العدد 922 صدر بتاريخ 28أبريل2025
يمتاز كتاب “دراما التراجيكوميديا فى المسرح النثرى فى مصر (1950 - 1969م)” للدكتور ضيف الفرجانى، بأهمية خاصة فى مضمونه؛ حيث يُعَد من أوائل الأبحاث التى جمعت بين شقَّى الدراما (التراجيديا والكوميديا) فى دراسة المسرح النثرى، وأصل هذا الكتاب رسالة دكتوراه أعدَّها الفرجانى وأجيزت له سنة ألفين وعشرٍ، حيث قام برصد التطور التاريخى لهذا المصطلح، ثم تناول نصوصًا منه بالتحليل النقدى، وقد اختار الحقبة الزمنية المذكورة لأن كثيرًا من كتَّاب الدراما فى ذلك الوقت اتجهوا إلى التعبير من خلال التراجيكوميديا، فجمعوا بين المأساة والملهاة، وفى سياق اهتمام المؤلف بذِكر ما يؤيد هذه النظرية قال: «وُجِدت ملهاة تخلَّلتها عناصر مأساوية، ووُجِدت مآسٍ تخلَّلتها عناصر ملهاوية، حتى إن المتلقِّى لم يَعُد قادرًا على تحديد نوع ما يشاهده من المسرحيات المحصورة بين التراجيديا والكوميديا»، ويبدأ المؤلف هذه النماذج بإحدى مسرحيات “يوربيدس” [ت: 406ق.م] الإغريقى الذى أسَّس لهذا النوع من المسرح، من خلال مسرحيته “ألكستيس” وهى مسرحية ذات طابع تراجيدى فى أصلها، لكنها تحولت فى مجريات الأحداث إلى الاتجاه الكوميدى وانتهت به.
ويذكر المؤلف أسماء أخرى فى عجالة، ثم ينتقل سريعًا إلى عصر النهضة ثم إلى العصر الحديث، ثم يتناول التراجيكوميديا فى مصر، وفى هذا الإطار يستدعى المؤلف الأمثلة والنماذج بحسب مفهوم المصطلح وليس بحسب التصنيف الشائع لتلك الأمثلة؛ ومن ذلك مسرحية (العصفور فى القفص) لمحمد تيمور [ت: 1921م] التى قال عنها ضيف الفرجاني: «الكاتب يصف هذه المسرحية بأنها كوميدية، إلا أنها تمثِّل فى رأينا إرهاصًا للدراما التراجيكوميدي؛ حيث إنها تجمع بين المواقف الجادة والمواقف المضحكة»، ولا يكتفى الفرجانى بإطلاق الحكم دون دليل؛ فيأتى بمشهد طردِ الأب ابنه من المنزل، وهو مشهد تراجيكوميدى حسب مفهوم هذا المصطلح؛ فموقف الطرد مأساوى، لكن تصوير تيمور للأب وما فعله إثْر قيامه بطردِ ابنه جاء بشكلٍ ملهاوى واضح؛ وهذه الطريقة التى انتهجها الفرجانى فى تتبُّع النصوص التراجيكوميدية توضح اهتمامه بأبعاد الموضوع الذى يتناوله، واستقصاء شواهد الموضوع من خلال ماهيَّته التى يختص بها، فهو يتناول الموضوع من خلال رؤية علمية ذاتية، وهو الأمر الذى يضفى عليه طابع التأصيل والتقعيد.
وفى هذا الصدد يرى المؤلف أن البداية الحقيقية الناضجة للتراجيكوميديا فى مصر كانت فى الخمسينيات على يد الكاتب المسرحى نعمان عاشور [ت: 1987م]، ثم لحقه فى هذا الميدان سعد الدِّين وهبة [ت: 1997م] وألفريد فرج [ت: 2005م].
