جهود أحمد عبد الحليم في المعهد العالي للفنون المسرحية بالكويت (1)

جهود أحمد عبد الحليم في المعهد العالي للفنون المسرحية بالكويت (1)

العدد 626 صدر بتاريخ 26أغسطس2019

هذا الموضوع، هو في الأصل بحث بعنوان «أحمد عبد الحليم ورؤيته الإخراجية في المعهد العالي للفنون المسرحية بالكويت»، كُلفت بكتابته من قبل إدارة المعهد العالي للفنون المسرحية بالكويت، للاشتراك به في تأبين المعهد للفنان أحمد عبد الحليم، ضمن فعاليات المهرجان الأكاديمي الرابع، الذي عقد في الكويت في الفترة من 27 مارس إلى السادس من أبريل عام 2014. وهذا البحث نشره المعهد في كُتيب صغير، تم توزيعه على ضيوف المهرجان، ولم يخرج خارج الكويت، ولم يوزع خارج الكويت منذ عام 2014. لذلك أردت إعادة نشره في حلقات بجريدة مسرحنا، حتى ينتشر بين القراء، وتظل جهود المرحوم أحمد عبد الحليم حيّة بيننا.
تمهيد
المخرج القدير أحمد عبد الحليم عامر (1931 – 2013)، فارق الحياة في أكتوبر 2013 عن عمر يناهز الثانية والثمانين! حياته الفنية في مجال الإخراج المسرحي، تنقسم إلى قسمين: الأول، في مصر من عام 1967 إلى 1974، ومن عام 1996 إلى 2013.. أي نحو أربع وعشرين سنة، أخرج فيها ثلاث عشرة مسرحية، ومسرحيتين في دولة الإمارات. والقسم الآخر عاشه في الكويت من عام 1974 إلى 1996.. أي نحو اثنتين وعشرين سنة، أخرج فيها اثنتى عشرة مسرحية للفرق الكويتية، وإحدى وعشرين مسرحية متكاملة في صورة مشاريع لطلاب المعهد العالي للفنون المسرحية! أي أن أحمد عبد الحليم أخرج (خمسة وعشرين مسرحية) خارج الكويت في أربعة وعشرين سنة، وأخرج داخل الكويت (ثلاث وثلاثين مسرحية) في اثنتين وعشرين سنة!!
ومنذ وفاة أحمد عبد الحليم، والكتابات عنه تتوالى فيما قدمه من أعمال داخل مصر، متجنبة الحديث عن أعماله المسرحية في الكويت، والتي تفوق في عددها ما قدمه في مصر، وتتعادل معها في الفترة الزمنية تقريبًا! وأستطيع أن أقول: إن أحمد عبد الحليم أعطى الكويت أروع فترات حياته الفنية، وهي فترة النضوج والنشاط الإبداعي! فقد جاء إلى الكويت وهو في عمر الثالثة والأربعين، وتركها وهو في عمر الخامسة والستين!!
وبناءً على ذلك حددت مجال بحثي في الحديث عن نشاط أحمد عبد الحليم؛ بوصفه مخرجًا مسرحيًا في الكويت، وهو نشاط يتوزع في مجالات ثلاثة: الأول، خارج عمله بالمعهد العالي للفنون المسرحية، من خلال إخراجه مجموعة مسرحيات لبعض الفرق الأهلية والخاصة، بلغت ست مسرحيات، أغلبها لفرقة المسرح الشعبي. والثاني، خارج المعهد أيضًا، وهو إخراجه لمجموعة من مسرحيات الطفل، وبلغت ست مسرحيات، أغلبها من تأليف السيد حافظ. والثالث والأخير، إخراجه إحدى وعشرين مسرحية لطلاب المعهد العالي للفنون المسرحية! وهذه المجالات الثلاثة لا يجوز الكتابة عنها مجتمعة؛ إلا من خلال عمل توثيقي موسع! وهو أمر لا يتناسب مع خطاب تكليفي بكتابة بحث خاص للمهرجان الأكاديمي الرابع!
