«تشارلي» الصعلوك الذي أصبح نجمًا في سماء أمريكا رغما عنها

«تشارلي» الصعلوك الذي أصبح نجمًا في سماء أمريكا رغما عنها

العدد 837 صدر بتاريخ 11سبتمبر2023

من أهم إيجابيات مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي هذا العام الدورة (30) من وجهة نظري، عرض مسرحية «تشارلي» في الافتتاح، وهو ما يعتبر هدية من المهرجان لضيوفه، فهي مسرحية موسيقية استعراضية عن حياة (تشارلي شابلن) الإنسانية أولاً ثم الفنية حيث تتناول ما حققه لصناعة السينما على مستوى العالم، وكفاحه معاناته من أجل ذلك الحلم الذي أصبح حقيقة، حتى أنه منح الأوسكار من أمريكا التي طرد منها.
   المسرحية بطولة: محمد فهيم «صاحب الفكرة» أيضًا، أيمن الشيوي، نور قدري، روان الغاب، داليا الجندي، المطرب هاني مصطفى، ومجموعة من الفنانين والراقصين وأغاني المسرحية من تلحين إيهاب عبد الواحد وتوزيع نادر حمدي، تصميم الملابس ريم العدل، وتصميم الاستعراضات لـ عمرو باتريك، والمسرحية تأليف مدحت العدل، وإخراج أحمد البوهي.
ومما لا شك فيه أن تقديم عمل مسرحي عن حياة تشارلي تشابلن مغامرة كبيرة جدًا، وهو ما أقدم عليه صناع هذه التجربة المحفوفة بالمخاطر، فتشارلي تشابلن لم يكن مجرد ممثل بل فنان شامل قام بالتمثيل والتأليف والإخراج والتأليف الموسيقي بل والإنتاج والتوزيع أيضًا، كما أنه اختار لنفسه «كراكتر» خاص جدًا من الصعب تقليده، على الرغم من أن عدد كبير من الممثلين قد قام بتقليده من أجل الإضحاك، لكن ذلك لم يكن سوى مشهد في عمل سينمائي أو تليفزيوني، أما على المسرح أمام الجمهور بشكل مباشر فهي المرة الأولى التي تحدث في مصر بل ربما في العالم كله، فكان لابد من نص قوي للكاتب الكبير مدحت العدل ومخرج مغامر أحمد البوهي، وفريق عمل محب للتجربة ومغامر أيضًا ومدرب جيدًا. 
لم تقل حياة تشارلي الإنسانية دراميًا عن حياته الفنية، فقد كانت حياته سلسلة من المآسي منذ طفولته حتى بداية صعود نجمه كفنان شامل، فقد استثمر هذه المعاناة في خلق شخصياته الأكثر شهرة وتوظيفًا في أعماله الفنية وهما المتشرد والسكيير فقد كان هو المتشرد، والسكيير والده الذي أنهى إدمان الكحول حياته، كذلك مرض أمه ودخولها مصحة نفسية، ومعاناته مع الفقر، وحتى بعد نجاحه وتحقيقه شهرة واسعة على مستوى العالم وتكوينه ثروة هائلة إلا أنه ظل يعاني من محاربة المخابرات الأمريكية التي اتهمته بأنه شيوعي ثم ماركسي، ونجحت في طرده من الولايات المتحدة على الرغم من ثبوت براءته من هذه التهم، وعلى الرغم من ذلك فقد حصل على العديد من الجوائز والتكريمات لعل أهمها الأوسكار التي منحته إياها أمريكا التي طرد منها ثم عاد إليها مكرمًا بعد عشرين عامًا، كذلك علاقته بوالدته التي لم تنته بوفاتها بل أنها ظلت المحفز له طيلة حياته ومن أهم أسباب نجاحه، وهو ما تم توظيفه ببراعة في المسرحية، وعلاقته بأخيه سيدني وزوجته أونا أونيل. 
كل هذه التفاصيل تناولها العرض بكل وسائل التعبير الفنية من حوار وغناء واستعراضات وآداءً تمثيليًا يحتاج إلى مقال خاص به خاصة آداء البطل محمد فهيم الذي جسد شخصية تشارلي ببراعة فائقة متمثلة في تمكنه من الشخصية والتوحد معها ومرونته، وكان من الذكاء عدم التقليد المفرط فقد تم تقديم شخصية تشارلي الإنسان خارج سياق شخصيته الفنية المعروفة للجميع ود. أيمن الشيوي عملاق التمثيل الذي جسد شخصية إدجار هوفر رئيس مكتب التحقيقات الفيدرالية، والذي لم يكن يمثل شخصية بعينها فحسب بل وظف كل طاقته ليجسد أمريكا بطغيانها وجبروتها ووقوفها بالمرصاد أمام نجاح الآخر «غير الأمريكي»، نور قدري التي جسدت دور الأم بشكل ملائكي فكانت المحفزة طوال الوقت في حياتها وحتى بعد رحيلها، الزوجة المحبة، عماد إسماعيل الذي جسد شخصية سيدني، داليا الجندي التي جسدت شخصية هيدا هوبر الصحفية التي تم تجنيدها لتشويه تشابلن والحرب عليه، كما أن الحركة محسوبة بدقة ومنها على سبيل المثال أن على الرغم من وجود السلطة في الأعلى إلا أنها في عمق الخشبة أي أضعف من تشارلي الواقف دائمًا في منطقة القوة باستثناء أوقات يأسه وضعفه التي قضاها في غرفة الموسيقى.  