وبعد ذلك ينتقل المؤلف إلى أنواع القضايا التى تناولها المسرح التراجيكوميدى فى مصر خلال الحقبة الزمنية التى تتناولها الدراسة، فالمؤلف يعتمد فى منهجه على الشمول والتفصيل، وفى هذا الصدد يبدأ بالقضايا السياسية، ويرى أن الأحداث فى مصر من أوائل الخمسينيات حتى نهاية الستينيات، قد أدت إلى حراك سياسى تفاعل معه كتَّاب الدراما فنتج عنه ما يُعرَف بالتراجيكوميديا؛ بواسطة «قدرة الأديب على وصف الحدث بما فيه من تراجيديا بشكلٍ أقرب إلى الواقع، وتقديم حلول وتوصيفٍ للحدث فى إطار كوميدى يمنحه المفارقة الذهنية الجاذبة للمتلقِّي». أما النماذج المسرحية التى تناولها المؤلف فى هذا النوع من أنواع القضايا التى تناولتها التراجيكوميدى فهى ثلاث مسرحيات، على النحو الآتي: أولًا: مسرحية “مسمار جحا” لِعلى أحمد باكثير [ت: 1969م]: وتعتمد هذه المسرحية على «التورية الدرامية والتلميحات التى ينتجها جحا، من خلال الحوار بينه وبين ممثِّلى السلطة وهم (فريق عبَّاد وحريق)؛ حيث كانوا يستثيرونه ليتيح لهم ما يريدون، لكنه كان يدرك مغزاهم، فيحوِّل مجلس الوعظ إلى ملهاة ساخرة ضد أفراد السلطة»، وإضافة إلى ما ذكره الفرجانى فإنَّ ورود اسم (جحا) فى عنوان هذه المسرحية يُحِيل الذهن إلى التصور التراجيكوميدى لأحداث المسرحية، ومع ذلك فقد أورد الفرجانى بعض المقاطع الحوارية التى تكشف التحول الدرامى فى تناوُلِ على أحمد باكثير للأحداث، والمزج بين التراجيديا والكوميديا بطريقة مناسبة لِما هو معهود فى ذهن المتلقِّى عن شخصية جحا.
ثانيًا: مسرحية “السلطان الحائر” لِتوفيق الحكيم [ت: 1987م]: ويرى الفرجانى أن هذه المسرحية التى «تبدأ بحوار بين الجلاد الذى يقوم بتنفيذ حكم الإعدام مع آذان الفجر، وبين المحكوم عليه بالإعدام الصادر دون محاكمة؛ تتولد التراجيكوميديا من التعارض بين الفجر وما يرمز له من بداية حياةٍ، وبين الإعدام الذى يمثِّل نهاية الحياة، وفى هذا الجو المأساوى تدب روح المرح بين الجلاد وبين المحكوم عليه؛ حيث يطلب الجلاد منه أن يرشوه بكأسين من الخمر حتى يعتدل مزاجه فيضرب رقبته ضربة متقنة تفصلها عن جسده دون معاناة»، ويتخذ ضيف الفرجانى من التحول الدرامى لأحداث هذه المسرحية مرتكَزًا لتصنيفها ضمن التيار التراجيكوميدي؛ فالجانب المأساوى فيها هو صدور أمر بالإعدام دون محاكمة، أما الجانب الكوميدى فهو إقدام الجلاد على طلب رشوة كى يكون رحيمًا فى قيامه بالقتل الذى سينفذه فى المطلوب منه الرشوة، ولا شك فى أن هذا المسار الدرامى للأحداث يخفف من حدَّة المأساة التراجيدية من ناحية، ومن ناحية أخرى يكشف مدى العبث الذى تمارسه السلطة، وقد أورد الفرجانى مقتطفات حوارية من المسرحية توضح ذلك وتعاضد تصنيفه للعمل، ومِن منهج الفرجانى فى هذا الصدد حشد العناصر الرمزية وبيان دلالتها التى تجرى فى مسار تصنيفه للعمل المسرحي؛ كالدلالة الرمزية للفجر؛ الذى يرمز لميلاد حياة، وبيان وجه التعارض بين هذه الدلالة وبين العمل الذى يمارسه الجلاد بالتزامن مع ذلك الوقت، ومن الدلالات أيضًا شخصية الغانية التى تحتال لإنقاذ النفس البرئية.
