المسرح بين العرض والتلقي في تجربتي القرائية

المسرح بين العرض والتلقي   في تجربتي القرائية

العدد 871 صدر بتاريخ 6مايو2024

المسرح المغربي بكل تمظهراته المختلفة، وبكل حساسياته المتباينة يبقى فعلا ثقافيا منتميا إلى المصادر والمراجع التي تحركه، ويبقى وثيق الصلة بالعناصر التي تحرك عمليات تجويد كل عرض بما يليق بالتجديد، ويليق بتفعيل الخبرات، ويناسب المهارات الداعمة للمنطلقات والغايات التي تتحرك في تاريخ هذا المسرح بالمغاير والمختلف. 
 هذا المسرح بحركيته الظاهرة، وبحيوته العميقة المتجلية في مُغايره ومُختلفه، يبقى فعلا ثقافيا يجوب آفاق جديدة يُكوّن في سيره المتنامي أزمنة الفرجة المسرحية التي تثير أسئلة نقدية حول شكلها، وحول ما تنتجه بنيات لها خصوصياتها التي تراهن على التميز، وتطمح إلى تجاوز الكائن بحثا عن الممكن بإبداع يتجدد بإكراهات السياقات، ويتحول بضرورة الظرفيات، ويتغير بتأثير المنطلقات التي تتوحد في السير بهذا المسرح نحو الإفصاح عن دلالات تنطق بها رموز وغموض، ولبس، ووضوح رؤية الفرجة المسرحية المغربية. 
 في مدارات هذه الحركية، وفي صيرورة هذا التحول الذي يعرفه المسرح المغربي، يكون اشتغال فعل التلقي، وتكون كل المقاربات النقدية حول مسيراته نوعا من الإفصاح عن قراءات لها مرجعياتها، ولها أجهزتها المفاهيمية المكونة لمنظومتها في القراءة وهي تعمل على تتبع آليات اشتغال هذا المسرح في كتابة النص المسرحي، مع مؤلفين خبروا الكتابة النصية التجريبية لتُكوّن مشروع المتن الذي سيتحول إلى عرض مسرحي، أو كتابة نص العرض الذي صار مركز اشتغال المسرح المغربي وصار مدار الفعل في تكوين تاريخه، في الآن نفسه صار يمثل بمكوناته الفنية، وبعلاماته عاملا قويا على تغيير مستويات تقبله.       
 في هذه الحركية والحيوية تبرز تجارب في الكتابة النصية التي هي نص الملف، و تظهر في الإخراج المسرحي بتجارب تؤكد حضورها أدبيا وفنيا فتصبح مركزا ينتج تجاربه، وتصير مدارا يفعّل مدارات التجريب المسرحي، ويفعل حضوره بالبحث عن الأدوات التي تُسعف تجربته على اكتساب قوة البقاء، والاستمرار، والتغير، دون التفريط في ثوابت ومكونات العملية المسرحية التي تدخل في عملية ترسيخ التجربة في ذاكرة التلقي المسرحي فتنطرح العديد من الأسئلة حول فعل التلقي سواء تعلق الأمر باللغة الدرامية، أو تعلق الأمر بكيفية توظيف الثقافة المكتسبة من الغرب، أو من التفاعل مع فعل مشاهدة العروض المسرحية العربية أو الغربية.
 من خلال الاشتغال على موضوع المسرح العربي بعامة، والمغربي بخاصة، يكون فعل الإصرار على اكتساب المعرفة مشروطا عندي بالوعي المنهجي أولا، ثانيا امتلاك المعرفة المتواترة بكل ما يتجدد في عالم المسرح من نظريات حول النقد، والإخراج وفنون العرض، ثالثا القدرة على التحرر من انغلاقية المنهج وصرامته العمياء، والمعرفة المغلقة التي لا أريدها أن تكون فوق فعل التلقي المبدع وهي تسعى وتتلمس محاولة ضبط فعل التلقي بما هو جاهز، ومُعد، وحاضر.    
