«حدث في بلاد السعادة» يستعيد سير عاد وثمود ولكنه يدللهما!

«حدث في بلاد السعادة» يستعيد سير عاد وثمود ولكنه يدللهما!

العدد 575 صدر بتاريخ 3سبتمبر2018

لما كنت ممن لا تستهويهم مطالعة صفحات الشؤون الدولية في الصحف، وفي نشرات الأخبار، ولا يعنيهم – حتى - ما يحدث في بيوت الجيران، ناهيك عما يحدث في بيوتهم هم، من باب أن المدبر هو الله، ولا شيء أبدا يستحق الانشغال عن الذكر والاستعداد للآخرة التي هي خير وأبقى، فلم اهتم بمتابعة ما يشغل بال الناس هذه الأيام، ويدفعهم لتناقل أخبار «ما حدث في بلاد السعادة». مالي أنا وبلاد السعادة أو حتى بلاد التعاسة. ولأن الزن على الودان أَمرّ من السحر، فقد اضطررت – مؤخرا - للانصياع لرغبة صديقي حسن المزيِّن - حلاقي الخاص - في أن يسمعني حكاية هذه البلاد بنفسه.. هذا بالذات لا يمكن مقاومته، ولله الأمر من قبل ومن بعد. المهم أسلمته رأسي وأذنيّ، ولكنني لم أستطع الذهاب في النوم حتى ينتهي من حكايته مثل كل مرة، وقد أثار دهشتي كم العجائب والغرائب الذي حفلت به الحكاية، فوجدتني أقاطعه لأول مرة مبديا عدم اقتناعي، قلت: أظنها أساطير تروى، لا أصل لها ولا فصل، والناس لم يعد يشغلهم في هذه الأيام المباركة أكثر من حديث الخرافة، واللت والعجن فيما يعرفون ومالا يعرفون. لم أقتنع بأن شعب هذه البلاد يمكنه – حتى وإن أراد - أن يكون بكل ذلك الغباء والعبط، فيرد يد حاكمه الطيب الممدودة إليه بالحب والخير والنماء، لا سيما بعد أن ذاق مرارة حكم المحتل الأجنبي الغاشم! أضفت: أظنها قد انتهت وإلى الأبد معادلة الأنبياء وأقوامهم الظالمين تلك؛ أولئك الذين استحبوا العمى على الهُدى فلم يستجيبوا لدعوة أنبيائهم إلى الحق، واستكبروا استكبارا، ذلك عهد قد ولّى، ثم إن المعادلة هذه الأيام أصبحت معكوسة يا حسن، فيما أسمع.
ولكن العجيب - يا سادة - أن ما تصورته حديث خرافة قصَّه علي «أبو علي» تأكد لي - بعد ذلك - أنه حديث صادق مائة في المائة، وأنني تسرعت في الحكم عليه، وظلمت – بسببه – حلاقي الأمين، واتهمته بالمبالغة والتهويل وترديد الخرافات.
كان «حسن» ممن لا يقبلون أبدا الطعن في حكاياتهم، وهو من يعتز بعلمه الغزير، وثقافته الواسعة التي حصلها من قراءة المجلات المتوفرة لديه بالمحل، وعادة الذهاب إلى المسرح التي ورثها عن جاره بائع» الفيشار» لذلك صمم أن يصحبني معه إلى مسرح يسمونه السلام، قال هنا يمثلون مسرحية «حدث في بلاد السعادة» وستتأكد بنفسك من صدق روايتي، ومن أجل أن يقنعني بالذهاب معه إلى هذا المكان قال لي إنه محراب علم ونور، من شأنه أن يهدي الناس إلى الحق، ويهذب أخلاقهم، ويدعوهم للطريق القويم، ويعرض همومهم وقضاياهم بنزاهة، وإن ما يقدمونه فيه ليس منبت الصلة عن قصص الأنبياء والقديسين التي أقرأها، فقلت: ونِعم، ربح البيع بإذن الله. ولأنني جاهل بمثل هذه المباهج والتفانين، فقد شرح لي» أبو علي» أن هناك من أعاد كتابة ما حدث في بلاد السعادة واسمه المؤلف وليد يوسف، وهناك من قاد الفريق الذي شخَّص ما حدث ويسمونه المخرج وهو مازن الغرباوي، قال إنهما سيعيدان حكي الحكاية بالتفصيل، بواسطة فرقة بكامل عدتها وعتادها، واسمها فرقة المسرح الحديث، اجلس وتفرج حتى تتأكد بنفسك، ولا تتهمني ظلما.