ثالثًا: مسرحية “الأستاذ” لِسعد الدِّين وهبة: وتتناول هذه المسرحية قضية التواصل بين الشعب والحاكم، وذلك من خلال الكلام والسمع، فباعتبار طرفى التواصل جسدًا واحدًا فقد أصبح بين خيارين؛ إما أن يتكلم ولا يسمع، أو يسمع ولا يتكلم؛ وهذه مشكلة يواجهها “الأستاذ” الذى جاء ليعالجهم؛ ويمضى ضيف الفرجانى فى عرض وتحليل جوهر المسرحية، مبينًا الجانب الساخر عند سعد الدِّين وهبة؛ الذى يجعل «الراقصة تصبح ملكة، وقاطع الطريق يصبح وزيرًا، والشحاذ يصبح جابى الضرائب»، وبعد عرض جمل حوارية من هذه المسرحية توضح سخرية كاتبها من القائمين على الحكم؛ يوضح الفرجانى موضِع التراجيكوميديا التى تتمثل فى إسناد المناصب السياسية الكبيرة إلى الراقصة وقاطع الطريق والشحاذ؛ ثم يُورِد الفرجانى من هذه المسرحية بعض الجمل الحوارية المصحوبة بأفعال وانفعالات حركية وبصرية تتناقض مع دلالة الكلمات، ويعلق الفرجانى على ذلك بقوله «فالتراجيكوميديا هنا قائمة على المفارقة بين الظاهر والباطن، فظاهر الأمر أنه لقاء غرامى بين زوج وزوجته، ينمُّ عن محبة وودٍّ، إلا أن الباطن يضمر الكراهية والحقد، فالملهاة هنا تنبع من الموقف السطحى أو الظاهرى، بينما تكمن المأساة فى تحطيم أقدس العلاقات البشرية، بين الزوج وزوجته»، ثم يستطرد الفرجانى فى تحليل أفعال أصحاب المناصب واستنباط العلاقة الدلالية بين أعمالهم السابقة وبين مناصبهم السياسية التى آلت إليهم؛ «فجابى الضرائب شحاذ سابق، ونظرته للضرائب جاءت من وظيفته القديمة إحسانًا مفروضًا أو مقنَّنًا»، وهذا يعنى أن النظام الحاكم لن يستغل هذه الضرائب فى الصالح العام؛ بل سيتقاسمها أفراد النظام فيما بينهم.
ثم ينتقل الفرجانى إلى القضايا الاجتماعية؛ وهى النوع الثانى من أنواع القضايا التى تناولها المسرح التراجيكوميدى فى مصر خلال الحقبة الزمنية التى تتناولها الدراسة، حسب تصنيف المؤلف، وقد تناول هذه القضايا من خلال ثلاث مسرحيات أيضًا، وفى بداية تحليله لهذه المسرحيات يحرص الفرجانى على تأكيد منهجيته فى الاختيار فيقول: «قد عالجت هذه الأعمال القضايا الاجتماعية معالجة تراجيكوميدية من وجهة نظري»؛ فهو يؤكد أن هدفه توثيق الظاهرة من خلال تتبُّع ما يؤيدها، وجاءت هذه المسرحيات على النحو الآتي:
أولًا: مسرحية “المحروسة” لسعد الدِّين وهبة: ويُبرز الفرجانى فى تحليل هذه المسرحية، دراما التراجيكوميديا، من خلال تفسير الدلالات الرمزية لطبيعة الشخصيات التى دار بينها الصراع؛ كمأمور المركز الذى يمثل السلطة، ووكيل النيابة الذى يمثل الشعب، ويقول الفرجانى فى سياق تحليله: «موضوع المسرحية هو تصوير مأساة الفلاحين ومعاناتهم ضد الإقطاع ورجال الأمن، فكان من الطبيعى أن يغلِّف المؤلف هذه المأساة بروح فكاهية مسايرة لروح المأساة التى نَبَعت من التيمة الرئيسة فى المسرحية، لذا دخلت الفكاهة بوصفها نوعًا من الرفض لهذه المأساة، وسخرية من الواقع، فتحققت التراجيكوميديا داخل العمل من خلال مشهيات ولَّدت الملهاة داخل إطار المحيط المأساوي»، ثم تناول الفرجانى عدة مقاطع حوارية بين عدد من شخصيات المسرحية فى مواقف متنوعة؛ للتدليل على تحليله واستنباطه.