لذلك عقدت العزم على اختيار المجال الثالث، وهو قيام أحمد عبد الحليم بالإشراف على مشاريع طلاب المعهد العالي للفنون المسرحية! مع الإشارة التوثيقية إلى نشاطه في الإخراج المسرحي خارج المعهد، حسب السياق التاريخي للبحث، دون الاعتماد على هذا النشاط في النقد أو التحليل! لأن فكرة بحثي، تتمثل في: إن أغلب المسرحيات التي أخرجها أحمد عبد الحليم للفرق الأهلية والخاصة في الكويت، كانت مفروضه عليه! وبمعنى آخر لم يقم هو باختيارها!! أما مشاريع التخرج فهو الوحيد الذي يقوم باختيارها – وفي حالات نادرة بالتوافق مع الطلاب - بوصفه أستاذ المادة والمشرف على المشروع! فلو كتبت بحثًا، تتبعت فيه اختياراته لمسرحيات هذه المشاريع – البالغة إحدى وعشرين مسرحية - طوال اثنتين وعشرين سنة؛ فمن المؤكد إنني سأخرج بنتائج جديدة غير معروفة! من الممكن الاعتماد عليها في توصيات نافعة في مجال البحث العلمي، وفي تحقيق رسالة قسم التمثيل والإخراج وفقًا لرؤية المعهد العالي للفنون المسرحية في الكويت، ووفقًا لمتطلبات الجودة!
تشكيل الرؤية الإخراجية في مصر
الحديث عن الرؤية الإخراجية لأحمد عبد الحليم - التي دفعته لاختار مشاريع طلابه في الكويت، طوال اثنتين وعشرين سنة - يجب أن تنطلق من بداية عمله في مصر مخرجًا بعد عودته من لندن، وإتمامه دراسة التمثيل والإخراج في إنجلترا! فبعد عودته أعطاه يوسف إدريس - مدير قطاع الدراما بهيئة المسرح – في فبراير (شباط) 1967 مسرحية (ليالي الحصاد) كي يقوم بإخراجها. وهي من تأليف كاتب مغمور – وقتذلك – اسمه محمود دياب لم يتعدَ إنتاجه المسرحي سوى مسرحيتين كبيرتين، وثلاث مسرحيات من فصل واحد! ولم تُعرض له – في هذه الفترة - سوى مسرحيتين فقط: الأولى (البيت القديم) عام 1964 في المسرح الحديث، والأخرى (الزوبعة)، وتم عرضها - في إقليمي البحيرة وكفر الشيخ - عام 1966. أما المسرحيات ذات الفصل الواحد - والتي لم تُعرض على خشبة المسرح حينئذ - فهي: (المعجزة) 1962، و(الثقب) 1965، و(بناقص واحد) 1966!
إذن مسرحية (ليالي الحصاد)، كانت مفروضة على أحمد عبد الحليم، ولم يقم باختيارها! مما أتاح له المجال لأن يجعلها حقلاً تجريبيًا؛ بوصفها أول عمل إخراجي لمبعوث قادم من لندن! وأول ملمح إخراجي - في أسلوب هذا المخرج الشاب - كان قدرته على تحريك مجموعات الممثلين! وهذا الملمح لاحظه الناقد الدكتور عبد القادر القط؛ فعبر عنه قائلاً: «كانت أبرز وجوه التوفيق عنده هذه التشكيلات الرائعة التي كان يكونها من حركة الممثلين وسكونهم وأوضاعهم على المستوى الأعلى والأدنى من المسرح. ولا شك أن التحكم في حركة هذا العدد الكبير من الممثلين الذين يتبادلون الأدوار والأوضاع قد واجه المخرج بمسؤولية كبيرة، ولكنه استطاع أن يحملها وظلت الفروق بين الحقيقة والتمثيل واضحة في أذهان المشاهدين واحتفظت حركة الممثلين بإيقاعها وتشكيلاتها المرسومة» (مجلة المسرح – يناير 1968).
