العدد 936 صدر بتاريخ 4أغسطس2025
فى ظل التوترات العالمية الراهنة، والتخوفات المتصاعدة من دوامة عنف جديدة، يتردد كثيرًا مصطلح “الحرب العالمية الثالثة”، كتحذير مما قد يحل بالبشرية إذا عادت لدوامة العنف. وسط هذه الأجواء، جاء العرض المسرحى «مرسل إلى» تأليف (طه زغلول) وإخراج (محمد فرج)، ضمن فعاليات المهرجان الختامى لفرق الأقاليم فى دورته السابعة والأربعين. يقدم العرض صرخة إنسانية ضد الحروب وناقوس إنذار لإفاقة الإنسانية من ويلاتها.
البنية الدرامية
يضع المؤلف (طه زغلول) الحرب تحت المجهر، ليس من زاوية سياسية أو عسكرية بل من منظور إنسانى يفضح قسوة الحروب على الجنود والأمهات والأطفال والمجتمعات، وكيف تجرد الإنسان من قيمته ومعناه، من خلال بعض الخطوط الدرامية التى تُشكل معًا صورة شاملة عن الحرب وآثارها النفسية والاجتماعية تمثلت في:
الأم والابن (هارفى): بحث عن إنسانية ضائعة
تنطلق الأم فى رحلة شاقة بحثًا عن ابنها هارفى، الذى انضم إلى الجيش الفرنسى خلال الحرب العالمية الثانية رغم معارضتها. يرافقها فى هذه الرحلة التاجر العجوز مارتن، الذى يستغل الحرب لجنى الأرباح ببيع الخمور للجنود، مؤمنًا بأن المال “يفتح الأبواب المغلقة”، وهو ما يكشف عن الوجه الرأسمالى القاسى للحروب. فى طريقهما، يعبر الاثنان إلى قرية قرب معسكرات الجنود، حيث تواجه الأم مشاهد مأساوية تعكس فظاعة الحرب: طفل يلعب ببراءة وسط أصوات الرصاص، فتنقض عليه أمه مفزعة تصرخ أن اللعب يكون فى المنزل فقط. كما تلتقى راهبة تسعى لمساعدة الجرحى، فتطلب الأم منها الانضمام إليها على أمل العثور على هارفى بين المصابين.
هارفى وألبرت: لقاء فى جبهة العدو
يصادف هارفى الجندى الألمانى (ألبرت) لنكتشف أنهما يعكسان صورتين متقابلتين للحرب. تطوع هارفى فى الجيش رغبة منه رغمًا عن أمه، ظنًا أنه سيجد معنى لوجوده. لكن نظرته تتغير عند لقاء ألبرت، الجندى المرح الذى يتميز بخفة الظل وسط أجواء الحرب القاسية، لم يقتل أحدًا طوال خدمته، اضطر للالتحاق بالجيش ليحل مكان أخيه المعيل الوحيد لعائلته. على عكس هارفى الذى التحق بالجيش بمحض إرادته. يلتقى الإثنان خلال هدنة مؤقتة فى دورية تفتيش، فينقذ ألبرت حياة هارفى بحيلة ذكية (جعله يتظاهر بالموت). تعكس شخصية ألبرت الجانب الإنسانى فى الحرب؛ فهو يسعى للسلام دائمًا يكرر: «أنا معاهم.. بس مش معاهم» تعبيرًا عن وجوده الجسدى مع الجيش ورفضه الروحى للقتل. تتشكل بينهما علاقة إنسانية عميقة تتخطى عداوة الجيشين، لتثير تساؤلات حول جدوى الحرب فى ظل أن من الممكن أن نصبح اصدقاء ونعيش فى سلام. يتعزز تحول هارفى الفكرى بعد مقتل ألبرت على يد جندى فرنسى آخر، تاركًا أثرًا إنسانيًّا لا يُمحى فى نفس هارفى، ليصبح ألبرت اخر يرفض الحرب بعد أن اتضح له عبثيتها وعدم جدواها.
