوش اللي مختاره صلاح الدين ليتحكم فينا؟
وجدان    : كل الناس بتقول كده، وكل الناس بتشتكي، وصلاح لدين يقول: أبداً إلا قراقوش. هو قال لي كده.
نرجس    : هو مين اللي قال لك؟
وجدان    : قراقوش طبعاً. اللي ح يقول لي –أُمال- صلاح الدين!
نرجس    : بس أنا عايزة أعرف متمسك بيكي ليه؟
وجدان    : وحياتك يا نرجس ما اعرف. بس هو بيقول إنه بيستريح لي  وبيتطمن لي ، وبيحب ياكل من إيدي. خايف لحد يحط له السم في الأكل.
نرجس    : يا ريت حد يحط له السم.6
المسرحية
 يعتمد (حافظ) في مسرحيته الكوميديا لغرضين رئيسين: أولاً المتعة والتفكه على شخصية سياسية حكم مصر لثلاثين عاماً، وهو موقف ذكر وجريء في الوقت نفسه، لكنه يؤكد حقيقة الأخبار التي نشرها الوزير الكاتب والمؤرخ (أسعد بن مماتي) في كتابه (الفاشوش في أخبار قراقوش) وذلك في لعبة فنية هي الأبقى والأخلد، لأن الأدب يعبر حدود الزمن والسياسة والأديان والطوائف.
 واللعبة الأخطر في العمل المسرحي هو أنه قدم تبريراً لعنوان المسرحية  (قراقوش الأراجوز) في أنه ضمنها الصراع بين الحاكم وبين ابن مماتي، وكيف أنه عمل على خلق مسرحية لـ(القراقوزات) الذين يقدمون المشاهد الذي كتبها ابن مماتي نفسه تحت عنوان «الفاشوش في أحكام قراقوش» وبالتالي فإن المسرح هنا تحول إلى أداه نضال ضد الطغيان عبر القراقوز -”الأراجوز” . إنه غرض مركب فعلاً أن يلوذ بالنكتة والأراجوز ليقدم غرضاً سياسيا نبيلاً، وهو ينسجم مع طبيعة الشعب المصري  الذي يلوذ بالنكتة للنيل من الحاكم الباغي.
 إن المقاومة في مسرحية حافظ تقوم من الشعب نفسه عبر وسائط تجعل الأدب قدوة ومثالاً يحتذى، وعلى الرغم من أن الطاغية كان يهدد رقاب الممثلين إلا أنهم يمضون إلى مصيرهم في مواجهة الظلم:
 ابن مماتي : ازيكم يا شباب؟
الجميع     : الله يسلمك يا محترم.
جعفر     : دا يوسف، مغني، ودا أيوب بيلعب ويغير صوته، ودا حمزة، مكار أحسن واحد في خيال الظل والقراقوز في المحروسة.
ابن مماتي : أهلا وسهلا بالشباب.
جعفر     : (يشير إلى ابن مماتي) و دا الوز......
ابن مماتي : (مقاطعاً) بتقول أيه؟
جعفر     : قصدي دا زير، بتاع مواسير وكوارع، وبقى من الأعيان، وعنده أفكار وحكايات عاملها مخصوص وعايزنا نقدمها في الحارت والشوارع.
الجميع    : ونحنا خدامين. 
حمزة    : وح تدفع كام؟ بالصلاة على النبي.
ابن مماتي : (يخرج كيسي ذهب) كيسين.
جعفر    : (يأخذ الكيسين) نتفق –الأول- على الحكايات .
يوسف    : الحكاية اسمها أيه؟
ابن مماتي : الفاشوش في حكم قراقوش.
يوسف    : (ينظرون إلى بعضهم) أنت بتهزر!
ابن مماتي : أنا ما بهزرش،  حتقدموا حكايات عن قراقوش في الأراجوز.
أيوب    : يا عم احنا لسه طالعين من مشكلة مع قراقوش، واتفقنا نقدم حكاية الشاطر حسن وعنتر وأبو زيد الهلالي. لكن عن قراقوش دي صعبة، فيها شنقة.
جعفر    : جرى أيه... انتو داخلين في الراجل شمال كده ليه، مش عايزين فلوس بلاش. ابو زيد زي عنتر زي قراقوش.
حمزة    : يا جعفر قراقوش يبقى معناه اننا نحط رقبتنا قدام سيف قراقوش.