 المسرح بعد تلقي أي تجربة من تجاربه إلاّ ويكون بكل المواصفات نصا قد تأهب قبل تقديمه كي يقول قوله بما كوّنه من عناصر، ويعرض صوره، ويقدم رموزه بعد أن تكون قد تناسجت كلها مع كل مكونات العرض في جامع الفرجة لأنها تنتمي قبل إدماجها كلها في زمن التلقي كاملة لأن هناك الذين يختفون بعد إنجاز العرض، أولهم المؤلف، والمخرج، ثم السينوغراف، ومصمم الرقصات، وواضع النص الموسيقي، ومصمم الأزياء، وكل من له علاقة بالوسائط الفنية والتقنية ذات الفعالية الخاصة في القبض على جمالية العرض وشعريته اللافتة.
الكل يتوارى زمن العرض ليبقى تجلي هذا العرض محكوما بالحضور الفيزيقي للممثلين منفذي برنامج العرض المرئي، والمنطوق باللغة أو بالحركة وفق المنهجية الإخراجية التي صنعت الفرجة، وهيأتها كي تكون عالما سحريا مدهشا يحفز فعل التلقي على الانفصال أو الاندماج مع جماليات ما هو جميل في العرض، وما هو مثير، وما هو جريء وكثيرة هي العروض المسرحية المغربية والعربية التي حفزتني على مباشرة قراءة تجربتها بعد أن أقنعتني جمالياتها الآسرة بالخوض في تحريك فعل التلقي كي أنتج الخطاب العارف بكل المرجعيات التي أسست دهشة العرض.
فعل التلقي في تجربة قراءاتي المتعددة للتجارب المسرحية العربية والمغربية تختلف من تجربة إلى تجربة، و تختلف من سياق عرض مسرحي إلى مساق فرجة مسرحية أخرى، وهذا الاختلاف في فعل التلقي يكون نتيجة حتمية لاختلاف التجارب في مستويات تكوينها وفي مستويات إنتاجاتها التي تكون هي مساعدتي على فهم اشتغالها، وتكون هي مُعينتي على الاقتراب من غموضها، أو وضوحها، لأنها بعد تلقيها بعد أن تسلم لي مفاتيح قراءتها تضعني أمام كل الإضاءات الممكنة التي ترسم لي طريق الاقتراب من حيويتها فيصير المنهج مع هذه المفاتيح إجراء ذا فعالية يساعد على توليد معنى العرض من معانيه الظاهرة والمضمرة، مفاتيح تمنح لفعل التلقي إمكانية تحويل التلقي المسرحي إلى إبداع على إبداع يتوحدان كلاهما في الحوار بين نص العرض وبين نص القراءة في فعل التلقي وصولا إلى معنى العرض.
عندما أستحضر كل أزمنة تلقي التجارب المسرحية في تجاربي النقدية بكل ثرائها الدلالي، وبكل غناها الرمزي، وبكل إيحائها المعلن، وبكل إشاراتها وعلامتها المخفية، أجد أن ثقافة التلقي تبقي عندي سليلة المعرفة التي لا يمكن إنكار دورها في تسهيل عمليات التلقي التي تختلف من تجربة إلى تجربة، ومن فرجة إلى أخرى، ويكفي الإقرار هنا بأن المناهج القديمة، ومناهج النقد الجديد كانت بوصلتي التي تقودني إلى تأثيث كل خطابات التلقي بما يليق بخصوصيات كل نص مسرحي، أو عرض مسرحي وهو ما يمكن تبيانه في المصنفات التي نشرتها والحاملة لتاريخ وخاصيات تلقيها حسب المنهج أو المناهج التي تبقى مساعدة لي على توليد خطاب التلقي.
