المكان المسرحي الموجه (1)

المكان المسرحي   الموجه (1)

العدد 870 صدر بتاريخ 29أبريل2024

ما يهم توجيه المشهد ليس جسمي كما هو في الواقع، باعتباره شيئا في فضاء موضوعي، ولكن باعتبـاره نسقا من أفعال ممكنة،جسم افتراضي بمكانه الظاهري المميز بمهمته وموقفه. فجسمي موجود حيثما يوجد شيء أفعله. ( موريس ميرلوبونتي ) 
 يتم تخطيط المباني وتصميمها في مساحة مجردة ومطلقة، تمتد بشكل متجانس في ثلاثة أبعاد. انها المساحة في الهندسة المنسوبة إلى اقليدس، والاحداثيات المكانية والخطط المعمارية. ففي عملية تصميم المبنى، يفترض المعماري منظور الرؤية الشاملة التي تسمح للجميع أن يشاهد المساحة المتخلية من أعلى أو أسفل، مقسمة الى شرائح أو مفتوحة بشكل مائل. ورغم ذلك، بمجرد اتمام البناء لن يكون هذا الشكل المجرد للرؤية متاحا للجسد المدرك على الأرض. وبدلا من ذلك، تصبح المباني مساحة معاشة. والمساحة المعاشة في المقابل، ليست متاحة بأي وسيلة غير التجربة المباشرة – الوجود فيها، أو كما يريد لها ميرلوبونتي، وجود المساحة (1). 
 ويصف يوهاني بالاسما، وهو مهندس معماري كتب عن الحاجة الهندسة المعمارية لتطوير واستعادة منهج البناء الذي يأخذ في اعتباره الجسم بشكل أكبر مما هو عليه الآن، الفراغ المعاش بأنه « مزيج من الفراغ الخارجي والفراغ الذهني الداخلي، والفعلية والاسقاط العقلي. ففي تجربة الفراغ المعاش، تندمج الذاكرة الحلم، والخوف والرغبة، والقيمة والمعنى، مع التصور الفعلي (2). وبالتالي يمكن أن أكون متصورا بشكل كلي من منظور شخص آخر، أو وجهة نظره، من مكان معين في لحظة معينة في موقف معين وحالة ذهنية. وسوف يعنى كل من الفصلين الحالي والتالي بتحديد الخصائص الأساسية للفضاء المعاش، وتحديدا الفضاء الموجه والمجسد. 
 ويمكن استخدام مصطلح « التوجه Orientation «بعدة طرق. ففي معناه المعماري الأضيق، فانه يصف كيف توضع المباني في بيئاتها الأوسع، أي كيفية تلاؤمها في بيئاتها المدنية أو الجغرافية. ومن خلال توجهها تدخل في الاتصال مع العالم من حولها، كما في مثال الكنائس التي تواجه الشرق بشكل تقليدي : ينشئ اتجاها نحو الشرق علاقة مع كل من الجغرافيا الدينية العالمية، ومن خلال شروق الشمس المنظر المسيحي للكون. والأكثر ملائمة لهذه الدراسة هو المعنى الأوسع للتوجه، الذي يتضمنه ولكنه ليس مقيدا بفكرة التوجيه، أو التحيز. والقول ان الفراغ موجه يعني أنه مرئي من منظور. والعلاقة بين المنظور والتوجيه هي بالتالي علاقة انعكاسية – فرؤيتي للفراغ هي منظوري،بينما ما يفعله الفراغ  نتيجة لهذا المنظور هو توجهه. 