أندريا وإلير: البيت الذى هدمته الحرب
يعيشان حياة هادئة مستقرة، يملؤها الحب والأمل، يستعدان لاستقبال السنة الجديدة بتزيين شجرة الكريسماس. إلا أن هذا الاستقرار يتزعزع فجأة عند وصول خطاب استدعاء لأندريا للالتحاق بالجيش الفرنسى، ولأنه عاشق لفرنسا يسر أندريا بالخبر، بينما تعانى إلير من فقدان الأب الذى يمثل لها مصدر الأمن والأمان. فى محاولة لتعويض هذا الفراغ، تكتب له خطابات لا تصل تشاركه فيها تفاصيل حياتها، وأخبار مصنع القماش الذى كان يعمل به؛ إذ تحول بفعل تبعات الحرب إلى صناعة معدات عسكرية: من خوذ الجنود وأقنعة الوقاية من الغازات السامة إلى الأطراف الصناعية. وتخبره فى رسائلها أن زينة شجرة الكريسماس قد تساقطت، وتنتظر عودته ليعيدوا تعليقها معًا. مما يرمز إلى ما تخلفه الحرب من جراح عميقة فى نسيج الأسر؛ فكما أن الزينة تزين الشجرة، كان (أندريا) يزين حياة ابنته (إلير). وسقوط الزينة هنا تلخيص صارخ لمأساة تفكك مئات الأسر وسط ويلات الحرب التى تطال الجميع بلا استثناء.
الإخراج والسينوغرافيا: صورة متكاملة
نحن أمام مخرج متمكن من أدواته فسخر جميع عناصر العرض لإيصال الحالة الإنسانية والمشاعر المختلفة للمتلقى عن تداعيات الحرب وآثارها، فكان ديكور (محمد طلعت) عبارة عن كتل تفتح وتقفل وتدور لتوضح لنا الأماكن المختلفة مثل المعسكر وجبهات القتال والقرية، وبها فتحات من الداخل كسجن تارة وخندق تارة أخرى، وكتلة أخرى تعبر عن منزل أندريا وإلير، ومنصة فى عمق المسرح تقف عليها الأم فى النهاية، وبعض الموتيفات الصغيرة التى تأخذنا إلى منزل هارفى، ساعدت سلاسة الديكور فى منح العرض إيقاعًا بصريًا مرنًا وسريعًا.
تماشيًا مع دقة تصوير الحقبة التاريخية، جاءت الملابس (محمد طلعت) معبرة عن واقع الشخصيات، فزى الجنود الفرنسى المتسخ رمز لمعاناتهم وسط أهوال الحرب، وملابس المدنيين البسيطة وزى الراهبة الدينى عبرا عن طبيعة المجتمع. أما إضاءة (عز حلمى)، فتنوعت بين بؤر تركيز للحالات الدرامية، ومشاهد استرجاع الماضى (الفلاش باك)، محدثة تمييزًا بصريًّا بين الزمنين. وقد وظفت الألوانَ دلاليًا، فالأحمر (لون الدم) انسجم مع جو الحرب، بينما غمر الأزرق المشاهد بطابع نفسى قاتم، يعكس جمود الجنود والشخصيات وصورهم كـدُمى فى أيدى السلطات العليا، مضفية بذلك أبعادًا نفسية عميقة على العرض.
تميز أداء الممثلين فى تجسيد المعارك بحركات دقيقة تناغمت مع الأحداث الدرامية، وهذا يرجع إلى مصمم الدراما الحركية (محمد بحيرى). بداية من مشهد الأوفرتير الذى جسد صراع الجنود وسقوطهم المتتالى، مرورًا باستعراض (أندريا) و(إلير) الذى عبر عن علاقة الحب بين الأب وابنته قبيل الحرب، وصولًا إلى استعراض الجنود المبهج خلال احتفال الكريسماس وسط مآسى القتال – وهو تناقض كشف عن لحظات إنسانية عميقة تستحق التأمل.