تعلمت من ممارسة النقد، وتعلمت من الكتابة عن التجارب المسرحية أن فعل التلقي معرفة كوّنتها عندي أسناد عديدة أهمها السند المعرفي الخاص بالفلسفة ونظريات الدراما والمسرح من أرسطو إلى الآن، وهو ما أعتبره الفاعل الحقيقي في إكسابي كل معرفة دقيقة بالمدارس والمذاهب الأدبية الكبرى في العالم، ثم نظريات النقد المسرحي ونظريات الإخراج بكل ما يتوفر عليه من مفاهيم ومصطلحات، ومنظومات تشكل النظرية المتولدة من عمق فلسفي، وتجريبي، وجدل بين المذاهب الأدبية والفنية، أضفت لها نظرية النقد الجديد، ونظرية التلقي التي بدأت تحتفي بآليات أخرى تقوم على ضبط التفاعل القائم بين القارئ الذي يقوم بعملية القراءة والنص، أي أن (النص والقارئ والتفاعل بينهما) هو الذي يؤدي إلى إنتاج المعنى.
كلما عشت أزمنة تلقي المسرح ومشاهدة تجاربه إلا ويكون هذا الفعل حريسا على أن يكون معرفة تفهم، وأن يكون معرفة تعرف كيف تقرأ، وتعرف كيف تؤول وهي تفكك بنيات مسدودة على غموضها يمكن أن تساعد على الفهم بعد الغوص في أعماقها الدلالية كي أصل إلى إدراك ما تُضمره البنيات العميقة من مواقف ورؤية للعالم.
هذا التعلم المتواتر في كسب المعرفة كسند للتعامل مع النتاجات المسرحية هو ما وزع عندي فعل التلقي بين منحيين إثنين قد يتناقضان ـ أحيانا ـ وقد يكونان وحدة تتوحد في ممارسة تلقي المسرح، وأقصد هنا المنحى الذي يحتفي بالسياقات التي تدخل في تكوين الإنتاج المسرحي، فيكون العامل الاجتماعي، والتاريخي والنفسي والسياسي محركا لفعل التلقي وغالبا ما كان الوقوف على مضمون الفرجات وقراءة النصوص المسرحية هو الأهم دون الانتباه إلى ما صار عندي مع المنحى الثاني من أولويات فعل ومهام التلقي وأقصد العودة إلى المكونات التي تدخل في التكوين النصي من داخل النص، وهو ما أعتبره عودة مقبولة إجرائيا في القراءة لأنها تعطي الأهمية إلى شعريات تركيب واشتغال النص داخليا لأن حياته في داخله، وأن من يدرك جمالية هذا التركيب فهذا يعني القبض على كل ما هو بناء داخلي الذي سيساعد فعل التلقي كي يشارك في تبيان شعرية هذا التركيب بعد التفاعل مع النص.
من قراءة مضامين النصوص المسرحية بحثا عن قضية أو قضايا التزم بها المؤلف للتعبير دراميا عنها غالبا ما يكون الالتزام عنده التزاما سياسيا يخص وضعية سياسية يقوم بتسييس معطياتها وهو ما شاع عند من كتب عن تاريخ المقاومة في المغرب، أو شاع عند من انبرى لكتابة نصوص غايتها النقد السياسي والاجتماعي، ومن الكتب التي تدخل في هذا السياق :
«من قضايا المسرح المغربي» (دراسات نقدية) مطبعة صوت كناس. 1979
«المقاومة في المسرح المغربي» دار النشر المغربية الدار البيضاء. 1985
«كتابة التكريس والتغيير في المسرح المغربي» أفريقيا الشرق. 1985
«أسئلة المسرح العربي» دار الثقافة‎. الدار البيضاء. 1987.
«المسرح المغربي في مفترق القراءة». إصدارات أمنية للإبداع والتواصل الفني والأدبي. السلسة المسرحية. غشت 2002 الدار البيضاء.
معنى الرؤية في المسرح العربي. دار الحرف للنشر والتوزيع. القنيطرة. الطبعة الأولى 2009. 
إن انفتاح هذا التلقي على تجارب مسرحية أخرى جعلت المصطلح النقدي يغتني في التحليل، وجعلت كل متن التلقي موسوما بالقراءة التي تقارب الموضوع دون الادعاء بأنها تشتغل بالمنهج كذا أو المنهج كذا، ومن بين الكتب التي كان فيها فعل التلقي متغيرا بالأدوات الإجرائية، والمفاهيم اعتمادي على البنيوية التكوينية للجمع بين السياق الخارجي والمكونات الداخلية للنصوص المسرحية التي درستها، ومن هذه الكتاب:
«الكتابة المسرحية في الإمارات ـ الواقع في مرآة الذات». سلسلة دراسات ـ الهيئة العربية للمسرح ـ الأمانة العامة ـ الشارقة ـ دولة الإمارات العربية المتحدةـ الطبعة الأولى 1434 ه 2013 م 
«المسرح العراقي الرؤية التراجيدية في وطن متغير» ـ دار ومكتبة عدنان ـ بغداد ـ شارع المتنبي ـ بناية المكتب البغدادية. الطبعة الأولى 2013.
