العدد 943 صدر بتاريخ 22سبتمبر2025
تُعد مسرحية «سجن النسا» للكاتبة فتحية العسال (1933–2014) علامة بارزة في مسار الكتابة المسرحية النسوية في مصر والعالم العربي. هذا النص لم يكن مجرد عمل درامي عابر، بل مثّل لحظة مواجهة بين الإبداع والسلطة، بين الحرية والقهر، بين صوت المرأة الهامشي وصخب المجتمع الذكوري. لقد كتبت العسال نصها من رحم تجربة شخصية عميقة، إذ تعرضت للاعتقال أكثر من مرة بسبب نشاطها السياسي، فجاءت المسرحية امتدادًا لصرخة شخصية، ولكنها تحولت بسرعة إلى شهادة جماعية عن معاناة النساء المهمشات، وإلى نص مفتوح على قضايا الحرية الإنسانية عمومًا.
إن أهمية «سجن النسا» لا تكمن فقط في مضمونه السياسي والاجتماعي، بل أيضًا في كونه نصًا قادرًا على إعادة إنتاج ذاته في وسائط متعددة، من خشبة المسرح إلى الشاشة التلفزيونية، ثم العودة إلى الخشبة بعد نصف قرن. هذا الامتداد الزمني والوسائطي يكشف عن مرونة النص وثرائه الدلالي، وعن تماهيه مع تحولات المجتمع المصري من سبعينيات القرن العشرين إلى العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين.
فلقد ظهر النص في فترة اتسمت بالتحولات العاصفة: ما بعد هزيمة 1967، وتداعيات سياسات الانفتاح الاقتصادي، وتراجع الحلم القومي. كان المناخ العام ملبدًا بالقمع السياسي، والاعتقالات، وتقييد حرية التعبير. في هذا السياق، بدا السجن أحد أبرز الرموز السياسية والاجتماعية، وهو ما التقطته العسال بذكاء وحساسية. لم يكن اختيار السجن مجرد خلفية مكانية، بل كان تعبيرًا عن واقع يعيشه المواطن المصري يوميًا، واقع تغيب فيه الحرية الفردية، وتتداخل فيه حدود الخاص والعام، بحيث يصبح البيت والشارع والمجتمع أشكالًا متعددة من السجن.
المثير في «سجن النسا» أن الكاتبة لم تركز على السجناء السياسيين كما قد يتوقع القارئ، بل اتجهت إلى السجينات الجنائيات والمهمشات. هنا يتجلى البعد الاجتماعي للنص: إذ تكشف العسال أن القهر لا يطال المعارض السياسي فحسب، بل يمتد ليشمل النساء الفقيرات اللواتي دفعتهن الظروف إلى الهامش أو الجريمة. هكذا يصبح السجن مرآة للمجتمع بكل طبقاته وأزماته.
اعتمدت فتحية العسال في نصها على تعدد الأصوات النسائية، بحيث تتوزع البطولة على شخصيات متعددة، لا على شخصية مركزية واحدة. هذه التقنية تمنح النص طابعًا جماعيًا، يقترب من البناء الملحمي عند بريخت، حيث تتحول كل شخصية إلى شاهد على حقبة اجتماعية بعينها. من خلال المونولوجات والحوارات، تتكشف ملامح نساء متنوعات: الفقيرة التي دفعتها الحاجة إلى السرقة، ضحية العنف الأسري، المرأة التي تورطت في تجارة المخدرات، وغيرهن.
ومن الناحية الزمنية، يتخذ النص شكلًا دائريًا، حيث تتكرر المشاهد والحوارات بشكل يوحي بالعبثية واللاجدوى، وهو ما يعكس طبيعة الحياة داخل السجن. كما أن الاعتماد على مشاهد قصيرة متقطعة يخلق إيقاعًا خاصًا يعبّر عن التوتر النفسي للسجينات، ويمنح العرض مرونة في الانتقال بين المواقف والشخصيات.
يتجاوز السجن كونه مكانًا مغلقًا ليصبح استعارة كبرى للوجود الإنساني في ظل القهر. الأبواب الحديدية ليست مجرد ديكور مسرحي، بل رمز للانسداد الاجتماعي والسياسي. الروتين اليومي للسجينات يحاكي الروتين الممل للحياة خارج السجن، بما يحمله من قهر اقتصادي وأسري. حتى مشاهد الصراخ والبكاء المتكررة تتحول إلى دوال سيميائية تكشف عن دائرة الألم التي لا تنكسر.