أما الناقد جلال العشري، فأكد على أمرين في أسلوب أحمد عبد الحليم الإخراجي: الأول، ميله إلى تحطيم الجدار الرابع؛ بوصفه مظهرًا تجريبيًا لمسرح الستينات. والآخر، الإشادة بتعامله مع النص، بوصفه مُخرجًا مُفسرًا للنص، لا مؤلفًا له، قائلاً في ذلك: «.. والذي يحسب لهذا المخرج هو احترامه للنص المؤلف، وتوظيف كل إمكناته الفنية لتفجير طاقات النص لا لتفجير طاقاته هو، وعلى ذلك جاء العرض المسرحي نظيفًا من محاولات الإخراج التأليفي فوق المسرح». (مجلة المسرح – يناير 1968)
كما فسّر المؤلف - محمود دياب – ظاهرة عدم نجاح العرض جماهيريًا بالصورة المأمولة؛ لأن المخرج لم يستغل روح الكوميديا الموجودة في النص، حتى يخفف من قتامة العرض، قائلاً: «كان من الممكن أن يتوصل أحمد عبد الحليم إلى روح الكوميديا في النص وهي في اعتقادي موجودة وكان من شأن هذا أن يخفف من القتامة التي لازمت العرض ويجعله أكثر قربًا من قلب الجمهور». (مجلة المسرح – مايو 1968)
ومن الجدير بالذكر إن فرض إخراج هذه المسرحية على أحمد عبد الحليم، لا يعني أنه أخرجها رغمًا عنه؛ بل العكس هو الصحيح! والدليل على ذلك قوله: «اعترف بأنني تلهفت على إخراج مسرحية (ليالي الحصاد)..... وأستطيع أن أقول بلا تحفظ أن هذه المسرحية يمكن أن تقف بجانب أي عمل مسرحي على المستوى العالمي ذلك لأنها تحمل مضمونًا إنسانيًا عامًا». إذن الموضوعات الإنسانية العامة، تُعدّ من الموضوعات الأثيرة لدى أحمد عبد الحليم؛ بوصفه مخرجًا مسرحيًا، والسبب في ذلك أنها تحثه على التعامل في إخراجها بصورة تجريدية!! وفي ذلك يقول: «لكل مسرحية عالمها الخاص فلقد تناولت هذه المسرحية – بالضرورة – من خلال عالمها الذي حتم علي شكلاً تجريديًا لأنه المجال الوحيد الذي يمكن أن ينبثق منه قضية الإنسان المطلق...... لهذا كله ولأسباب أخرى آثرت الشكل المجرد تمشيًا مع ما أوحى به النص وتعميقًا للقضية الإنسانية وإعطائها الصفة المطلقة البعيدة»، (مجلة المسرح – مايو 1968).
وهكذا يتضح لنا – من خلال مسرحية (ليالي الحصاد)؛ بوصفها أول تجربة إخراجية – أن أحمد عبد الحليم مُخرجًا مفسرًا تجريبيًا، يميل إلى إخراج الموضوعات ذات المضامين الإنسانية العامة، مُطبقًا عليها النمط التجريدي المناسب لها، مبتعدًا عن الكوميديا مُقتربًا من الجدية والقتامة، مُفضلاً تحريك مجاميع الممثلين في تشكيلات فنية استعراضية! ذلك التحريك الذي تدرّب عليه أكثر من خلال تحريك الكورس أثناء عمله مساعدًا للمخرج اليوناني ناكيس موزينيدس، في إخراج مسرحية (حاملات القرابين)، التي عُرضت على المسرح القومي عام 1968، وقال عنها أحمد عبد الحليم: «خرجت المسرحية في النهاية وهي تحمل أول استخدام علمي لوظيفة الكورس، وكان تقديمه بالصورة التي ظهر بها في (حاملات القرابين) شيئًا غير مسبوق – ربما – في المسرح المصري»، (مجلة المسرح – مايو 1968).
نجاح أحمد عبد الحليم مُخرجًا لليالي الحصاد، جعله يكرر التجربة من خلال مسرحيتي (البيانو) و(الضيوف) لمحمود دياب أيضا عام 1969. وهذا التعاون أو التآلف بين المخرج والمؤلف، جعل محمود دياب يقول: «إن الحب والتفاهم بين المؤلف والمخرج ضروريان لنجاح العرض المسرحي. وأحمد عبد الحليم إنسان يغريك بأن تحبه وفنان يقنعك بأن تثق به»، (مجلة المسرح – مايو 1969). وإذا تناولنا مسرحية (البيانو)، سنجدها تتحدث عن موضوع ذي مضمون إنساني عام من خلال موسيقي موهوب ضلّ طريقه الفني، وذهب في طريق الإدمان، فباع أثاث منزله، واحتفظ بالبيانو وصورة شخصية له في أوج شبابه الفني – رسمتها له حبيبته - مُعلقة على الجدار تذكره بماضيه الجميل... إلخ أحداث موضوع المسرحية!