ثانيًا: مسرحية “عائلة الدوغري” لنعمان عاشور: وتدور أحداث هذه المسرحية حول عائلة من الطبقة الوسطى، ويُورد الفرجانى عدة مقاطع حوارية من هذه المسرحية، متناولًا إياها بالتحليل والتعليق، مبينًا مواضِع التراجيكوميديا فى هذه المواقف التى يدور حولها الحوار، ومن ذلك كمثالٍ قوله معلقًا على حوارٍ بين حسن الدوغرى وبين كريمة زوجة أخيه: «فالموقف التراجيكوميدى يتولد من التضاد بين موقف كريمة المأساوى وبين معالجة حسن الكوميديَّة لها؛ فحين تنهمر كريمة بالبكاء على وضعِها المأساوي؛ يتدخل حسن بمواساتها بروحه المرحة»، وعلى هذا النحو يبنى ضيف الفرجانى رؤيته لهذه المسرحية، واستنباطه ما يبرهن به على تصنيفها تحت فن الدراما التراجيكوميدى.
ثالثًا: مسرحية “رحلة خارج السُّور” لرشاد رشدى [ت: 1983م]: وفى إطار تحليل ضيف الفرجانى لهذه المسرحية واستخلاص ما يوضح تصنيفها ضمن الدراما التراجيكوميدي؛ يذكر أولًا المحور الرئيس الذى تدور حوله المسرحية وهو تصوير عجز المجتمع المصرى عن تحقيق حلمه الاجتماعى بعد ثورة يوليو 1952م، ثم يؤكد الفرجانى أن التراجيكوميديا تتبلور داخل هذه المسرحية من خلال المفارقة بين نظرة الفرد إلى ذاته وبين نظرة المجتمع إليه؛ ويعرض الفرجانى عدة مقاطع حوارية معلقًا عليها فى سياق منهجه التحليلى النقدى الذى يخلص منه إلى إثبات رؤيته فى تصنيف الأعمال المسرحية التى يتناولها فى دراسته، وفى هذا السياق يقول بعد أحد المقاطع الحوارية: «فى هذا الحوار يؤكد الكاتب أن فلسفة هذا المجتمع هى الفساد، وأن مقاومته هى الاستثناء، ومن خلال هذه النظرة القائمة على التناقض تتفجَّر التراجيكوميديا»، وعلى هذا النحو يمضى الفرجانى فى إطار العرض والتحليل والاستنباط المناسب لرؤيته التى تدور حولها دراسته.
وبعد انتهاء المؤلف من عرض نماذج المسرحيات السياسية والاجتماعية التى دارت فى إطار التراجيكوميديا؛ يوضح سبب التقسيم إلى هذين النوعين؛ فالمعروف أن السياسة والاجتماع قرينان؛ لأن السياسة لا توجد إلا من خلال مجتمع، وكل مجتمع لا بد له من سياسة تعالج أموره الداخلية والخارجية، لذلك يعلل المؤلف تقسيمه المسرحيات التى تناولها، إلى سياسية واجتماعية، فيقول: «قام كتَّاب الدراما بطرح هذه القضايا فى قالب التراجيكوميديا بوصفِها محاكمة للثورة وفق مبادئها، لكن اختلفت المعالجة التراجيكوميدية فى القضايا الاجتماعية عن القضايا السياسية؛ فَفِى القضايا السياسية كانت السمة الغالبة هى السخرية البارزة اللاذعة التى تقوم بدور المحرِّض، أما فى القضايا الاجتماعية فكانت السخرية محصَّلة وليست عنصرًا»، وبعد ذلك يتطرق الفرجانى إلى عناصر البناء فى دراما التراجيكوميديا، موضحًا جوانب خصوصية التناول فى هذا القالب الذى يجمع بين شقَّى الدراما (الكوميديا والتراجيديا)، وفى سياق تبيين هذه الخصوصية يستطرد الكاتب فى ذكر الأمثلة، معقبًا بالنقد والتحليل، ونستطيع أن نقول بشكلٍ مجملٍ: إن المؤلف قد اعتمد فى منهجه على التَّتبُّع والتحليل والاستنباط، فى سبيل إثبات رؤيته العلمية والنقدية.