السينوغرافيا لعبت دورًا محوريًا في إبراز هذه الرمزية. فالمسرحيات التي عُرضت في السبعينيات اعتمدت على ديكور بسيط قائم على جدران عالية وأبواب حديدية، في حين ركزت إعادة العرض عام 2025 على استخدام إضاءة مظلمة وموسيقى صاخبة لإبراز الانغلاق النفسي أكثر من الانغلاق المكاني.
حين تحوّل النص إلى مسلسل تلفزيوني عام 2014، بأقلام مريم نعوم وإخراج كاملة أبو ذكري، بدا كأن النص خرج من دائرة الرمزية المكثفة إلى رحابة الواقعية التفصيلية. فقد توسعت الدراما التلفزيونية في رسم خلفيات الشخصيات،
لتعرض معاناة النساء قبل دخولهن السجن، وتربط بين المجتمع الخارجي والجدران الداخلية.
أبرز ما أضافه المسلسل هو شخصية «غالية» التي جسدتها نيللي كريم، والتي تحولت إلى أيقونة فنية لتمثيل المرأة الضحية/المقاومة. كما لعبت النجمة درة وصبا مبارك وغيرهن أدوارًا عمّقت من الطابع الواقعي للنص. بفضل ذلك، لم يقتصر تأثير العمل على النخب الثقافية كما حدث في المسرح، بل امتد إلى جمهور واسع من المشاهدين، مما جعل «سجن النسا» نصًا حاضرًا في الوعي الجمعي.
العودة إلى الخشبة عام 2025
إعادة العرض في 2025 لم تكن مجرد استعادة نوستالجية، بل كانت فعل مقاومة فني يعيد طرح السؤال: هل تغيّرت أوضاع النساء بعد نصف قرن من كتابة النص؟ الإجابة جاءت متباينة. صحيح أن المجتمع شهد تطورًا في وعيه بقضايا المرأة، لكن القهر الاقتصادي والاجتماعي ما يزال حاضرًا. من هنا جاء العرض الجديد أكثر جرأة في استدعاء إسقاطات معاصرة: البطالة، العنف الأسري، الإدمان، وحتى «السوشيال ميديا» كسجن افتراضي يحاصر النساء. هذا التوسع في الدلالات يثبت مرونة النص وقدرته على التفاعل مع أزمنة مختلفة.
من أهم إنجازات فتحية العسال في «سجن النسا» أنها حررت صورة المرأة من التنميط السائد في المسرح العربي. لم تقدم المرأة كرمز للشرف أو كأداة إغراء، بل ككائن إنساني له معاناته وأحلامه وأخطاؤه. المرأة في النص ليست مثالية، لكنها حقيقية، وهذا ما منح العمل صدقه الفني. في هذا السياق، يمكن مقارنته بتجارب نسوية عالمية مثل أعمال سارة كين في المسرح البريطاني أو نصوص نورا إفرون في المسرح الأميركي، حيث تُوظَّف التجربة الشخصية في صياغة قضايا عامة.
منذ العرض الأول، حظي النص بإشادة النقاد الذين اعتبروه نقلة في المسرح المصري. ومع المسلسل، تحوّل العمل إلى ظاهرة جماهيرية، حيث نوقشت شخصياته في الصحافة ومواقع التواصل الاجتماعي على نطاق واسع. أما العرض الجديد في 2025، فقد أعاد النقاش حول قضايا الحرية والهوية، مما يبرهن أن الفن الحقيقي لا يشيخ، بل يتجدد مع كل جيل.
تكشف دراسة «سجن النسا» أن النص المسرحي الحقيقي يتجاوز حدود زمنه. لقد استطاعت فتحية العسال أن تحوّل معاناتها الشخصية إلى شهادة جماعية، وأن تكتب نصًا يظل حيًا بعد نصف قرن من ظهوره. هذا النص ليس فقط وثيقة اجتماعية عن أوضاع النساء في مصر، بل أيضًا خطابًا فلسفيًا عن الحرية والوجود الإنساني. تحولات النص من المسرح إلى التلفزيون ثم العودة إلى الخشبة تؤكد أن «سجن النسا» ليس مجرد عمل فني، بل هو مشروع مفتوح على قراءات متعددة. إنه سجن يفضح المجتمع لكنه أيضًا يحرر الوعي، ويمنح المرأة صوتًا لم يكن مسموعًا من قبل.