جعفر    : سيف قراقوش... هأو... من امتى وانتم بتخافوا من قراقوش؟
أيوب    : دا رجل مجنون. ضربنا 80 جلدة علشان شاور، أمال علشانه ح يعمل أيه؟7
ثانيا: ينحاز الكاتب إلى الشعب الذي عانى، ويشكر الأجداد على صبرهم. هذا الشكر المغلف بالإدانة لأنهم لم يثوروا على الظلم والظالم، وهو موقف تنويري، يدعو الشعب إلى استنباط التاريخ، ويدعوهم إلى الحرية وإلى إعلان الرأي بألا يرضخوا للظلم، وتلك هي غاية الأدب التنويري، وتتضمن الغرض التطهيري في الوقت نفسه.
 قدم الكاتب المشاهد بطريقة جاذبة وماتعة، وربط بينها بشكل فني بحيث يجعل المتابع متلهفاً ليس للضحك فحسب، بل لمتابعة الأحداث ومعرفة التفاصيل، ومتوقعا النتائج التي لا تأتي على هواه، ربما لأن الشخصية الموتورة لا يمكن توقع ردَّات فعلها. والكاتب لم يغفل عن علم النفس التجريبي بحيث كتب المواقف التي تجعل المتابع في دهشة حقيقية بأن مثل هذه ا لشخصية يمكن أن تؤتمن على بلد عظيم وكبير مثل مصر، وخاصة في مواقف هي في مح طبيعة النفس البشرية، كأن يمنع قراقوش الحب والزواج. أو أن يصدر أحكما تجافي طبيعة النفس البشرية.
 كما لا يفعل عن إثارة الإدانة بقيام هذا الحكام بحرق الكتب، في مكتبة من أغنى المكتبات في العالم، وقيامه بطرد الكتاب، واعتقال الشعراء والأدباء والمبدعين عامة.
صلاح الدين : بأمر صلاح الدين الأيوبي أقلنا الوزير ابن مماتي، وتم تعيين بهاء الدين قراقوش وزيرا ونائباً لنا. 
الجماهير : (تصيح) عاش صلاح الدين. عاش صلاح الدين.
قراقوش    : بأمر قراقوش وزير ونائب السلطان صلاح الدين الأيوبي المعظم أمرت بحرق الكتب، وطرد الكتاب، وحرق المكتبات، واعتقال الشعراء والأدباء.8
 باختصار هذه المسرحية كنت صرخة بوجه الظلم، ودعوة إلى الحرية عبر نزهة عقلية لا تغفل عن معالجة الأسباب النفسية والسياسية والحضارية لشعب عظيم كالشعب المصري.
  لقد جمع السيِّد حافظ في هذه المسرحية فنون الفرجة بشكل احترافي، كما قدم مختلف طبقات الشعب، وعبر عن المقاومة الشعبية بأبهى صورها من خلال لعبة فنية مسرحية، كما تنوعت شخصياته لتشمل ذلك التنوع الثر في الشعب المصري الذي عاني من الظلم تاريخيا، فكأن الكاتب الذي لجأ إلى التاريخ فقط ليبعد الشبهة، أكد لنا أن ممارسات الحكام في السلطة هي غاية تثبيت السلطة، وأن الأدوات يجب أن تكون غبية ليأمن السلطان من طموحها، وأن هذا الظلم الغشوم هو وسيلة للسلطان كي يبقى هو المنقذ والحكم والمحبوب، والمخلص.
لقد قام السيَّد حافظ بفضح ممارسات الحاكم بطريق مبتكرة عبر لعبة مسرحية صارخة وعميقة وممتعة، وهي –في اعتقادي- غاية الفن ووسيلته المثلى.

الهوامش
1 - الأراجوز: تعبير شعبي مصري، محور  عن القراقوز، وهو لاعب خيال الظل أو محرك الدمي الذي يستعير صوتاً غريباً ليقدم من خلاله تمثيلية للنظارة تحمل غائية أدبية أو فنية أو اجتماعية.
2- كاتب مسرحي وأكاديمي، أستاذ الأدب المسرحي في الجامعة العربية الدولية
3 - حافظ، السيِّد، مسرحية (قراقوش الأراجوز) في كتاب (حكاية الفلاح عبد المطيع ومسرحيات أخرى). المجلس الأعلى للثقافة في مصر. الطبعة الأولى، القاهرة 2004
4 - النجار، رجب. جحا العربي. سلسلة عالم المعرفة الكويتية، العدد 10.
5 - حافظ، السيد. مسرحية (قراقوش- كراكوز،. ضمن كتاب: (حكاية الفللاح عبد المطيع) صادر عن المجلس الأعلى للثقافة في مصر. ط1 1004. الصفحة 142.
6 - المسرحية، صفحة 174.
7- المسرحية ، صفحة 181.
8- المسرحية، صفحة 158.


داود أبو شقرة - سوريا