الفينومينولوجيا ودراماتورجيا المكان والفراغ (1-2)

الفينومينولوجيا  ودراماتورجيا المكان والفراغ (1-2)

العدد 758 صدر بتاريخ 7مارس2022

 يدق الجرس، ويفتح عينيه ويرفع رأسه لينظر إلى أعلى . ينفتح الفم وتقال الكلمات : « يوم الهي آخر « . علي ما يبدو أن الممثلة التي ترتدي قميصا قصيرا جدا، مدفونة حتى وسطها في كومة منحدرة بلطف من الأرض أمام أفق قاحل مع حقيبة تسوق علي يسارها ومظلة علي يمينها . وهنا ينشأ سؤال بالنسبة المشاهد الذي لا يعرف مسرحية بيكيت « الأيام السعيدة « . « أين نحن ؟ وما هذا المكان ؟ هل هو شاطئ ؟ . يبدو أن هناك طريقا قريبا . وبانتظام، أثناء سير المسرحية، يتضح لنا أننا لا نتعامل مع مكان بل مع شخصية في فراغ . وبالتالي تركنا الواقعية ودخلنا فراغا مجردا يفتقر الى النقاط الأساسية التي توفر لنا الإحساس بالمكان . 
 وفي مسرحية أخرى، تنظر الممثلة إلى أعلى، ولكن المكان الذي تنظر اليه غير محدد . وتتكلم أيضا : « مر عام على وفاة أبي اليوم الخامس من شهر مايو «. ورغم ذلك، فإنها ليست وحدها، ولكنها مع شقيقتيها . وتصحح أوراقا وتقف أو تمشي في غرفة معيشة في منزل بروزروف . ربما نعي لاشعوريا العلاقة المكانية بين أولجا وشقيقتيها، ولكننا ندرك تماما مكانها . فموقعها يحدد مكانها، وكيف اندمجت فيه، والى أي درجة تشكلت هويتها في عالم المسرحية . 
 وهذان هما المصطلحان – المكان والفراغ Place and Space – اللذان أستكشفهما في هذه المقالة . والكلمتان متشابهتان في أنهما مرتبطتان بالموقع والمسافة والحجم، وموقفنا تجاه أي شيء آخر . ورغم ذلك سوف أركز علي الاختلاف بينهما حيث تتم مناقشتهما في مختلف السياقات الفلسفية باعتقاد أن تميز كل منهما يمكن أن يثير مجموعة متنوعة من الأسئلة ذات الصلة بالدراماتورجيا وممارستها . ويمكن أن يساعدنا توضيح العلاقة بين هاتين الكلمتين في فهم العلاقة غير المستقرة بين «الأداء  performance” و”الأدائية “Performativity، والمنظورات المختلفة للمخرجين ومصممي الديكور والممثلين ؛ وتعلمنا في النهاية شيئا عن عملية الدراماتورجيا، وربما توفر لنا أساسا لاتصال أفضل . وسوف استخدم عملين لفيلسوفين من الذين يقدم لنا استكشافهم للمكان والفراغ أساسا للتمييز بين المفهومين وهما : « إنتاج الفراغ The Production of space « تأليف هنري لوفيفر  Henri Lefebvre، و “ مصير المكان The Fate of Place” تأليف ادوارد كيزي Edward Casey . 
 الفراغ، بالنسبة إلى لوفيفر، ليس هو الشيء الذي يوجد، بل هو الذي ينتج، وبالتالي له تاريخ . بهذه العلاقة المادية الحقيقية، يرى لوفيفر التاريخ علي أنه تاريخ علاقة الإنتاج والطرق التي يتم بها تمثيل هذه العلاقات في ثقافة معينة . إذ يتحدد الفرق بين الفراغ النسبي وتمثيلاته بشروط الفراغ المطلق والمجرد .  فالفراغ المطلق مثل السهول الكبرى، بالنسبة إلى لوفيفر، يتكون من أجزاء من الطبيعة التي يؤدي تكريسها الى تجريدها من تفردها وخصائصها الطبيعية . بالتالي، سرعان ما امتلأ هذا الفراغ بقوى سياسية . الفراغ، بالنسبة لهذا الفيلسوف، يظهر الى الوجود عندما تكون الطبيعة ذات حدود منقسمة ومقسمة وفقا لعلاقات انتاج وعلاقات اجتماعية معينة . ومن المهم أن نلاحظ، بطرق سوف تتضح فيما بعد، أن لوفيفر يعترف بالعالم الطبيعي حتى لو كان عالما مجزأ، عالم موجود قبل تدخل البشر، ولكنه لا يُكشف عنه (وإخفاؤه) في عملية استيطانه .  فتمثيل هذا الفراغ، سواء في شكل استطرادي أو في الأعمال والذكريات، موجود في أعقاب هذا التداخل ان لم يكن مرادفا له . فبالنسبة إلى لوفيفر يحدد التمثيل والأشكال التمثيلية الفراغ المجرد، مثل الصور والكتابات عن السهول الكبرى . وبالتالي، فان الفراغ المجرد هو وسيلة لفهم الفراغ المطلق بشكل ايجابي تجاه تضميناته :التكنولوجيا والعلوم التطبيقية والمعرفة المرتبطة بالسلطة . وربما يوصف الفراغ المجرد فورا وبشكل متصل، بأنه موضع ووسيلة وأداة هذه الايجابية . ويلاحظ أيضا أن عملية التجريد هذه هي عملية اختزالية – وبالطبع هذه إحدى مزاياها – لأنها تختار تلك الجوانب في العلاقة بين الإنتاج والعالم الطبيعي الذي يشجع توليد تلك العلاقات التي تخدم استمرارية الثقافة . وهذا ليس ادعاءا علي القيمة لأن نفس الشيء يصدق علي الأشكال التطورية والمرغوب فيها فيما يتعلق الأشكال الاستغلالية والقمعية . وهذا هو تفاؤل سياسة لوفيفر بالفراغ . فهناك دائما احتمال إعادة تشكيل الطرق التي نتفاعل من خلالها مع فراغ بعينه . 
