عن عنفوان التجريب ومسرح الصدمة

عن عنفوان التجريب  ومسرح الصدمة

العدد 942 صدر بتاريخ 15سبتمبر2025

يخبرنا التاريخ بأن ليس كل تجريب جاء وديعًا أو مأمون العواقب. فأحيانًا يبلغ عنفوانه حدًّا يُرعب ويُربك، فتتقلب الخشبة على ذاتها ويتحوّل الجسد نفسه إلى مسرح نابض، أو أداة تكسر المألوف.
بعض الفنانين فى تجاربهم لم يكتفوا بكسر الإيهام بمعناه الجمالي، بل ذهبوا أبعد، إلى تحطيم الجدار الرابع بكل ما يحمله من مسافة أمان بين الممثل والجمهور. ووصل جنون البعض إلى اقتحام المجال الشخصى للمشاهد وإدخاله فى لعبة خطرة، ليصبح المسرح فعل مواجهة عارٍ، بلا وسطاء، وبلا أى ضمان للعودة إلى ما كنا عليه قبل العرض. وإليكم بعض الأمثلة:
فى عام 1974 بمدينة نابولي، وقفت الصربية مارينا أبراموفيتش أمام طاولة تحمل 72 شيئًا: ورد، عسل، ريش.. وفى الجهة الأخرى سكّين، سوط، سلسلة حديدية، وحتى مسدس محشو بالرصاص. نظرت إلى الجمهور وقالت بهدوء:
«سأبقى هنا ست ساعات. لن أتحرك، ولن أقاوم. أنتم أحرار أن تفعلوا بى ما تشاؤون».
فى البداية، بدا الجمهور خجولًا، وضعوا الورود فى يديها ولمسوا كتفها بلطف. لكن شيئًا فشيئًا تبدّل المشهد: الفضول صار جرأة، والجرأة انقلبت إلى قسوة. مزقت ملابسها، جُرح جلدها، ووضعت سلسلة حول عنقها. ثم وصل الأمر إلى أن صوّب أحدهم المسدس إلى رأسها، لولا تدخل آخر لسحبه. وعندما انتهت الساعات الست، تحركت مارينا ببطء نحو الحضور، فامتلأت وجوههم بالذعر وانسحبوا واحدًا تلو الآخر، وكأنهم يهربون من مواجهة أنفسهم.
وهكذا لم يكن عرض الإيقاع صفر (Rhythm0) مجرد تجربة فنية، بل درس صادم فى هشاشة الحضارة، وكشفًا لمدى قرب الإنسان من العنف حين تغيب الحدود.
لكن مارينا لم تكن الأولى، ولن تكون الأخيرة.
فى عام 1964، جلست اليابانية يوكو أونو على منصة، ودعت الجمهور إلى الاقتراب منها وقطع أجزاء من ثيابها قطعة بعد أخرى. كانت صامتة، متجمدة، تراقب كيف يمكن للفضول البريء أن يتحول إلى تجريد مهين.
فى عام 1971، وقف الأمريكى كريس بردن فى قاعة صغيرة ودعا صديقًا لإطلاق النار عليه، فاخترقت الرصاصة ذراعه، مطرحة السؤال: هل يمكن للفن أن يعرّض الجسد لخطر حقيقي؟
وفى العام نفسه تقريبًا، قرر الفنان الألمانى جوزيف بويز حبس نفسه ثلاثة أيام داخل معرض فى نيويورك مع ذئب برى فى عمل بعنوان I Like America and America Likes Me، ليحوّل المواجهة بين الإنسان والحيوان إلى استعارة عن العنف الكامن فى المجتمع.
وفى ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي، قدّم التايوانى تيهتشينج هسيه سلسلة من “الأعمال السنوية” القاسية: عام كامل داخل قفص، عام كامل فى العراء دون مأوى، وعام كامل مربوطًا بفنانة أخرى بحبل لا يزيد طوله عن متر واحد دون أن يلمسها.
وفى 1993، استخدمت الأمريكية جينين أنطونى شعرها المغموس بصبغة سوداء لمسح أرضية القاعة، فى فعل متأرجح بين الحميمية والإنهاك الجسدي.
أما النمساوى هيرمان نيتش، فقد صدم العالم بطقوسه المسرحية التى استخدم فيها دماء الحيوانات وأحشائها، ممزجًا بين الدينى والغرائزى لإثارة أسئلة حول الذبح والتضحية.
اختلف مع هؤلاء أو اتفق، لكن قبل الاختلاف عليك أن تسأل: لماذا فعلوا ذلك؟
هم بالتأكيد لم يفعلوا ذلك رغبة فى التميز (فأى تميز فى أن تجعل الناس يضربونك، أو يطلقون عليك الرصاص، أو يربطونك بحبل لعام كامل؟!). إذن، لماذا؟ لماذا فعلوا ذلك؟ هذا هو السؤال.
لكن أرجوك، أرجوك، لا تستسهل الإجابة.


محمد الروبي