رحل فى هدوء كما عاش، رحل لطفى لبيب، فارس «خط الوسط» فى دراما الحياة، الذى آثر دومًا أن يلعب دور الحلقة الذهبية بين البطولة والجمهور. لم يكن نجمًا يطلب التصفيق، بل ملاكًا حارسًا للفن الرصين، يمسك بتوازن الحكاية فى زمن التهريج، ويرسم البهجة من دون تكلف.كان فنانًا حقيقيًا، يفهم القيمة قبل الدور، ويحترم الجمهور قبل الكاميرا، ويصنع من كل لحظة حضور درسًا فى التواضع والتمكن. رحل صاحب «عسل أسود»، الذى ظل الوجع فيه مصريًا والضحكة أصيلة.برحيله، يفقد المسرح والتليفزيون والسينما ركنًا من أركان الحكمة والبساطة والصدق، ويترجل مقاتل أكتوبر، الذى حارب فى الميدان وفى كتيبة الفن، تاركًا رصيدا من المحبة والأدوار الباقية. لكن العزاء الوحيد أن الأرواح الكبيرة لا تموت، بل تظل سطورًا مضيئة فى دفتر الفن، تعلّم وتلهم، وتبتسم بهدوء، كما كان.فى زمنٍ تتصارع فيه النجومية بين «المقدمة» و»الخلفية»، ويتسابق فيه الفنانون على احتلال مساحة الضوء، اختار لطفى لبيب بمنتهى الوعى أن يلعب فى «خط الوسط»، حيث الرؤية الأوسع، والمسئولية الأثقل، والتأثير الأكثر عمقًا. ليس مجرد «كوميديان»، كما يختصره البعض، بل هو فنان شامل، يحترف الضحك والتراجيديا والفكر، ويكتب، ويحارب، ويُعلم. فى السطور التالية، نتوقف أمام محطات فنية وإنسانية بارزة فى حياة الفنان القدير لطفى لبيب، نستعرض خلالها مشواره فى المسرح والسينما والتلفزيون، ونتعرف على إسهاماته المتنوعة كممثل وكاتب ومثقف، وعلى السمات التى جعلت منه فارسًا مميزًا فى ساحة الكوميديا الراقية، ومثالًا للفنان الذى احترم موهبته وجمهوره على مدى عقود. وقد اعتمدنا فى توثيق هذه المسيرة على مادة بحثية موثقة أعدّها المؤرخ والناقد المسرحى الدكتور عمرو دوارة، ضمن جهوده المستمرة فى أرشفة وتوثيق تاريخ المسرح المصرى وروّاده.ولد لطفى لبيب فى 18 أغسطس 1947 ببلدة ببا، محافظة بنى سويف. بدأت موهبته فى مسرح المدرسة، لكنه لم يدخل الفن مباشرة؛ فقد سلك أولاً طريق كلية الزراعة، التى فصل منها، ثم التحق بالمعهد العالى للفنون المسرحية، وتخرج عام 1970، ضمن دفعة ذهبية ضمت محمد صبحى ونبيل الحلفاوى وهادى الجيار. بعد التخرج، استكمل دراسته فى الفلسفة، وكأنما كان يبحث عن فلسفة الأداء قبل أن يخوض معاركه الفنية.امتدت فترة تجنيده لست سنوات، شارك خلالها فى حرب أكتوبر 1973، تلك التجربة التى حولها إلى كتاب درامى بعنوان «الكتيبة 26»، مقدمًا نموذجًا نادرًا للمثقف الذى يوثق الحرب لا بالسلاح فقط، بل بالقلم أيضًا. لم يكن مجرد ممثل، بل شاهد ومشارك وراوٍ.تأخرت انطلاقته الفنية نحو عقد كامل، لكنها عندما بدأت، انطلقت بقوة، وبشكل خاص عبر مسرح الطليعة فى الثمانينيات، مع مسرحية «ما زالت المغنية الصلعاء صلعاء». منذ ذلك الحين، ظل المسرح معشوقه الأول، حيث لعب أدوار البطولة والمشاركة بتوازن نادر.تميّز لطفى لبيب بقدرة لافتة على التحرك بين الجد والهزل، بين الفصحى والعامية، بين المسرح والسينما، وبين خشبة المسرح وكاميرا التلفزيون. لكن قوته تكمن فى أنه ممثل يعرف ما يقول. يجيد «الارتجال المدروس»، ويصنع من الأدوار الثانوية شخصيات حية، تتغلغل فى ذاكرة الجمهور، مهما كانت مساحة الظهور.