هذا الموضوع الإنساني، عالجه أحمد عبد الحليم معالجة إخراجية تجريدية، وصفتها لنا لطيفة الزيات قائلة: «.. وقد استطاع أحمد عبد الحليم أن يجسم هذه المعاني بمعاونة مجموعة قديرة من الفنيين. فالديكور التجريدي العاري الحاد الخطوط مع المدينة في الخلفية تطل بأنوارها متباعدة متنائية متعالية تعمق من الشعور بالغربة عند الفنان وعند شبيه الفنان، والموسيقى والإضاءة تتآزر للربط بين المشاهد الخمسة في وحدة شعورية متكاملة وفي تعميق الأضواء الفنية التي تتأكد مشهدًا بعد مشهد»، (مجلة المسرح – مارس 1969). وهذا الوصف لأسلوب المخرج من خلال عناصر العرض التجريدية؛ تؤكد لنا أن أحمد عبد الحليم ما زال مهتما بإخراج الموضوعات الإنسانية بصورة تجريدية، لا سيما وإن كانت من تأليف محمود دياب!
في هذه الفترة كانت حركة التجريب المسرحي في أوج نشاطها، تلك الحركة الوليدة من رحم الحركة الطليعية في مسارح أوروبا وأميركا، التي نهل منها عمالقة المبعوثين المصريين الأوائل؛ فعادوا متحمسين لخوض التجريب المسرحي؛ فتم إنشاء مسرح الجيب عام 1963، وتمثلت رسالته في تقديم الكفاءات المسرحية الجادة والمُجددة، وتوفير الإمكانيات الفنية، التي تمكنهم من اكتشاف طاقاتهم وتجريب أفكارهم في مناخ أكاديمي هادئ؛ ولكن هذا المسرح توقف، وبدأ المسؤولون في البحث عن بديل!
هذا البديل، كان مسرح المائة كرسي؛ وهو أكبر فرصة أُتيحت لأحمد عبد الحليم لممارسة التجريب المسرحي! وهذا المسرح بدأ نشاطه في ديسمبر 1968، من خلال «قاعة صغيرة بالمركز الثقافي التشيكي بالقاهرة، بهدف عرض نماذج من الأدب المسرحي العالمي، خاصة المسرح التشيكي، بالإضافة إلى تبني تجارب المؤلفين والمخرجين المحليين وتشجيع المواهب الشابة» (قاموس المسرح ج5). ويقول أحمد عبد الحليم: «كنت واحدًا من المجموعة التي أنشأت مسرح المائة كرسي في مصر. وقد قام هذا المسرح على أكتاف بعض الفنانين الشباب من الرجال والنساء، وهم مجموعة تحب المسرح، وليس لها هدف مادي أو أي شيء؛ وإنما لتحقيق ذواتهم. ويقدمون أشياءً تهم الإنسان العربي»، (سمير الحكيم – محاورات معاصرة في المسرح العربي).
وأول مسرحية أخرجها أحمد عبد الحليم لهذا المسرح، كانت (الدرس) تأليف عبد المنعم سليم، وتدور أحداثها حول مدرس يشرح درسًا حول جوته، من خلال منولوج طويل لكيفية نطق اسم جوته، مع سفسطة بين المدرس وطلابه حول الموضوع؛ بغية التأكيد على فكرة معالجة المجهود المُهدر من أجل لا شيء!! هذا العرض أخرجه أحمد عبد الحليم بذكاء تجريبي؛ حيث جعل خشبة المسرح منصةً للأستاذ، ووزّع الطلاب بين الجمهور، فأصبح الجمهور ضمن فريق العمل المسرحي من خلال تحطيم الجدار الرابع، (مجلة المسرح مارس 1969).