 ولتقديم مثال، يمكنني أن أقول ان الفراغ كما يمارس في الحياة اليومية له أعلى وأسفل، وأن ذلك الأعلى والأسفل هما أكثر من مجرد موقعين ثابتين في الفراغ. انهما يظهران باعتبارهما سمتين للفراغ نفسه. بينما الفراغ المطلق لا يعرف الأعلى والأسفل، والأمام والخلف واليمين والسار والقريب والبعيد، ويتم تنظيم الفراغ المعاش على طول نظام المحاور الرأسية والأفقية التي تعكس محاور جسم الانسان (3).  وهذا بالطبع لأن المنظور الانساني للفراغ مشروط حتما بالجسم البشري وآفاقه الإدراكية. فنحن مخلوقت رأسية، وعيوننا موجهة إلى الأمام. وعندما أقول أني أرى اتساع في الفراغ يمتد أمامي، فانني لا أصف الفراغ نفسه، بل توجهه بالنسبة لمنظوري الأمامي. 
 ومن المثير للاهتمام أن الأمر استغرق من المنظرين وقتا طويلا لصياغة مفهوم الفراغ المعاش للوصول الى  التجريد الذي هو «الفراغ المطلق(4). وهذا مستغرب، لأن الفراغ المعاش بمصطلحات تجريبية هو الحقيقة الأولية بشكل طبيعي. ويجدر تتبع ظروف انتعاش هذا الفراغ التجريبي المعاش. 

نهاية الفراغ المطلق 
 شهد القرن العشرين تغيرا في التفكير في الفراغ الذي تردد صداه عبر كل مجالات السعي العلمية والفنية. فقد نشأ مع ظهور نظرية ألبرت أينشتاين «النسبية الخاصة». وقد افترض هذا، من بين أمور أخرى، أن الفضاء الكوني والمادة ليسا كيانين منفصلين ولكنهما كثافتان مختلفتان لنفس الزمان والمكان: فالأشياء المادية ليست في الفراغ، ولكن هذه الأشياء ممتدة مكانيا. وبهذه الطريقة يفقد مفهوم « المساحة الخالية» معناه (5). وهذه الفكرة ( المعبر عنها بشكل مبسط)، التي تقول ان الأجسام هي حسابات للطاقة (6) – مجموعات من الجزيئات المتماسكة معا من خلال طاقتها الكامنة ولا تختلف عن الجزيئات التي تصنع الفراغ – مكنت المنظرين في مجالات أخرى أن يتأملوا العلاقات بين الفراغ والمزمن والمادة. وبالتحديد، تحدت صورة الفراغ كحاوية فارغة، وأرسته كفراغ تتموضع فيه الأجسام وتتدفق المادة من حوله. وبداية من هذه النقطة، أصبحت فكرة المجال راسخة بشكل جدي ليس فقط في الفيزياء، ولكن أيضا كمفهوم قابل للتحول. وهذا المجال هو مجال القوى، الذي يمكن تصويره على أحسن وجه عندما نراه كمجال مغناطيسي حيث يتم الضغط على هذه الأسهم العدنية الصغيرة لمحاذاة نفسها على طول محور معين، اعتمادا على موقع أو توجه المغناطيس. 
     وقد اتبعت مجالات أخرى مثال الفيزياء في اعلان نهاية الفراغ الخالي المطلق. فمثلا، اعاد ارنست كاسيرر صياغة مفهوم الفراغ باعتباره مبدأ منظم فضلا عن أنه خواء، ووسعه لكي يضم الفراغات الخيالية أو المنهجية (7). وفي علم الاجتماع افترض جورج سيميل أن مفهوم الفراغ مشروط اجتماعيا، أي تحدده الأنساق العقائدية للمجتمع والممارسات الاجتماعية (8). وفي العمارة كان من المعتقد أن الفراغ شيء مادي يمكن تشكيله أو قولبته،  ومزج فن التكعيبيين بين عدة جوانب للفراغ في اللوحة في نفس الوقت. وقد وجد الرسام ليزتسكي كلمات قوية لمعنى التحرر المصاحب لاعادة تقويم الفراغ ووظيفته في الفن والحياة اليومية العادية : «نرفض الفراغ ككفن مرسوم لأجسامنا الحية « (9). وقد تأثر المسرح أيضا بهذا المعنى السائد للثورة المكانية. ويمكننا أن نرى حركات اصلاح الشكل المعماري المهيمن على خشبة المسرح في ضوء ذلك ( من خلال أبيا و مايرهولد من بين آخرين الذين تطرقت اليهم في الفصل السابق ) (10). 
