ذكريات فتحي زوزو المسرحية للكاتب أحمد الصعيدي

ذكريات فتحي زوزو المسرحية للكاتب أحمد الصعيدي

العدد 591 صدر بتاريخ 24ديسمبر2018

للوهلة الأولى وعند أول قراءة اعجبت كثيرا من ربط الكاتب بين عنوان المسرحية والبطلة المحورية في المسرحية (ماكينة تصوير خشبية عتيقة تتناسب والذكرى حيث إنتمائها لذلك الزمن الذي جاءت منه هي وصاحبها). إستخدم الكاتب اسلوب (الفلاش باك) حيث إستحضر ذكريات الماضي بتوثيق تلك الكاميرا التي تمثل له هوية ووطن وذكرى وسكن. يتأرجح بنا بلقطات مفصلة لماض يتوق إليه، ويقتضب لقطات سريعة متلاحقة لحاضر نسميه بعصر السرعة. كل شيء على عجل وبلا تروي فلاوقت لدى العصر للتوقف. فاصبحت الصور عفريته لواقع وتخالف الحقيقة، في حين صور الأمس حية لها روح وتحكي عن اصحابها. ستلاحظون معي أن المصور هنا جراح مبضعه الكاميرا وعدساته تصل لعمق العمق حتى يشرح كل مواطن الجمال، الوجع، الفرح، الحسرة، الحب، كل مايصعب لمسه وليس بسهولة تدركه الافئدة.  عذرا سيدي الكاتب لأنك متسلل بحركة بارعة جدا لخصت احداث الامس واليوم وتوقعت الغد دون ان تشعرنا انك تتنقل بشخوصك حيثما اردت، ليس هذا فحسب بل إنك تحدثت عن كل ما هو ممنوع دون ان تشعرنا أنك تكتب نص سياسي. تحدثت عن احوال البشر في الأمس السحيق ورقي تعاملهم، وما استجد اليوم من نكران وفوضى وتركيبة عجيبة وغريبة.
لتدخل في منطقة محظورة وتتحدث عن خانة الديانة وما هو  من مجريات الأحداث، لتقفز بمشعل توعية فوق العادة بشرارة تصعق وتنبه عن استقطاب الغرب لشبابنا وتغيبهم وإستخدامهم كمعول هدم لأوطانهم. تحدثت عن قيم كثيرة أسماها حب الوطن والتمسك بالأرض فلا فقر يدفع لبيع أوطان ولا طموح يضاهي روعة ودفء الوطن لتصل إلى أقصى درجات الإنسانية التي جعلت المعلم رسولا انتشل صغير من الموت المؤكد إجتماعيا ليخرج افضل مافيه ويعطيه صنارة لصيد السمكة وتعايشها مع واقع لتصنع من ميت حب يحييه العرفان ويلفه حتى يجعله أسيرا لعلاقة إنسانية عز بها زمننا هذا وأصبح لكل شيء مقابل...تغيرت القيم نعم تغيرت بالأمس القريب تكررت مأساة امه ليعيش ذات حياتها ويشعر وجعها، فالأم اعطته هوية كانت له عارا يهرب منه ويتمنى ان يمحيه بكل السبل. كونه يسمى فتحي زوزو لم يرد في خاطره أنه محظوظ بتلك الهوية إلا عندما وعي وأدرك ما معنى ان تكون أم كلها حياة وجميلة وتفرض عليها عائلتها الزواج من شخص لا وجود له ولاذهن له ولا كينونة وهي التي كانت محط أنظار الشباب وحلمهم. حملت وانجبت فتحي والزوج طفش بلا رجعة ولم يجعلها هذا مستسلمة لنظرات الطمع فيها، ولا دفعتها للإستسلام لحب عمرها. عملت كماشطة (يعني بلغة العصر كوافيرا ولكن من عصر كانت تلف فيه للدور لتصنع المعجزات وتعمل من الفسيخ شربات ومن العبرة (بضم العين أي الدميمة)، ورغم انها كانت كل يوم في فرح لم تفقد وقارها ولم تنسى إبنها وكانت تفرغ ما بداخلها بمشاركته يقوم بالطبل لها والغناء وهي ترقص. رفضت بعد غياب الزوج لأربع سنوات أن اطلب الطلاق وتتزوج من حبيبها لأن لها حبيب واحد إبنها هو كل محيطها. الإبن والزوج والحبيب. دارت الأيام وتزوج فتحي ارزاق السيدة التي شخصيتها على نفس نمط والده لاتتكلم ولا تنفعل بحب ولا فرح ولا حزن، لم تكن إختياره ولكن كانت هي نصيبه وقسمته. وانجب سامي الذي اسماه على إسم مدرسه وأبوه الروحي وأصبح هو كل حياته وتخرج في كلية الحقوق ليفاجأ بانه لم يتعين في الجامعة رغم تفوقه ولا في النيابة لأن تلك الوظيفة يجب ان تكون لمن هم ذو أصل وحسب. لتتلقفه