والمسرحية الثانية كانت (المذكرة) تأليف الكاتب التشيكى فاتسلاف هافيل – الذي أصبح رئيسًا لتشيكوسلوفاكيا - ترجمة عبد المنعم سليم. وعلى الرغم من طليعيتها؛ إلا أن موضوعها الإنساني العام هو ما أغرى أحمد عبد الحليم لإخراجها، ففكرتها تدور حول «أن كل ما هو إنساني فهو أصيل وخالد، وكل ما هو اصطناعي فهو زائف وإلى زوال، سواء أكان ذلك في الحياة أم في المجتمع، في الفكر أم في الفن، في الأدب أم في اللغة»، (مجلة المسرح مايو 1969).
وفي هذه المسرحية، أضاف أحمد عبد الحليم سمة جديدة في أسلوبه الإخراجي، تمثلت في قدرته على اختيار الممثل المناسب للدور المناسب! وقد يقول قائل: إن هذا الأمر يُعد عملاً أساسيًا للمخرج؛ إلا أنني قصدت شيئًا آخر، وهو أن هذا الاختيار كان إرهاصًا لصناعة الممثل وتكوينه على يد هذا المخرج الشاب في ذلك الوقت، الأمر الذي سيصبح مهنة وممارسة عند أحمد عبد الحليم في الكويت، عندما سيعمل أستاذا في المعهد! ووجهة نظري هذه، يدل عليها قول جلال العشري: «الذي ساعد المخرج في تقديم هذا العرض الناجح الاختيار الموفق لمجموعة الممثلين الذين برز منهم حسن عبد الحميد، محمود حجازي، مجدي مجاهد، عايدة عبد العزيز، هالة فاخر، ولأول مرة مسرحيًا نبيل بدر ومنى قطان»، (مجلة المسرح مايو 1969).
أما استعراض (القاهرة في ألف عام)، تأليف عبد الرحمن شوقي، وإخراج الألماني (أرفين لايستر)؛ فقد استفاد أحمد عبد الحليم استفادتين من هذا العمل؛ بوصفه مساعدًا للمخرج الألماني: الأولى، اكتساب المزيد من الخبرة والتنوع في تحريك المجاميع في هذا الاستعراض. والأخرى التدريب على إخراج الموضوعات، التي تستدعي شخصيات من التاريخ؛ حيث إن هذا الاستعراض استدعى فنيًا كلاً من: الحاكم بأمر الله، وصلاح الدين الأيوبي، ونابليون بونابرت، ومحمد علي باشا، والخديوي إسماعيل.. إلخ، وهذا الاستدعاء سنجد أصداءه عند أحمد عبد الحليم فيما بعد!!
والملاحظ - في هذه الفترة - أن التجريب الأمثل والمقبول إخراجيًا ونقديًا، هو تحويل القصص والروايات إلى مسرحيات – كما قال أحمد زكي في كتابه «اتجاهات المسرح المعاصر» - وهذا ما فعله أحمد عبد الحليم، عندما أخرج مجموعة حوارية قصصية لنجيب محفوظ في صورة عرض مسرحي متكامل! والمجموعة كانت بعنوان (تحت المظلة)، وتم اختيار ثلاثة نصوص منها، هي: (التركة، النجاة، يحيي ويميت)! ويشرح أحمد عبد الحليم هذه التجربة، قائلاً: «محاولات حوارية لنجيب محفوظ قدمتها عام 1970، وكانت تجربة بالنسبة لي فقد قال عنها محفوظ نفسه إنها ليست مسرحًا وإنما حوارات.... لكن الحقيقة أنا لمست فيها طعم ورائحة الدراما فأخذت ثلاثة منها وعملت منها عرضًا مسرحيًا كان على المستوى الفني والجماهيري إلى حد كبير ناجحًا، على الرغم من أنها تجربة أخرجتها من خلال مسرح طليعي وقدمتها من هذه الزاوية التجريبية»، (سمير الحكيم، السابق).