 والأكثر صلة بهدفنا هنا، رغم ذلك، هي الآثار التي نتجت عن رفض المساحة الخالية وادخال مفهوم المجال في علم النفس والفينومينولوجيا (11). فقد كانت فكرة الفراغ  باعتباره المجال الذي مكّن علماء النفس من تطوير فكرة الفراغ ليس باعتباره الفراغ الذي يتصرف فيه الانسان ولكن باعتباره الشيء الذي يرتبط به الفرد بشكل حميمي، ويتشابك معه ويعتمد عليه.  ومفهوم المجال هو أحد الأدوات الواعدة المتاحة للتعامل مع التجربة المكانية المعاشة، ولاسيما، والتوجه داخل هذا الفراغ. ولهذا السبب، سوف أقدم فيما يلي، المنظر الرئيسي لنظرية المجال النفسي : كورت ليفين (1890-1947). وأبدأ بنص له، يقدم في رأي وصفا مؤثرا وناجحا للفراغ المعاش في موقف خاص ومتطرف جدا، وهو تجربة جندي في الحرب العالمية الأولى. 
كورت ليفين واتجاهية المشهد 
 كتب نص «مشهد الحرب» (12) (1917) في مستشفى ميداني الكاتب المسرحي كيرت ليفين الذي كان يبلغ من العمر 27 سنة، حيث كان يتعافى من واجب جولة على الجبهة في الحرب العالمية الأولى. ويصف النص الحقيقة الادراكية للمشهد في الحرب كما جربها جندي. وما يجعل هذا النص مثيرا في سياق مشروعي في التقاط التجربة المباشرة للفراغ، ولاسيما الاتجاه داخل الفراغ، هو أنه يفهم الفراغ ليس باعتباره  مجالا جامدا أو ثابتا، بل مجال للقوى، في حالة تدفق دائم ومحدد بواسطة موقف معين للوجود في الحرب. 
 ويبدأ باقرار أن ما يوشك أن يصفه ى يجب اعتباره تصورا خياليا أو متخيلا للمشهد، بل باعتباره حقيقي في اطار الادراك : « في حين أن الخصائص الفينومينولوجية للتكوين لا تتغير بشكل كبير من خلال وضعها كحقيقة فينومينولوجية أو غير واقعية، الا أنه تجدر الاشارة الى أنني سأمنح تلك التكوينات الاعتبارات التي واجهتها في خشبة مسرح ما باعتبارها تكوينات حقيقية للمشاهد. وما يعنيه هذا بالنسبة الى المجال هو أن توجه واحد لهذا المجال ( من خلال موقف معين) هو حقيقي مثل توجه آخر للمجال من خلال موقف مختلف. ولا توجد حالة واحد يمكن رؤيتها باعتبارها حالة المجال الطبيعية أو حالة الراحة. والموقفان اللذان يخلقان توجهات مضادة للمشهد في نص ليفين هما حالة الحرب، وموقف السلام ( بالاضافة الى عدة حالات انتقالية تتضمن مثلا موقف القتال شبه السلمي الذي ينتقل الى منطقة أخرى ). 
     في زمن السلم، يتميز اتجاه الجزء المفتوح من الريف بوحدته ودائريته : « المشهد دائري بلا أمام ولا خلف «(15). ورغم ذلك، تختفي هذه الدائرية، في الحرب نظرا لانقسام المشهد الى مناطق منفصلة. ويكتب ليفين عن تجربة الاقتراب من الجبهة : « ومع ذلك اذا اقترب أحد من المنطقة الأمامية، فان التوسع الى ما لا نهاية لم يعد يطبق بلا قيد أو شرط. ويبدو أن المنطقة تصل الى نهايتها في مكان ما في اتجاه الجبهة، فالمشهد محدود(16). يتحرك الجندي تدريجيا تجاه هذه النهاية المفاجئة للمشهد، على سبيل المثال عند العودة للقتال بعد فترة من ترك الجبهة، يختبر المشهد الذي يمشي فيه كأنه موجه: 
يبدو أن المشهد موجها ؛ له أمام وخلف، وأمام وخلف لا يرتبطان  بذلك السير، ولكنهما ينتميان الى المنطقـة  نفسها.  وهذه ليست حالة من الوعي بالخطر المتزايـد  عدم امكانية التقدم في النهاية الى الأمام ، ولكنهـا من تغير المشهد نفسه. « ومع التقدم الى الأمام» يبدو أن المنطقة يليها العدم (17) . 