ولم تقف أشعار (محمد فوزي) منفصلة عن هذا السياق، بل تفاعلت مع الدراما الحركية والحالات الإنسانية للعرض، أغنية “كنا عيلة” و”بنت عيونها بندقية” التى عبرت عن قسوة البعد وحنين أندريا لإبنته، بينما نسجت أغنية الاحتفال بالكريسماس “هنعلق على الشجر الزينة وندق الأجراس بأيدينا ونسرق فرحة من الأحزان.. حلم بلد فيه استقلال أحمر فرحة مش أحمر دم» أوجه الأمل فى قلب المأساة، مبرزة محاولة سرقة الفرح من بين براثن الأحزان.
وتأتى موسيقى (زياد هجرس) لتكمل اللوحة، معبرة عن اللحظات الدرامية والمشاعر الإنسانية المختلفة التى لمستنا فى كثير من المشاهد. إلا أن المؤثرات الصوتية رغم نجاحها فى تجسيد أجواء الحرب عبر أصوات الرصاص طغت على الحوار بسبب كثرة الاستخدام، حيث فاقت الموسيقى والمؤثرات صوت الممثلين، ما أدى إلى تشويش مستمر على المتلقى، فلم نَسمع الحوار فى بعض اللحظات.
الأداء التمثيلى: تفاوت فى المستوى
لعبت دور الأم (آية أشرف) ممثلة جيدة لكنها كانت تحتاج للتدريب على الدور بشكل أكبر؛ حيث جاء أداؤها على نفس الوتيرة، فكانت تحتاج أن تنوع من أدائها، بينما لعب العجوز مارتن (محمد هاشم) كان يحتاج إلى أن يشتغل على تفاصيل الدور بشكل أكبر على المستوى العمرى والديناميكى للشخصية، وكان أدائه غير واقعى فى بعض اللحظات. لعب (محمد عوض) دور هارفى ممثل جيد لكنه لم يعبر عن التحولات النفسية بالشكل المطلوب، فعلى الرغم أن شخصية هارفى تمر بتحولات نفسية كثيرة لكن الأداء كان واحدا، فكان عليه أن يعى بطبيعة الشخصية وتطورها وإعطاء كل تحول ما يستحقه من تعبير. أما ألبرت فأجاد (محمد سليمان) التعبير عن الشخصية بحضوره وخفة ظله وكره الحرب وحبه للسلام وجعلنا نتعاطف معه فى مشهد وفاته. كذلك الأب أندريا (محمود الحسيني) فنراه العامل المحب لجيش بلاده ثم نقل التحول من الحماس إلى التمرد بشكل جيد بالإضافة إلى مشاعر الحب بينه وبين ابنته إلير ومشاعر الإشتياق والحنان أثناء تواجده فى الجيش، أما إلير (شموع وائل) فقد خطفة الأنظار بحضورها وصدقها فى التعبير عن مشاعر الشخصية فى لحظات الفقدان والقلق فى غياب الأب والوحدة والأشتياق خلال كتابتها للخطابات، ويعتبر مشهدها وهى تتضرع إلى الله التى عبرت عنه بصدق من افضل مشاهدها.
اللغة: بساطة تقرب المعنى
من الأشياء التى تحسب لصناع العرض استخدام اللغة العامية الدارجة؛ لأنه يقدم حالة إنسانية تمس الجميع، فسهلت وصول حالة العرض للمتلقى والتواصل معه، وجعلت الأحداث والأنفعالات أكثر قربًا، فنجح فى خلق تواصل حى ومؤثر.
«لا يوجد مكسب فى الحرب” بهذه الكلمات يطلق العمل صرخة مدوية فى وجه عبثية القتال، مؤكدًا أن الجميع خاسر حتى المنتصر، فالحرب مرض خبيث يأكل الجسد حتى يفنيه، وتأتى إلير فى المشهد الختامى، تدعو الله أن تتوقف الحرب، فى لحظة مؤثرة تعكس رسالة العرض فى زمن يعانى من تصاعد التوترات.