تأثيرات تشيخوف على منهج ستانسلافسكي في الإخراج

تأثيرات تشيخوف على منهج ستانسلافسكي في الإخراج

العدد 549 صدر بتاريخ 5مارس2018

قدم لنا المسرح العالمي الكثير من المبدعين، الذين جاءت معرفتهم مع انتشار حالة التواصل والتبادل الأدبي الجديدة بين دول العالم، ونمو حركة النشر والصحافة التي تنمو معها جدليًا حركة الترجمة عن اللغات الأخرى. ومن أهم الأسباب في انفتاح الثقافات، كان توافر أدباء وفنانين مثقفين منفتحين، الذين يعد من أمثالهم «تشيخوف» أحد المؤثرين في المسرح الروسي والعالمي. الذي تأثر بواقعه الاجتماعي والسياسي مما جعله يرى الواقع وما حوله بعين الفن، ويرى الكثير من النقاد أن لا وجود لكاتب مبدع ومتحرر من تأثيرات كتابات تشيخوف لما يحتويه فنه على الكثير من الإبداعات التي أرى فيها خاصية “السهل الممتنع”، كما ذكر المخرج السويدي «أنجمار برجمان» في وصفه لتشيخوف: أنه أشبه باختراق أعماق الحياة من خلال جدران صماء عالية.. ففي بدء الأمر نذكر علاقة تشيخوف بالمسرح فقد كان المسرح حبه الأول رغم ادعائه في كثير من الأحيان بأنه لن يكتب للمسرح مرة أخرى، وأنتج الكثير من القصص القصيرة، وأربع مسرحيات مطولة (طائر النورس، والخال فانيا، والشقيقات الثلاث، وبستان الكرز) وقام بإخراجهم ستانسلافسكي في التوقيت الذي كان يرى فيه معظم مخرجي هذا الجيل صعوبة في تحويل نصوص تشيخوف إلى عروض مسرحية. ويعد ستانسلافسكي مخرجا وممثلا مسرحيا روسيا وعالميا، وأحد مؤسسي فرقة مسرح موسكو الفني، التي ما زالت تعمل في موسكو لحد الآن.
فقد بدأ ستانسلافسكي متجهًا إلى الطبيعية متأثرًا بأندرية أنطوان، ومن ثم انتقل إلى الواقعية السيكولوجية، ولكن لم تبدأ هذه المرحلة إلا مع لقاء ستانسلافسكي بأنطوان تشيخوف، وبدأ لقاؤهما في نهاية عام 1888م أي قبل تأسيس مسرح موسكو الفني، وأن ستانسلافسكي بدأ واقعيا بالتعرف على نتاجات تشيخوف عندما قرر صديقه نيميروفتش أن يعرض مسرحية (النورس) تلك المسرحية التي فشلت فشلا هائلا أثناء عرضها في مسرح بطرسبورج، واضطر تشيخوف أن يهرب من المدينة بسبب ذلك، وذكر ستانسلافسكي في كتابه (حياتي في الفن) اعترافًا شخصيًا بأنه لم يفهم المسرحية حينها، ومن ثم أخرج ستانسلافسكي الثلاثة نصوص المطولة الآخريات مجددا من طريقة إخراجه، بجانب فهمه لأسلوب تشيخوف، ومن هنا بدأت عملية تناص منهج ستانسلافسكي من أسلوب تشيخوف المسرحي وبدأ اتجاه ستان إلى الواقعية السيكولوجية. وما يميز ستانسلافسكي عن منظري عصره أنه كان يعترف بأخطائه ومحبًا للتجديد الذي يخدم أسلوبه في الإخراج. إذا فطبيعية ستانسلافسكي البدائية في الإخراج كانت لا تتناسب مع واقعية الشخصيات التي رسمها تشيخوف في نصوصه المطولة.
أما عن أسلوب تشيخوف في الكتابة المسرحية فقد كان مهتما بالتفاصيل التي تجعلنا نرى الواقع والحياة المستقبلية من خلال رسم شخصيات النص، بجانب الاهتمام بظهور الأبعاد الاجتماعية والسيكولوجية للأشخاص من خلال الحوار وتحديد انفعالات الشخصيات عبر الإرشادات بجانب وصف الملابس والديكور وتحديد الإضاءة حتى إنه اهتم بإدخال عنصر الموسيقى؛ مما يجعلنا نعيش في واقع هذه الشخصيات التي ظهرت في نص (بستان الكرز) بداية من وصف الطبيعة في البستان، ورمزية شخصية لوباخن وما يقوم به من اقتلاع البستان استبدالا بالمنشأت السكنية والفيلات حتى يقف أمام صخب البرجوازية ونشر الرأسمالية أمام صمت جايف على بيع البستان فهو لا يفعل شيئا سوى الثرثرة على الماضي.