«مقامات القدس في المسرح العربي: الدلالات التاريخية والواقعية.» طبعت بدعم من وزارة الثقافة والاتصال ـ قطاع الثقافةـ مطبعة دار المناهل ـ الطبعة الثانية مارس 2019
المسرح الخليجي كلام الفرجة بعلامات الهوية. دراسات نقدية دار الخليج للنشر والتوزيع. 01/01/ 2020 عمان ـ الأردن.
الوثيقة وصورة المسرح المصري. من فؤاد دوارة إلى عمرو دوارة. 2020 
كتابات الدكتور أحمد سخسوخ أبعاد مسرحية بمعادلة الاختلاف 183 ـ الهيئة العامة لقصور الثقافة ـ مصر 2020 
 أعتبر أن فعل تلقي المسرح المغربي والعربي كان عندي فعلا حيويا بثقافته المنفتحة على المناهج، والعارفة بكيفية تطبيقها بمرونة وليانة على كل نص من النصوص المسرحية، دون إفراغ هذه النصوص من جمالياتها، وشعرياتها وهذا ما كان يضعني دائما أمام اللغة النقدية وكأنها قصيدة شعرية بمتعتها تتوخى أن تكون بذاتية الكاتب محركة للنص المقروء، وغالبا ما كنت أتبنى البناء اللغوي ببلاغته الآسرة.
 وأعود إلى المكونات الفنية التي كونت التجربة كما في المصنفات التالية:
«الطيب الصديقي المخرج المتعدد في صناعة الفرجة» مكناس برانت شوب. الطبعة الأولى 2016
«المسرح(أحوال) جماعية في مونودراما زيناتي قدسية». شركة دار الأكاديميون للنشر والتوزيع. المملكة الأردنية الهاشمية. الطبعة الأولى 2018.
«رهانات المسرح المصري: المعنى والسؤال» ـ دار الوفاء للطباعة والنشر ـ الإسكندرية الطبعة الأولى 21 يوليو 2019.
 وبالرجوع إلى مكونات خطاب التلقي سنجد العديد من المصطلحات والمفاهيم قد أخذت على عاتقها توسيع دائرة الفهم اعتمادا على ما كان يأخذ بالكتابة أن تتجلى، وتتوضح، وتنجح في التفاعل مع النص المقروء وهو السؤال الذي ظل مدخلا لكل فعل تلقي في ممارستي النقدية، وظل أنيسي في البحث عن الجواب أو الأجوبة التي تستجيب لأفق التوقع في كل مقاربة نقدية، وبالسؤال كنت أنا الآخر الحاضر في سياق التلقي حضورا لافتتا باعتباري شريكا في مستويات التلقي بالتفاعل الواعي لأبقى في كل عمليات هذا التلقي مبدعا لا أكرر ولا أعيد ما قاله النص المسرحي بل أعيد إبداعه.....وأتجنب أن أكون مستهلكا حتى أقترب أكثر من الاندماج الذي يضمن لي صفة المتلقي الفعلي ، أو أي صفة أخرى تؤكد على حيوية تفاعلي مع العرض وأنا أقوم اعتمادا على ثقافتي، ومتخيلي وخبراتي، و تجاربي المتراكمة بملء الفجوات وأنا أتلمس البحث عن تحقيق قراءة منتجة فاهمة للنص بمعاني النص وهذا ما خضت فيه في زمن القراءات النقدية الجديدة التي تنضاف إلى كل ما أنجزته سابقا من دراسات، وبحوث، ومصنفات.    


عبد الرحمن بن زيدان