حلم الهجرة عند أحمد زحام

حلم الهجرة عند أحمد زحام

العدد 815 صدر بتاريخ 10أبريل2023

باتت الشجرات تودع إحداهن الأخرى، حتى تقلص المجموع منها في شجرتين فقط، ما جعلهما في انتظار مصيرهما الحتمي من الاقتلاع للاستفادة منهما في شيء معين، نافعًا كان أو غير ذلك، وتتأرجح الأحداث ما بين صنع سفينة يهارج بها أبناء الوطن، وحينها تقتلع الشجرتان لصنع هذه السفينة أم يتقرر البقاء والإبقاء على الشجرة في أرضها تحيا حياة طبيعية في بيئتها التي اعتادت عليها ويزيد نسلها، وهنا يبدأ الصراع خارجيًّا وداخليًّا حتى يتم حسم الأمر بعدم هجرة الشجرة، وبقاء أبناء الوطن، خاصة وأنهم ذوو قدرات خاصة يستطيعون بقدراتهم هذه أن يبعثوا الأمر ويحيوا في طيب عيش بوطنهم.
هذه لمحة سريعة عن العمل المسرحي «هجرة شجرة» تأليف الكاتب المسرحي أحمد زحام، وإخراج الفنان محمد فؤاد، وتمثيل فريق «إحنا واحد» من ذوي القدرات الخاصة. العمل تم تقديمه على مسرح قصر ثقافة روض الفرج، ومن المنتظر استمرار العرض على عدة مسارح أخرى.
ربما تأثر الكاتب أحمد زحام بتجربته الشخصية حين قاسى مرارة الهجرة، على الرغم من أنها كانت هجرة داخلية، وعلى غير رغبة من الأسرة، فإنها كانت ضرورة وقتها حين ترك الحوض الأصلي ببورسعيد واتجه إلى المحلة الكبرى، فأراد أن يوثق هذه التجربة ويوظفها في هذا العمل المسرحي، وقد نجح في ذلك ببراعة حين حقق المعادلة الصعبة في الموازنة بين الطموح الجامح لأبناء الوطن والرغبة في رغد العيش والحياة التي بدأت مثالية بالنسبة لهم، خاصة وأنهم من ذوي الهمم ويشعرون بضعفهم الذي يصل أحيانًا إلى حد العجز عن تحقيق أحلامهم المشروعة في حياة كريمة، تجعلهم راضين عن أنفسهم وعن وطنهم. لم يرد الكاتب أحمد زحام أن يقدم عملاً موجهًا فقط لذوي الهمم؛ بل تعدى ذلك بأن قدم هذا العمل من ذوي الهمم أنفسهم لأقرانهم من غير ذوي الهمم، فكانت الرسالة أكثر تركيزًا ومصداقية، خاصة أن من قام بالعمل جميعهم من الأصدقاء ذوي الهمم بإعاقات مختلفة، استطاع المخرج ببراعة أن يوظف النص ويوزع الأدوار طبقًا لنوع كل إعاقة، فكانت هذه السيمفونية المتكاملة في تناعمها وانسجامها بنجاح أثناء العرض، ثم جاء دور الفنان الواعي حمادة شوشة في إثراء العرض بأداء ملهم للفريق أثناء العرض فتحقق النجاح اللائق.
جاءت الكلمات بسيطة والجمل والتراكيب خالية من التعقيد مباشرة معبرة عن عمق الفكرة التي تربط الأطفال بوطنهم وتجعلهم يعدلون عن أفكارهم ووساوس المغرضين المتمثلة في وسوسة الشرير المستفيد الأول من هجرتهم وتركهم لثروات بلادهم.. حتى كادوا ينجرفون في تياره ويحققون مراده، فيحدث الصراع الداخلي وحديث النفس الذي تناقلوه فيما بينهم، مما جعل صراخ الشجرة يصل إليهم ليفيقهم من غفلتهم، حتى إن العدو الشرير المستفيد الأول عجز عن إقناعهم، وأمام إصرارهم على عدم الهجرة اعترف بأنه المستفيد الأول من هجرتهم، وأنه يصدر لهم ما غفلوا عن قيمته من ثروات بلادهم. كون النص موجه للأطفال فهذا ليس سهلاً وكونه للأطفال ذوي الهمم وبهم يتم العرض، فإن ذلك من الصعوبة بمكان، إلا أنه تم بنجاح وتركيز شديدين بأبطال خلف الكواليس، وهم أولياء أمور أبطال العرض الذين آمنوا بمواهب أبنائهم، وبالفكرة والعمل المقدم وأهميته. الشخصيات جاءت متناسبة لنوع كل إعاقة مع حركاتها ومفرداتها المنطوقة والمعبرة. الملابس كانت معبرة وتخدم العرض بشكل مريح للجمهور مع استخدام ديكورات تبدو بسيطة إلا أنها معبرة، والأجمل هو ترجمة العرض إلى لغة الإشارة حتى يستمع من الجمهور من لا يعي إلا هذه الترجمة ممن حُرم السمع أو الكلام.