فكان هناك توافق في التوجهات السياسية لكل من (ستانسلافسكي وتشيخوف)، حيث كانت توجهات ستانسلافسكي تظهر دائمًا في رؤيته لإرهاصات الثورة البلشفية الاشتراكية التي عبر عنها من خلال العروض التي كان يقدمها قبل الثورة، فقد احتوت مسرحيات تشيخوف على تلك الإرهاصات على الرغم من شعريتها إلا أنها لا تخلو من الواقعية. فنجد أن ستانسلافسكي استهدف تصوير الواقع من خلال سيكولوجية الأشخاص كما فعل تشيخوف، ومن ثم اعتمد ستان على السيكولوجيا الداخلية في التدريب والعمل على نقل الواقع بصدق ومعايشة حقيقية. فقد رأى أن الممثل الحقيقي هو من يبعث الحياة في الشخصية التي رسمها المؤلف، ويكشف بالمعطيات الحسية عن عالمها الداخلي المعقد، ويبرزها بكل أبعادها السيكولوجية والاجتماعية.‏
وتروي زوجة تشيخوف التي تعد ممثلة في فرقة مسرح موسكو، كيف كان ستانسلافسكي يؤدي دور الطبيب أوستروف في مسرحية (الخال فانيا) - تلك المسرحية التي أخرجها ستان وحققت نجاحًا بعد فشل (النورس) - ونستنتج من خلالها كيف تأثر ستان بفكرة التطلع إلى المستقبل التي دعا إليها تشيخوف في مؤلفاته. فقد جاء أداؤه نابعًا من الداخل فتقول زوجة تشيخوف إنها تنظر إليه فتصدق شخصية استروف التي ترمز لمستقبل روسيا. ورأى كثير من النقاد والفنانين، أن ستانسلافسكي من المخرجين الكلاسيكيين، حيث يمتلك معرفة عميقة بسيكولوجية الممثل، جنبا إلى جنب مع خبرته المسرحية، التي أعطته إمكانية الكشف عن مكنون النص. إذن هناك تناص ظهر في الواقعية السيكولوجية التي اتبعها ستانسلافسكي في الإخراج، والتي كانت تظهر من قبل في أسلوب تشيخوف الواقعي بداية من تأثره بالبيئة الريفية أو اقتباس الشخصيات من الواقع.
وذُكر في كتاب “حياتي في الفن” اعتماد ستانسلافسكي على مسرحيات تشيكوف وإبسن ودويستوفيسكي في التمثيل والتدريب. وكانت المسرحية تُقرأ على الممثلين قراءة حرفية ثم تُشرح لغويا ودلاليا، وبعد ذلك تُحدد مقاصدها السياقية المباشرة وغير المباشرة. ومن ثم تُقسم المسرحية إلى أهداف عامة وخاصة وجزئية بطريقة سلوكية تعتمد على الأهداف الإجرائية. وينطلق الممثلون في قراءة أدوارهم المسرحية ودراستها وتقسيمها إلى أفكار وأهداف أدائية قصد فهم الفكرة العامة. وتأتي فرصة التدريب على الدور من خلال الإسقاط النفسي الطبيعي والاعتماد على الذاكرة الانفعالية الطبيعية واستحضار التجربة الشخصية واستقطار الذاكرة وتهييج الانفعالات مع الابتعاد عن التوتر النفسي وتعويضه بالتركيز والانتباه. وينتقل الممثل من التأمل العقلي لدوره إلى الجمع بين الكلمة والحركة والتشخيص الواقعي الحي، ولا بد من الارتجال في عملية التمثيل من أجل إتقان الدور ومعايشته.