 وبينما يهتم لوفيفر بالفراغ كما يتميز بأنه  المجتمع المهتم باستقرار نفسه والحفاظ عليها، فهناك تكافؤات مفيدة في فهم إنتاج الفراغ في المسرح . فالسينوغرافي يشارك مع المخرج في وضع تصور للتصميم في علاقات مع المخرج التقني والأطقم المختلفة في تحقيق المفهوم في شكله المادي . والأهم هو المنتج النهائي، « الأعمال والصور والذكريات التي تتجلى في الفراغ الفعلي للمشاهد، وهو ناتج يخفي العمل والمهارة الفنية، والعملية التعاونية التي تؤدي الى الشكل التمثيلي النهائي . ويصدق هذا بنفس القدر علي فراغ التدريبات، وهو الفراغ الناتج حيث تلعب علاقات القوة والسلطة دورا في تطوير العرض المسرحي، ولكنها تختفي في الناتج النهائي . فالمهم هنا هو العرض، وليس كيفية الوصول اليه. وهذا صحيح في الأماكن العامة علي الأقل . فنحن نلاحظ أن خاصية العملية، الى حد كبير، خاصية الأداء . 
     ورغم ذلك، فان الفراغ الناتج ليس شكلا ثابتا . فالتأكيد علي العلاقات كوسيلة لتحديد الفراغ يشير إلى أن تنظيم الفراغ عرضة للتحولات والتغيرات . ويقول لوفيفر “ إن الوجود المسبق للفراغ يحد من وجود الذات وكفاءتها وأدائها، ومع ذلك، فان حضور الذات وفعلها، الذي يفترضون فيه، في نفس الوقت، هذا الفراغ مسبقا، هو الذي ينفيه أيضا . فتنوع العلاقات التي توجد أيضا في فراغ التدريبات، أو بين المخرج والسينوغرافي، لديها الإمكانات – سواء حدث ذلك بوعي أم لا – لتغيير الطريقة التي يحدث بها العمل، وبالتالي، تعيد تعريف الفراغ، ما يعنيه الفراغ في عملية العرض المسرحي . 
 الفراغ بالنسبة الى لوفيفر هو نتاج ترابط القوى التي توجد فقط من خلال إنتاجه. وبهذا المعنى يكون الفراغ أدائيا، وهو تأثير الأداء . وباستخدام مصطلحات جوديث باتلر، فانه نتيجة الأفعال الرسوبية التي تصبح، من خلال التكرار، جامدة وطبيعية . ورغم ذلك، فان مفهوم باتلر للأدائي يقوم علي التلقي والفشل في أن نأخذ في اعتبارنا الأنشطة والأفعال التي يتعهد بها الوسطاء في الأداء الذي يؤدي الى الأدائي . وكما توضح سو- الين كاس Sue-Ellen Case  في كتابها « مصفوفة المجال The Domain Matrix” وفي مواضع أخرى، أن الخطاب الحالي حول الأدائي تعطي الأفضلية لقراءة العلامات، وتنفي أشكال الخطاب الأخرى . ولعل أحد أنواع الخطاب التي تم تجاوزها في مناقشة الفراغ هو خطاب المكان . 