دول الهجرة وإقناعه انه مميز حتى عندما سأله ابيه لماذا انت تحديدا وهمه صور إليه انهم قبلوه لكفائته. وأثناء كبر إبنه تعرض لعملية في أذنه ولم يكن فتحي يملك شيء سوى ساعته القيمة التي ورثها من معلمه الأستاذ سامي هو وآلة التصوير. فجن جنونه ولم يجد أمامه سوى بيعها او رهنها ليخرج لنا نموذج آخر من الزمن الجميل ليضرب مثلا في الإيثار ويرجعه عن نيته في البيع ويعرض عليه تحويشة عمره التي اذخرها للعمرة لأنه اعتقد ان فتحي احق وخصوصا أنه يشعر بانه ليس على مايرام كما انه حج واعتمر. ورفض كتابة ورقة او إلزامه باي شيء سوى صورة طلبها اولاده منه جاء للفنان فتحي ليخلد ذكراه ويبروزها والرجل يتلقفه الموت والصورة تبقى ذكرى للإيثار والكرم والجود. صورة أخرى للحبيبة التي فارقته لتسافر مع اسرتها لبورسعيد وتجدد العهد بانها ستبقى له إلا ان قنبلة تغتالها وهي في المحطة تستعد للقائه. وتبقى الصورة التي تشكل له اصل، صورة زوزو وصورة عايدة وصورة سامي وصورة المنقذ. صور هي رسوخ له بددتها عاصفة الشتاء فماتت داخله كل ملامح الحياة. وعندما اراد أن يعييد نموذج المعلم الفاضل وأراد ان يفعل ذات الشيء أتاه سامي في الحلم لينذره بأن هذا الشاب سيسرق اصله وحياته لم يعد هناك نموذج الطالب الذي يلتزم بالنهج حل محله نماذج مريبة. وذات فجر اتصل إبنه ليخبره أنه سيصل مصر وكانت مفاجأة تخوف منها الأب لماذا الآن؟ هل أتيت مع الأجنبي لتغتال وطنك؟ هل إستغلوك؟ وهو في طريقه للمطار وضياع الصور وموت الاصل وكل رموز الماضي الذي ينتمي له تبددت مثلما بدد الخراب كل ما حوله. شبح الموت اصبح يسكنه بلا هوادة وما كان يخشاه في الليل أصبح ينتظره بشوق حتى يتحد مع ماضيه وذكرياته.
العمر كله إنحسر في كاميرا ومجموعة صور قديمة وشعور بإقتراب المنية التي كان يخشاها لأن لديه شيء ثمين يخشى ان يفقده مثلما فقد كل شيء جميل... ميراث الوفاء...والهوية التي اكتسبها من أمه وإبن أسماه على إسم قدوته وحب لم ينل منه سوى صورة
وصورة لرجل يكن له كل الإمتنان لأنه آثره على نفسه... الواقع أضحى دميما مخيفا باردا يلفه البرد وتعصف به رياح الجمود. ماتت القيم وهان الوطن ولم يعد هناك يقيين. هل كل هذا يجعله يتمسك بتلك الحياة أم يهجرها؟ عصفت الرياح بكل صوره حبيباته ومحت الذكرى التي كانت تحلي حياته وتصبره على وحدته. تبددت وتناثرت فتبعثرت معهم بقايا شخص كان يستمد وجوده من صور، صور شكلته، وأخرى علمته، وثالثة أصقلته. يد تربت وأخرى تشد على يده وثالثة تنجده ورابعة تحب.
ذكريات زوزو حياة عاشها فعلمته وعندما رحل شخوصها قوته وعندما جاء العصف تمسك بها وذهب هباء منثورا وقت عصفت به.
نحن أمام كاتب إتخذ من الرمز تيمة وأخرج من كل رمز قصة. سرد أحداث جارية برشاقة شديدة وبلا فرض لرأي على المتفرج أو القاريء بل ترك الحكم لهما ووضع بين أيديهم فتحي زوزو ليعيشوا معه سيكولوجية عزلة النفس عندما يصبح الإختلاف جريمة ووصمة الهوية تلازم الإنسان منذ ميلاده حتى مماته. ماذا يحدث عندما نفقد القدرة على التعايش ونفقد الرغبة في الحياة. شخصية محيرة ولكنها فريدة في الرسم والوصف والحنكة والفن والمقدرة على تحسس الملامح وتجسيدها. تحية للأستاذ أحمد الصعيدي على روعة النص ومهارة رسم الشخصية والتنقل من حدث إلى حدث بخفة وسرعة والتناوب بين الماضي والحاضر وعتمة المستقبل بدون الذكرى وعند فقدان السند. كاميرا كانت بطلة هذا النص بعدسة صاحبها وعينه كانت مبضع جراح يصف تفاصيل وجوه خضعت لعدساته.


هيام حسين