وكان الممثلون ينتقلون إلى الأماكن التي لها علاقة بالدور المسرحي، أو ينتقلون إلى بعضهم البعض داخل المنازل لمعرفة الظروف الشخصية والنفسية التي يمر منها كل ممثل والتي قد تؤثر سلبًا على الدور التمثيلي فوق خشبة المسرح من أجل الحفاظ على الانسجام النفسي والاجتماعي بين أعضاء الفرقة. وذلك ما يذكرنا بواقعية تشيخوف في اقتباسه للأحداث من الواقع المحيط.
وكان هناك خط مشترك آخر بين كل من (تشيخوف وستانسلافسكي) كما ذكرنا من قبل ألا وهو الواقعية، فكانت شخصيات تشيخوف في “بستان الكرز” مستمدة من الواقع فمثلا شخصية إيبيخودوف مأخوذة من شخصيات عدة، ولكن الملامح الأساس مأخوذة من الخادم الذي كان يقوم على خدمة تشيخوف في البيت الريفي، أما دور تروفيموف الطالب، فقد أخذه تشيخوف من جماعة من الشباب الذين كانوا يقيمون في لوبيموفك. وكان يسعى ستان إلى أن يختار الممثلين بنفس الوصف الذي أورده تشيخوف في مسرحياته.
وكان ستانسلافسكي كثيرًا ما يستخدم المؤثرات الضوئية والصوتية، وخلق الأوهام بالديكور لكي يحرك ذاكرة الممثلين الانفعالية ويُظهر الواقعية السيكولوجية، كما أنه استخدم المكياج الذي يؤكد على الملامح الانفعالية للأشخاص التي كان يصفها تشيخوف في الإرشادات. ويتناول البروفسير كاتايف الذي يعد من أبرز المتخصصين الروس في أدب تشيخوف؛ ذكر بعض الرسائل المكرسة لمسرحية تشيخوف الأخيرة (بستان الكرز) مشيرا إلى أنها عكست التقارب الكبير والعلاقات الحميمة التي تبلورت بين ستانسلافسكي وتشيخوف، إذ ناقش تشيخوف أثناء العمل على عرض هذه المسرحية بشكل تفصيلي مع ستانسلافسكي حتى قضية توزيع الأدوار على الممثلين والخصائص المرتبطة بذلك، وأشار ستان أن تشيخوف كان يجلس أثناء التدريبات في المسرح وتحدث بالتفصيل عن دور لاباخين المهم، وأشار إلى أنه يثق بستانسلافسكي لأداء هذا الدور، معتبرا أنه الوحيد الذي يستطيع أن يعكس (تعقيد هذه الشخصية في المسرحية). أما ستانسلافسكي، فقد كان شديد الإعجاب بمسرحية (بستان الكرز)، وكتب في رسائله إلى تشيخوف عن (انبهاره) بها، وأن المسرحية متكاملة بحيث لا يمكن أن نحذف منها شيئا، وأن الشيء السلبي الوحيد هو أنها تتطلب ممثلين كبارا وعمالقة أكثر مما ينبغي، من أجل الكشف عن كل جماليتها.
لكن عندما بدأ الإعداد لعرض المسرحية ظهرت بينهما المواقف المتباينة، خصوصا بشأن الصفة العامة للمسرحية، وهل هي (كوميديا) كما كتب تشيخوف، أم (تراجيديا) كما أخرجها ستانسلافسكي، فقد اختلف تشيخوف مع ستانسلافسكي في معالجة هذا النص كتراجيديا. فعلى الرغم من تأثر ستان بتشيخوف فإن هذا الاختلاف يؤكد على وجود رؤية ستانسلافسكي المستقلة في نصوص تشيخوف بعيدًا عن تأثره بأسلوبه.
ونستنتج أن هناك علاقة قوية تربط بين مؤلف النص ومخرج العرض، فقد تصل هذه العلاقة إلى المشاركة في تكوين المنهج الإخراجي الُمتبع في إنتاج العرض، التي ظهرت في اتخاذ ستانسلافسكي من نصوص تشيخوف ملجأ لتدريب الممثل. لما تحتويه الإرشادات من تفاصيل في الحركة والإيماءات وثراء الحوار، فقد كان ستانسلافسكي يسعى إلى ترجمة كل ملاحظة من ملاحظات المؤلف إلى لغة مسرح، ويرى أنها ستسعفه في ذلك الفانتازيا المجنحة، التي لا حدود لها، متجاوزًا الحواجز كلها في الفضاء المسرحي.


رغدة محمد