«جبّانة»عاطف كريم ..جمال الإبداع وإبداع الجمال

«جبّانة»عاطف كريم ..جمال الإبداع وإبداع الجمال

العدد 920 صدر بتاريخ 14أبريل2025

اجتمعت فى هذا العرض الكثير من علامات النجاح، نقديا وجماهيريا. ابتداء من النص المغزول كزربية أمازيغية تصنعها الجدّات على مهل لتمتع العين المبصرة، ثم تسكين الممثلين فى أدوار كأنها خلقت من أجلهم (وقد يكون الكاتب قد اشتغل على نصه وفى ذهنه هؤلاء الممثلون) مع عناصر الأزياء والديكور والموسيقى. ولا نظن أنّ هذا الإبداع الجميل غريب على الممثلين من عنابة المدينة التى تنتمى إليها جمعية فنانون بلا حدود المنتجة للعمل فقد تعودنا عليهم، ومنهم بعض المشاركين فى هذا العرض لا يشاركون إلا فى الأعمال التى تستحق المشاهدة وتجلب لنفسها الإعجاب الفعلى وتحقق لنفسها البقاء فى الذاكرة. الكتابة والإخراج لعاطف كريم الذى شارك فى التمثيل إلى جانب رضوان بوقشبية، محمـد الشريف أودينى، حمزة فوزى، سفيان دار زحاف. ورد فى الأفيش عبارة “تصميم العرض” بدلا عن الإخراج، وهى موضة أصبح العديد من صناع العروض المسرحية فى الجزائر يستخدمونها مع أننا لا نرى لها أى سند موضوعى (ومرجعيته هى معاجم وقواميس المسرح التى بدورها تستند إلى تجارب كبار المخرجين) يبقى الإخراج هو اللفظة الصحيحة وما عداها إنما هو لعب بالألفاظ فارغ الدلالة.
ينجح العرض عندما يقوم على نص مكتوب باحترافية، لديه تيمة يشتغل عليها الكاتب، بموضوع، وشخصيات وخطوط درامية، يعرف من أين ينطلق وأية دروب يرتاد وأى نقطة يبتغى الوصول إليها. الثرثرة تقتل النص، ومن ثمة تضعف العرض، والعمل الجيد هو الذى يجيد استغلال الفضاءات المتاحة له فى قول ما يريد قوله. يعمل “السبتي” فى حراسة “الجبّانة” أو المقبرة، ويظل فى مناكفات مع ابنه الذى لم يكن عند حسن ظنه، يتنمّر على طريقة حديثه الأقرب إلى النساء (وطبعا هذه الحيلة كثيرا ما تستخدم لاستجلاب الضحك أو لتسوّله)، على رغبته فى الهجرة والزواج بألمانية لتحسين السلالة كما يقول، انقلاب الحوار بين الأب والابن (بسلاسة تؤكد مهارة الكتابة عند المؤلف) ليصبح مسرحا داخل المسرح عندما يؤدى الأبد دور الداى حسين وابنه دور خادم أثناء حادثة المروحة (مع بعض الإشارات قبلها إلى جهل الابن بالتاريخ سبقتها إشارة إلى جهله بالفرنسية وهى فى الواقع تمثل نقدا لجيل بأكمله وثقافته الهشة). فى العرض الكثير من الانتقالات، والعديد من المحطّات التى تتفرق فى معناها ومبناها، لكنها تجتمع كلها فى فضاء المقبرة. فكرة التخلص من الدفن التقليدى للجثث واعتماد علب أو صناديق صغيرة مرقّمة تحمل بقايا الجثة (حتى لا تفسد الجثث المياه الجوفية مع مرور الوقت كما يقول العرض)، رئيس البلدية الذى يأتى ليرى الصندوق رقم ستين، الذى فيه بقايا زوجته (والأشباح التى يراها فى المقبرة) ثم رئيس الحكومة الذى يأتى للغرض نفسه ويطلب الصندوق نفسه واكتشاف الرجلين أن المرأة كانت زوجة لكليهما وحوار ماتع بينهما، ثم يُسمع هرج ومرج ويتم الإعلان عن مجىء رئيس الجمهورية، الذى بدوره أتى للغرض نفسه وللصندوق نفسه (ينتهى العرض بلحظة دخول الرئيس لكن دون أن نراه). المرأة (حورية) ولدت فى جويلية 1962 وتوفيت فى 2012. قد يكون لهذين التاريخين دلالات وواحدة من العلامات المضيئة فى هذا العرض أنه ينفتح على أكثر من قراءة.
لا يخفى على المتلقى النقد الاجتماعى والسياسى الذى حمله العرض، لكنه نقد معجون بالفكاهة، ضمن الحوار السلس بين الشخصيات، دون فذلكة ولا استعراض ولا خطابية ولا تعليمية. حضور الممثلين القوى واستيعاب الشخصيات والأداء الرصين واستغلال فضاء الخشبة من ناحية الديكور البسيط الذى لم يبالغ المشرف عليه فى استعراض عضلاته الذوقية (وهى عموما سمة جيدة واضحة فى الفرق والجمعيات على عكس عروض المسارح التابعة للدولة) مع النص المكتوب بمهارة صنع مشهدية فى غاية الجودة. وهذا واحد من أدوار المسرح، أن يكون صوت الشعب لكن بفنية، حتى لا تتحول ساعة العرض إلى خطبة دينية ركيكة أو خطاب سياسى ممجوج.
الموسيقى التى كان جزءا منها من الريبارتوار العالمى تم توظيفها بعقلانية وفنية. عدم الإسهال فى استخدام الموسيقى لسبب ولغير سبب من عوامل نجاح العرض، أيّ عرض. تحاول الموسيقى أن ترقّع فجوات وعورات العروض السطحية والركيكة، لكنها فى هذا العرض، ولأنها مختارة بدقة فقد أضافت بجماليتها إلى القيمة الكلية للعرض بلا إفراط.


ياسين سليمانى