 ربما يبدو التمييز بين الفراغ والمكان أمرا لا معنى له، وأن الفرق بينهما، بالطبع، هو فرق في المنظور . ولكن الانتقال من الواحد الى الآخر هو أمر حاسم مثل الانتقال من الأداء الى الأدائي، بمعنى آخر، هو انتقال من الفعل الى ما تحقق خلال الفعل . وبينما لا توجد طريقة لفصل الفعل عما تم فعله، فان رفض المحاولة أو الخلط بينهما أمر خطير . وسوف يكون الأمر نفسه عندما نقول أنه لا فرق بين عملية التدريبات والعرض المسرحي . فالعرض، وهو الأدائي، هو ما يجب قراءته واستهلاكه . والعملية، وهي الأداء، هو الوسيلة التي تتاح بها السلعة للاستهلاك . وهذا أمر مشابه للمكان والفراغ . فالفراغ هو الذي ينتُج وبالتالي يكون قابلا للقراءة . انه المفهوم التحليلي والنتظيري الذي يتطلب تباعد معين لكي يكون مفهوما . فالفراغ ليس هو الشيء الذي يعاش بالطريقة التي تعاش بها التدريبات لتجهيز الأداء المسرحي . فما يعادل التدريبات في هذا التناظر هو المكان . ولكي أفكر في المكان فان الأمر يتطلب تغيرا في المنظور، من التحليلي إلى الفينومينولوجي، ومن ملاحظة التجربة إلى معايشة التجربة . وطرح سؤال الفينومينولوجيا يعني طرح سؤال الجسم . 
 ويميل لوفيفر إلى نفي الجسم في عمله، إذ يرى أن له اهتمام ثانوي : «ربما كان من المفيد النظر إلى الجسم « . فالجسم هو الشيء الذي يستخدم في الممارسة الاجتماعية، ويتكون من اليدين، والأعضاء والحواس . أما فيما يتعلق بالتجربة المعاشة، فربما كانت شديدة التعقيد وغريبة تماما، لأن الثقافة تتدخل هنا بأهميتها الوهمية عن طريق الأشكال الرمزية . فمن منظوره أن الجسم هو الشيء الذي يشغل الفراغ ويوجد في علاقة مع الأشياء الأخرى . ويقدم الجسم باعتباره الجزء الذي يكون اهتمامه الأساسي  هو أنه أداة في الممارسة الاجتماعية . والشيء الناقص في معالجته للجسم هو إدراك أن الذات متحركة . فالجسم يصبح، عند لوفيفر، شيء في حركة فضلا عن أنه وجود متحرك . ويمكن إرجاع نفي الجسم الى ديكارت علي الأقل، فالفكر وعقل الجسم منفصلان في نظره . والأمر نفسه مرتبط بما يسميه لاكان Lacan   المدخل الى الرمزي . فبالنسبة إلى لوفيفر، ينفصل الطفل عن جسمه لأن اللغة في مرحلة تأسيس الوعي تكسر وحدة الجسم غير الوسيطة . وهناك فرضيتين مهمتين هنا . الأولى أن لوفيفر يزعم بأن هناك فترة في حياة الطفل توجد فيها وحدة غير وسيطة في الجسم، والثانية، أن اللغة لها القدرة علي كسر هذه الوحدة . ويبدو أن ما يعنيه بالوحدة غير الوسيطة مسألة غامضة . وتجادل ماكسين شيتس- جونستون بشكل مقنع في كتابها « أسبقية الحركة Primacy of Movement « أننا نتدرب علي أجسامنا، وأنه من خلال هذا التدرب والمعرفة اللمسية الحركية المكتسبة يمكننا أن نتعلم الكلام . وتؤكد أننا ننسجم مع الآخرين من البداية أثناء استكشافنا للعالم كموجودات متحركة، ولكن هذا لا يفترض وجود وحدة غير وسيطة، بل في الحقيقة العكس تماما . فتفاعلنا مع الآخرين من لحظة الميلاد تتعلق بعملية توسيط مبكرة ومستمرة . ولا يتضح لنا، إذا كانت هناك وحدة غير وسيطة يمكن أن تكسرها اللغة . بالتأكيد تمنعنا اللغة من الوصول الواعي إلى فورية الجسم، ولكننا لا نستطيع أداء عدد لا حصر له من الأفعال دون شفاعة الفكر الواعي، مثل المشي، والحفاظ علي التوازن، والتقاط أشياء ثقيلة؟ أليس في قدرتنا أن نستخدم أنيابنا وشفاهنا ولساننا وأننا قادرون علي الكلام؟ وهل مزق الوعي من خلال اللغة وحدة الجسم، أم هل قدرتنا علي الحركة تمنحنا وسيلة للغة؟. 
.....................................................................................
• جون لوتربي يعمل أستاذا بجامعة Stony Brook. ومن أبرز كتبه «سماع الأصوات Hearing Voices» الذي نشر ضمن مطبوعات جامعة ميتشجان. وقد نشر العديد من المقالات في مجلات مثل Theater and Criticism، Performance Research ،Journal for Psychology and Humanities . وكتاب «نحو نظرية عامة في فن التمثيل Toward a General Theory of Acting» 
• نشرت هذه المقالة في Journal of Dramatic Theory and Criticism  


ترجمة أحمد عبد الفتاح