أول ما يلفت الانتباه للعرض هو حالة البهجة التي يشيعها على الرغم من مأساوية الأحداث، كذلك توظيف التكنولوجيا دراميًا، فلم تكن لمجرد الإبهار وإثارة الدهشة لدى المتفرج وإن كانت قد حققت ذلك بالفعل أيضَا، فقد تم توظيف المابينج مع ديكور حازم شبل الذي يتسم ببساطته وسهولة تغييره، وقد عبر عن الأماكن التي تدور بها الأحداث حيث الاستديو الذي يتسم بالفخامة والمنزل الفقير الذي عاش فيه والأريكة التي كان ينام عليها، غرفة مدير مكتب التحقيقات الفيدرالي، كما قام بتوظف عدسة الكاميرا لتكون مصدرًا للنور والنار في ذات الوقت والبيت والسجن ومصدر الإلهام حيث تخرج منها الأم دائمًا، ولم يكن الاستعانة بشاشة السينما لسرد بعض الأحداث فحسب وإنما هي أيقونة في ذات الوقت ملازمة لشخصية من أهم الشخصيات السينمائية على مستوى العالم.  
كما تم توظيف المابينج أيضًا في عدد من المشاهد لعل أكثرها وضوحًا وإثارة مشهد تشارلي وهو يلعب بالكرة الأرضية، والسيرك الذي لم يكن مقحمًا ولا لمجرد استعراض القدرات الفنية والإبهار وإنما موظفًا دراميًا من خلال تجسيد تصوير فيلم «السيرك» وهو أحد أهم أفلام تشابلن، كما أن استعراضات عمرو باتريك مبتكرة ومبهرة تتميز بالحيوية والرشاقة وجمال التشكيل والصورة مع إضاءة جون هيوي التي لعبت دورًا كبيرًا في إضفاء حالة البهجة على العرض -بجانب توظيفها دراميًا- كذلك الغناء الذي شارك فيه الجمهور خاصة أغنية «تشارلي»، وقد عبرت الملابس التي صممتها ريم العدل بدقة عن زماكانية الأحداث بالإضافة لبعدها الجمالي المتمثل في البساطة والشياكة، خاصة ملابس الاستعراضات، فضلاً عن سيمترية الألوان في الاستعراضات، كما أن الألوان تلعب دورًا آخر في دلالة الشخصيات حيث ملابس الأم البيضاء والتي تدل على نقاء الشخصية وأهميتها الإنسانية في حياة تشابلن، كذلك ملابس الصحفية التي تنوعت بين الأسود والأحمر دلالة على الشر وقدرتها على إشعال الموقف.
وعلى الرغم من نجاح المسرحية وتميزها إلا أنها أغفلت جانب مهم جدًا في حياة تشارلي تشابلن هو المسرح، فانصب العمل كله على عرض السينما على المسرح، بينما الحقيقة أن المسرح لعب دورًا كبيرًا في حياة تشارلي فقد كان هو الباب الأول الذي دخل منه إلى عالم الفنون، ومنه انطلق وكانت بداياته من خلاله، وهو ما أكده تشارلي في مذكراته التي كتبها بنفسه وتحمل عنوان «قصة حياتي» التي جاءت بها هذه العبارة: (لقد عملت بائع جرائد وعامل مطبعة وصانع ألعاب ونافخ زجاج وساعيًا لدى طبيب، لكن وسط كل هذه المغامرات المهنية لم يغب عن نظري يومًا هدفي النهائي وهو أن أصير ممثلاً هزليًا) وهي الدليل الأكبر على تعلق تشارلي شابلن بالمسرح منذ طفولته، وقد نما هذا الإحساس بسبب أن والدته كانت ممثلة وتصحبه معها إلى المسرح، وفي ذات ليلة انقطع صوتها على المسرح، واستكمل هو الدور الذي كان يحفظه عن ظهر قلب، ومنذ هذه اللحظة بدأت علاقته بالمسرح، فقد لعبت الأم دورًا حاسمًا في حفز اهتمامه بالمسرح وإقناعه بما لديه من موهبة، وفي شحذ تلك الموهبة وإطلاقها كما حصل حين عمدت إلى نسخ مونولوج «هر الآنسة بريسيلا» عبر واجهة مكتبة صغيرة وجاءته به، فكان مدخلاً إلى ذلك النجاح الذي أتاح له الفرصة الأولى -كما يقول في مذكراته-  لتذوق المجد بصورة واعية، وفي سياق آخر من المذاكرات نجد تلك العبارة: (لكن الحدث الأهم الذي شكل منعطفًا في حياة تشارلي، وكرس اتجاهه نحو المسرح كان قبول وكالة بلاكمور  أخيرًا إعطاءه دورًا في مسرحية شارلوك هولمز، بعد أن كان تردد طويلاً على مكتبها بدفورد ستريت من دون جدوى، يقول شابلن: إن ما حصل كان ضربة سعيدة.. ضربة حظ.)، إذن المسرح هو الأساس لدي تشارلي شابلن والذي عمل به أولاً قبل السينما.


نور الهدى عبد المنعم