«هذا شعب يستأهل الحرق، ولا يستحق حاكمه» قلت ذلك في نفسي وأنا غارق لشوشتي في «المسرحية». يشبهون الكثير من الأقوام الظالمة التي تحدث عنها القرآن؛ يحبون الفساد إذا ما استطاعوا إليه سبيلا، والغلط راكبهم من فوقهم لتحتهم، لا يتركون منكرا إلا فعلوه، ولا نقيصة إلا تحلوا بها، فطرتهم مشوهة، وضمائرهم معوجَّة، أظنه عيب خلقي أصابهم من الأصل، أو أن الله قد مسخهم على هذه الشاكلة.
عاقبهم الرب على رذائلهم وضعفهم وتفرق كلمتهم باحتلال الحاكم الأجنبي أراضيهم، فلم ينتبهوا أصلا إلى أنهم شعب مُحتَل، وكان جل همهم ليس هو طلب الحرية واستقلال بلادهم، إنما الشكوى من كساد تجارتهم، وزعلهم من الحاكم (المحتل) لأنه كان معزولا في قصره، وليس قريبا منهم! ثم حين فكر أحدهم وهو «الحطَّاب» في الاحتجاج لدى هذا الحاكم بسبب الفقر الدَّكر الذي حل ببلادهم، تركه الجبناء وحيدا وفروا هاربين!، ثم لما أكرمهم الرب بحاكم منهم، حريص عليهم، وعطوف بهم وهو «الحطاب الفقير» نفسه، تملعنوا عليه، وبدلا من أن يمدوا أياديهم إلى يده الممدودة لهم بالحب والخير والنماء، ويستجيبوا لمساعيه الإصلاحية التي بذلها من أجلهم، وتستقيم حياتهم بالعمل الذي حثهم عليه، وبالأموال التي قررها لفقرائهم من بيت المال، ادّعوا الفقر واستمرأوا التسول، ونصبوا على بيت المال، وغرقوا في الخمر والميسر، واعترض أصحاب الحانات وصالات القمار على تغيير نشاطهم، ولم يرضوا بالعمل الشريف الذي وجههم إليه الحاكم، كما لم يرض التجار بالأسعار العادلة التي فرضها الحاكم حماية للناس، وأبوا إلا أن يكونوا جشعين، يفرضون أسعارا فاحشة مقابل سلعهم، كما فضَّل السجناء منهم (الحكيم والشاعر) أن يبقوا في السجن، على الاستجابة للحاكم الذي ذهب إليهم بنفسه ليحررهم، كما لم يستجيبوا لطلبه أن يعملوا معه، ومع ذلك لم يبخلوا عليه بالنصيحة، وقد نصحوه بالتزام الشدة مع شعبه النمرود الذي يغريه عطف الحاكم بالتطاول والملعنة.
«بل يستحقون أكثر من الحرق»، الله نفسه فعل ما هو أشد مع أمثالهم، من الأقوام العصاة الذين لم يستجيبوا لدعوة أنبيائهم وجحدوها، وكادوا لها، واتبعوا الهوى، فمنهم من خسف الله بهم الأرض، ومنهم من أخذتهم الصيحة، ومنهم من أغرقهم الطوفان، ومنهم من جمدوا كالتماثيل، الخ، فلماذا يدلل هذا المخرج أو المؤلف أهل هذه البلاد، وقد بدا واضحا أنه لا أمل فيهم، ولا رجاء؛ يدعوهم حاكمهم لما يصلح دينهم ودنياهم، وهم في غيهم وطغيانهم سادرون، تحركهم أصابع شيطانية وأجنبية لهدم البلاد، وتحرضهم على حاكمهم، فيستجيبوا لها، غير مدركين لحجم المؤامرات التي تحيط بهم، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
كنت أتمنى لو تدخل كاتب هذه المسرحية في صياغة ما حدث في هذه البلاد، فإما ينهيها مثلا بعودة أهلها بعد ظلمهم إلى طريق الرشد والصواب والندم على ما فعلوا ووضع أياديهم في يد الحاكم والقضاء على المؤامرات، واستعادة السعادة التي كانت، وإما أن يحرق هؤلاء الناس بجاز وسخ ويستبدل بهم قوما مؤمنين، ولو كان الأمر بيدي ما أقدمت على تقديم مثل هذه النماذج السيئة أصلا على المسرح، ولاكتفيت بتقديم النماذج المضيئة فقط، حتى يتعلم منها الناس كل ما هو صالح ومفيد لدينهم ودنياهم. مالنا نحن وما حدث في تلك البلاد البعيدة!


محمود الحلواني