كان يردد دومًا أنه لا يسعى للبطولة المطلقة. يصف نفسه بـ»لاعب خط الوسط»، تمامًا كما فى كرة القدم، صانع ألعاب، يخلق الفرص للنجوم ليتألقوا، لكنه لا يتوارى عن الحسم حين يُطلب منه. هذه الرؤية هى التى جعلته امتدادًا طبيعيًا لجيل من الممثلين الكبار الذين حملوا روح الكوميديا الذكية دون أن يتورطوا فى الابتذال أو السطحية، مثل: عبد الفتاح القصرى، حسن مصطفى، حسن حسنى.لم تمنحه السينما فرصة البطولة المطلقة، لكنها أعطته ما هو أهم: حب الجمهور وتقدير النقاد. من «السفارة فى العمارة» إلى «عسل أسود»، ومن «الكلام فى الممنوع» إلى «أمير البحار»، صنع لطفى لبيب أرشيفًا ضخمًا من الشخصيات الصغيرة فى حجمها، الكبيرة فى أثرها.فى الدراما التلفزيونية، قدم عشرات الشخصيات المتنوعة، لكنه أضاف بُعدًا مهمًا: الكاتب المفكر، الذى لا يكتفى بالأداء، بل يؤمن بأن الفنان لا بد أن يكون «صاحب موقف». كتب سيناريوهات، ورواية «نيويورك»، وشارك فى الصحافة بانتظام.ظل المسرح هوايته الأولى و»مجال عشقه الكبير»، الذى منحه فرصة البطولة الحقيقية. ومن أبرز أعماله المسرحية:مع مسرح الطليعة: «ما زالت المغنية الصلعاء صلعاء» (1981)، «الثلاث ورقات» (1986).مع المسرح الحديث: «الرهائن»، «عنتر 83»، «الملك هو الملك»، «سى على”.مع المسرح القومى: «الملك لير» (2002)، «ليلة من ألف ليلة» (2015).مع القطاع الخاص: «طرائيعو»، «كعب عالى”، «الشحاتين»، «أولاد ثريا».فى مسرحيات مصوّرة للتلفزيون: «كلام خواجات»، «أولادى”، «الحرامية أهمه».لم يحصل على البطولة المطلقة، لكن السينما منحته أدوارًا لا تُنسى فى أكثر من 100 فيلم، منها:«المشاغبون فى الجيش» ، «عودة مواطن»، «يوم مر يوم حلو»، «الحب القاتل»، «سارق الفرح»، «المراكبي». «فيلم ثقافي»، «اللمبي»، «يا أنا يا خالتي»، «الباشا تلميذ»، «السفارة فى العمارة»، «عسل أسود»، «أمير البحار»، «رمضان مبروك أبوالعلمين حمودة»، «زهايمر»، «365 يوم سعادة»، «مولانا»، «أبوشنب».نال عن دوره فى «كلام فى الممنوع» و»السفارة فى العمارة» جوائز أحسن ممثل دور ثان.شارك فى أكثر من 120 مسلسلًا، وترك بصمة فى: «رأفت الهجان»، «أرابيسك»، «زيزينيا»، «الملك فاروق»، «عمارة يعقوبيان»، «إسماعيل يس»، «الخواجة عبدالقادر»، «صاحب السعادة»، «الكبير أوي»، «تامر وشوقية»، «أزمة سكر»، «عريس دليفري»، «ولاد السيدة»، «الداعية»، «ونوس».امتلك القدرة على مزج الكوميديا بالدراما بذكاء نادر، وسحر الحضور الهادئ.شارك لعقود طويلة فى برامج ومسلسلات إذاعية يصعب حصرها بسبب غياب التوثيق، ومنها: «رجل المستحيل»، «حبيبتى آخر حاجة»، «لطيف زمانه»، «رحلة العذاب»، «أغرب القضايا»، «أوهام»، «حب بالصلصة». من سماته الأبرز: الحضور الهادئ الساحر، خفة الظل، الذكاء فى الأداء، والإخلاص للدور أيًا كانت مساحته. لم يسع لتكرار نفسه، وكان دائم البحث عن أدوار جديدة، لا تشبه سابقاتها. كان يدرك أنه يصنع رصيدًا شخصيًا من التنوع والإجادة.نال جوائز متعددة، منها جائزة أحسن ممثل دور ثان، وتكريمات من مهرجانات كبرى، لكن أهم جوائزه تظل حب الجمهور واحترامه، وثقة المخرجين فى قدرته على دعم أى عمل يشارك فيه.لطفى لبيب هو بطل الظل، الذى يدرك أن البطولة ليست فقط وقوفًا فى صدارة المشهد، بل قدرة على صناعة المشهد ذاته. يختصر مسيرته فى تلك الجملة الحكيمة: «أنا لاعب خط وسط، أصنع الأهداف ولا أطلب التصفيق.. لكن حين يُصفر الحكم، تعرف أننى كنت هناك».