وفي عام 1970 أيضًا، قام القدر بمنح أحمد عبد الحليم أهم مشاركة في إخراج حركة المجموعات وتشكيلاتها الفنية؛ المعروفة باللوحات التعبيرية الراقصة؛ وذلك قبل هجرته الفنية إلى الكويت! ففي هذا العام قررت دار الأوبرا المصرية عرض أوبريت (السنوات المرحة) تأليف الموسيقار الإنجليزي (إيفون نوفيللو)، التي عرّبها عبد الرحمن الخميسي، وأطلق عليها اسم أوبريت (حياة فنان)، وقام بإخراجها المخرج النمساوي (توني نيستر)، وكان أحمد عبد الحليم مساعدًا له، كما كان الكوريوجرافي – مصمم الكورال - النمساوي (جيرهارد زينفت) مُخرج اللوحات التعبيرية الراقصة، وكان الأستاذ يحيى عبد التواب مساعدًا له.
وقبل عرض الأوبريت مات الرئيس جمال عبد الناصر فألغي الافتتاح، وسافر النمساويان، وأصبح الأوبريت مسؤولية المخرج أحمد عبد الحليم، والكوريوجرافي يحيى عبد التواب، فقاما بعملهما خير قيام، وتم عرض الأوبريت رسميًا بدار الأوبرا يوم 29/ 11/ 1970، وهو أول أيام عيد الفطر بعد انتهاء الحداد على وفاة جمال عبد الناصر، وانتهاء شهر رمضان. ومن اللافت للنظر أن اللوحات التعبيرية الراقصة، كانت مجال إشادة من قبل النُقاد، ومنهم سليمان جميل، الذي قال: «إن لوحات الباليه التي أدتها فرقة باليه القاهرة هي اللوحات الفنية الوحيدة المقنعة في أوبريت حياة فنان»، (جريدة الأهرام 11/ 12/ 1970).
وفي عام 1974، أخرج أحمد عبد الحليم على مسرح الطليعة مسرحية (حُراس الحياة) – واسمها الأصلي (أولاد بلدنا) - من تأليف الكاتب الإذاعي محمد الشناوي! وفيها كرر أحمد عبد الحليم تجربته الإخراجية السابقة مع نجيب محفوظ، عندما حوّل نص محمد الشناوي المكتوب في صورة برامج إذاعية تسجيلية إلى عمل مسرحي! ناهيك بمشاركة أحمد عبد الحليم في مسيرة الاتجاه القومي المسرحي المواكب للأحداث السياسية الكبرى – أي قضايا الساعة - حيث إن مسرحية (حُراس الحياة) تتحدث عن انتصارات أكتوبر عام 1973.
وتأكيدا على هذا المعنى – وفي عام 1974 نفسه - قام أحمد عبد الحليم بإخراج مسرحية (العمر لحظة) تأليف يوسف السباعي، وإعداد سعد الدين وهبة، وتدور أحداثها حول الإصرار على عبور مرحلة الهزيمة، وصولاً إلى نصر أكتوبر المجيد؛ أي مواكبة قضايا الساعة أيضًا، بالإضافة إلى اشتمال العرض على تشكيلات استعراضية، التي أصبحت سمة في أسلوب أحمد عبد الحليم الإخراجي!
المسرحيات السابقة، هي كل خبرة أحمد عبد الحليم في مجال الإخراج المسرحي في مصر – من عام 1967 إلى 1974 – وهي خبرة جديرة بالاحترام والتقدير! وكفى بنا أن نعلم أن جميع المسرحيات السابقة، لم يسبقه إليها مخرج آخر!! أي إنه مخرجها الأول، وصاحب رؤيتها الإخراجية، والتي تتلخص في: إنه يعشق الموضوعات ذات المضامين الإنسانية، لمناسبتها مع التجريد في أسلوبه الإخراجي. ويُفضل وجود المجموعات والتشكيلات الاستعراضية في المسرحيات التي يخرجها. كما يميل إلى التجريب، ولا مانع من إخراج الموضوعات المتعلقة بقضايا الساعة، مع ترحيبه بالمسرحيات التي بها استدعاء للشخصيات التاريخية، مفضلاً القتامة على الكوميديا. ويُعدّ محمود دياب كاتبه المُفضل!

 


سيد علي إسماعيل