 ثم يستمر ليفين في وصف مختلف سمات هذا المشهد المحدد والموجه، مثل نقاط خطورته ومناطقه، والمسارات التي تمر خلاله، والطريقة التي تؤثر بها هذه المناطق والاتجاهات في البنيات والأشياء التي توجد داخلها. يحول موقف الحرب هذه البنيات الى صراع التكوينات والموضوعات في أشياء ذات صراع، والتي تختلف بشكل انطولوجي عن نفس الأشياء في زمن السلم : « الفرق بين أشياء القتال والأشياء المطابقة لها في زمن السلم عميق بما يكفي للتأثير بشكل حاسم في سلوكنا تجاهها « (18). وربما كان المبنى المتهدم مثال على ذلك، والذي في موقف القتال يتوقف عن كونه منزل ويصبح بدلا من ذلك مكان لغطاء الجندي. وعندما يتوقف القتال فقط أو ينتقل هل يعود مكان تغطية الجندي ( وكان يختبر من قبل في اطار درجات الملائمة كمكان تغطية ) الى كونه منزلا متهدما، مع كل ما يصاحبه من سوء. ويطبق نفس الشيء على فراغات وعناصر المشهد نفسه. فمثلا يصف ليفين كيف،  بمجرد الفوز بموقع ما، تصبح المنطقة التي يشغلها الموقع القتالي سابقا فجأة جزءا من المشهد مرة أخرى : 
 عندما يتم تفكيك أحد العناصر في الحرب المتنقلة ، لا يتم نقل حدود منطقة الخطر والغاء  شخصيتها فحسب،  بـل  بالأحرى ؛ نلاحظ بدهشة أنه حيث  كان هناك موقع للتــو, فلم يعد هناك سوى الجانب الريفي (...)  دون أن نختبــر أي تغيير فعلي، وفجأة يتم شغل مكان الأشياء القتاليـة بحقل أو مرج أو ما شـابه  والتي تظهـر الآن ارتباطــات تشبه المناظر الطبيعية مع الحقول والغابات المحيطة. 
الأشياء أو الهياكل المتبقية من مل هذا الموقع القتالي المهجور، والتي تُرى فجأة خارج مجال توجيهها الطبيعي، ويبدو أنها لا معنى لها في المنظر الطبيعي. وليس لها علاقة ذات مغزى بالمشهد كما موجه في زمن السلم. 
 هناك عدة شروط ومفاهيم في نص نص ليفين الذي يطمح أن يكون أداة قوية للتحليل في بيئة الفراغ المسرحي، مثل اسناد قوة الاتجاه الى الأشياء أو الهياكل. ورغم ذلك، قبل تطبيق الأفكار من النص الى عمارة المسرح، أريد أن اسستكشف وصف ليفين لساحة المعركة ليس فقط في سياق الحرب، ولكن أيضا في السياق الأقل تطرفا لكتاباته النفسية التالية. فنص مشهد الحرب ليس ظاهرة منفردة – انه كامن في مدرسة فكرية، وسوف أعود الى هذه المدرسة الفكرية وأهم مؤيديها. 
............................................................................
 •  هذه المقالة هي الفصل الثاني من كتاب « عمارة المسرح كمساحة متجسدة « 
تأليف ليزا ماري بوللر . 


ترجمة أحمد عبد الفتاح