الحبكة غير معقدة أو مركبة تصل إلى الجمهور المتخصص والعام في سلاسلة. الموسيقى جاءت معبرة مع استخدام أغنيات أثرت العمل، واستطاع الفنان محمد فؤاد بحسه الفني أن يوظف رمزًا من رموز الموسيقى والتلحين وهو الفنان عمار الشريعي بأغنية وطنية له قدمها الفريق في استعراض رائع رابطًا بين كونه صديقًا ومثلاً أعلى لأصحاب الإعاقة البصرية، وكونه رمزًا وطنيًّا محبًّا لوطنه مخلصًا له. النهاية المغلقة جاءت مريحة للمتلقي باعثة الأمل في وجود الخير فينا وفي أبنائنا، باعثة للتفاؤل بما هو أفضل في بلادنا وبسواعد الأبناء مع قليل من إعمال الفكر والجد والاجتهاد.
الكوميديا تم استخدامها بشكل راقٍ غير مبتذل، لطيف غير متكلف. رسائل العمل جاءت بشكل غير مباشر أحيانًا واتسمت بالمباشرة في أحيان أخرى.
يستخلص هذه الرسائل الجمهور فتمس لديه شعورًا بالتعاطف حينًا والسخط حينًا آخر، إلا أنها تحدث لديه تأثيرًا داخليًّا موجهًا بأن ينظر إلى نصف الكأس المليء أكثر من نظرته إلى النصف الفارغ.
سفينة النجاة تحتاج إلى وقت طويل وصبر كثير حتى يتم تصنيعها والاستفادة منهما، في حين أن استثمار الوقت الأقل يأتي بالخير ويعم بالفائدة الأكثر للوطن وأبناء الوطن، التمسك بالجذور والحفاظ على الشجرة كان الهم الشاغل للكاتب حتى يتحقق الانتماء وحب الوطن. استطاع الكاتب المؤلف أحمد زحام والمخرج الفنان محمد فؤاد في تآلف أن يخرجا عملاً جيدًا يرضى عنه الطرفان حين العرض، فوصل ذلك إلى الجمهور فتحققت درجة الرضا والتعاطف البعيد عن الإحساس بالشفقة كون الأبطال من ذوي الهمم، مما أعطاهم الثقة بالنفس والحماس في الأداء في تركيز وإبداع حقيقي ساعد على ذلك مناسبة وقت العرض غير المخل.
إلا أن العمل كان يحتاج إلى دخول عدد أكبر من الأصدقاء غير ذوي الهمم حتى يستشعر المتلقي مدى الانسجام والدمج بين الأصدقاء الأصحاء وغير الأصحاء.
اتسم «هجرة شجرة” بالواقعية والمصداقية في الأداء على عكس ما اعتدنا عليه في مثل ما يقدم للطفل من ذوي الاحتياجات من إثارة الشفقة، وأحيانًا التنمر على شكل أو طريقة الأداء، حافظ العمل على توظيف الإمكانات المتاحة طبقًا لنوع ودرجة الإعاقة في الحركة والأداء والأدوار وتوزيعها، أشار إلى أن هناك معناة حقيقية لكن لم يفرق بنا في تفاصيل هذه المعاناة، هناك قصور لكن يمكن تقويمه، لكن الكاتب هنا لم يقدم لنا حلولاً ملموسة أو مقترحات حلول، ربما جاءت مبرراته بأن يقدم المتلقي حلولاً تناسبه، كلٌ حسب احتياجاته، فكانت هذه معايشة من جانب آخر مع العمل، وتفاعلاً ترك أثرًا غير موجه بوجهة نظر الكاتب بل تُركت مفتوحة.
“هجرة شجرة” سواء كانت الشجرة مصنعة على هيئة سفينة أو مادة خام كأخشاب، جاء العنوان معبرًا عن المضمون بإشارة تلميحية عكست ذكاءً اجتماعيًّا، خاصة أن العمل يناقش قضية تمس الأمن القومي وهي الهجرة غير الشرعية، فابتعد عن كونها شرعية أو غير شرعية، وركز في مضمونها وكونها هجرة فقط، الهجرة لديه في حد ذاتها جاءت غير شرعية لا ينبغي التفكير فيها مهما كانت الضغوط.
في كل الأحوال نحن أمام كاتب ومؤلف مسرحي متمكن من أدواته المعرفية، واعٍ بما يُحاك بالبيئة الداخلية والخارجية لأبناء الوطن، مؤمن بدور الكلمة والفن في إحياء الأمل في النفوس، استطاع توظيف إمكاناته الثقافية مع إنسانيته، فكانت «هجرة شجرة” عملاً وارف الظلال يستظل به أجيال وأجيال في كل زمان ومكان.


رانيا سلامة