تاريخ مسرح نجيب الريحاني وتفاصيله المجهولة(32) مسرحية آه من النسوان!!

تاريخ مسرح نجيب الريحاني وتفاصيله المجهولة(32) مسرحية آه من النسوان!!

العدد 859 صدر بتاريخ 12فبراير2024

استمر الريحاني في عروضه الكوميدية المعتمدة على أمرين لا ثالث لهما، الأول شخصية «كشكش بك» ومواقفه الهزلية، والآخر وجود الراقصات الأجنبيات! وربما الأمر الثاني كان الأهم، لذلك اعتمدت عليه الصحف في إعلاناتها، مثل جريدة الأهرام التي أعلنت في أواخر فبراير 1928 قائلة: مسرح الريحاني يقدم رواية «آه من النسوان» تأليف بديع خيري ونجيب الريحاني مع جوق راقصات أسبانيوليات، والراقصة الروسية «فالا أثميلا فبسكا».
وتتلخص المسرحية - كما جاء في تقرير الرقابة الرسمي - أن كشكش بك كان رجلاً مستهتراً، ينفق أمواله على النساء وذلك كله رغم شيبته! فعلم بأن رجلاً من الأجانب كان من طبقة غنية وافتقرت، وأراد أن يزوجه ابنته، فسهل له سبيل مغازلتها حتى إذا فاجأه على هذه الحال خيّره بين أن يتزوج الفتاة أو يفرغ فيه مسدسه. فقبل كشكش على مضض بهذا الزواج من هذه الفتاة الأفرنجية التي لا تستطيع أن تفهمه ولا هو أن يفهمها. وهنا تقع مشاهد سوء تفاهم الغرض منها إضحاك الجمهور والترويح عنه بما لا يخرج عن حدود الآداب حتى إذا ملّ هذه الحياة عاد إلى أحضان زوجته «أم أحمد» طالباً راحة البال وهناء العيش القديم.
كان الناقد «جمال الدين حافظ عوض» - صاحب مجلة الستار – من أوائل من كتبوا عن هذه المسرحية، وأقرّ منذ البداية بأنه يميل إلى عروض الريحاني، مبرراً انحيازه للكتابة عنه فقط حتى الآن!! وفي ذلك قال الناقد تحت عنوان «آه من النسوان على مسرح الريحاني»: لاحظ الأصدقاء الذين قرأوا كلمتي السابقة عن روايات الريحاني، إنني لم أكتب كلمة واحدة طول هذا العام، في نقد رواية أخرى ظهرت على مسرح آخر. ولعلهم يعتبرون ذلك محاباة غريبة مني وتحيزاً ظاهراً لفرقة الريحاني، ويقيناً لست أجد ما أرد عليهم به، إلا الاعتراف الصريح بأنني لا أجد مسرحاً تتوق نفسي إلى زيارته، ومشاهدة رواياته والكتابة عنها كمسرح الريحاني! لقد سئمت نفسي روايات الدرام ومواقفها المعقدة، وانصرفت عن التراجيدي، وبكائه وعويله، وأصبحت لا ترى تسلية إلا في المفرح المضحك، الذي لا يحتاج إلى عناء التفكير والتمحيص. ولعمري لقد توفرت الشروط الأخيرة فيما أخرجه مسرح الريحاني من روايات هي درر الموسم، وأنجح ما ظهر من قطع هذا العام.
بعد هذه المقدمة، شرع الناقد في الكتابة عن المسرحية وأبدى ملاحظة لم يلتفت إليها النقاد قبله، وهي أن بصمة الريحاني في التأليف المشترك للمسرحيات واضحة عندما نقارن بين المسرحيات التي اشترك في تأليفها مع بديع خيري، وبين المسرحيات المؤلفة من قبل بديع وحده!! وفي ذلك قال: «آه من النسوان» هي رابع رواية ناجحة أخرجها مسرح الريحاني هذا العام - إذا اعتبرنا رواية «يوم القيامة» من الروايات الناجحة - وهي أقرب إلى نوع الفودفيل منها إلى نوع الريفيو، الذي برع الريحاني في إخراجه هذا العام، ولولا ظهور الراقصات على المسرح بمناسبة وغير مناسبة، لأصبحت رواية فريدة في نوعها، ولصح أن تمثل على أي مسرح من مسارح أوروبا. ولا يعني هذا أن الرقص جاء مشوهاً للرواية - وإنما كان «زيادة حلاوة» لإدخال السرور على قلوب المتفرجين المصريين. وهنا لي ملاحظة قد أحتاج إلى شيء من الشجاعة لإبدائها بكل صراحة! اشترك في تأليف هذه الرواية كل من الأستاذين نجيب الريحاني وبديع خيري - على أن الناقد المدقق يلاحظ أن الروايات التي أخرجها مسرح الماجستيك - وهي من تأليف الأستاذ بديع خيري بمفرده - تختلف كل الاختلاف عن روايات مسرح الريحاني - فلست تجد فيها تلك الحركة المسرحية المحبوكة - ولا تلك الروح الخفيفة ولا النكتة الطريفة الجديدة - ولعل السبب في ذلك راجع ولا شك إلى اشتراك الأستاذ نجيب الريحاني في التأليف.
كما تحدث الناقد عن الإخراج والتمثيل قائلاً: كان الإخراج بديعاً جداً وكانت الملابس فخمة تدل على ذوق المدموازيل «كلير» وحسن انتقائها، كما كان المسرح والحركة فيه منتظمة مما يشهد ببراعة «جبران نعوم» مدير المسرح. ولعل هذه العوامل المجتمعة هي السر في الإقبال العظيم الذي يلاقيه مسرح الريحاني هذا العام. ونجيب الريحاني يزداد إتقاناً في تمثيله، إذا ما قامت بالدور الأول أمامه ممثلة تمتلئ حرارة وعاطفة، وقد وجد تلك الممثلة المنشودة في شخص «كيكي» بريمادونة مسرحه التي ذكرتنا بعهد بديعة مصابني. وقد قامت هذه الفتاة بدورها على أكمل ما يطلب من ممثلة قادرة مجتهدة. وفي عقيدتنا أنها تزداد مقدرة ونشاطاً، على مرور الأيام فهنياً للأستاذ نجيب بممثلته الأولى. وأجاد جميع أفراد الفرقة أدوارهم، ونخص بالذكر جبران نعوم، وعبد النبي، والتوني، وحسين إبراهيم، ومحمد كمال المصري، وعبد الفتاح القصري، ومحمد مصطفى جلانطينو، كما زان المسرح الراقصات: ميمي وإيمي كراوس، وبقية الراقصات الأسبانيوليات ومدموازيل رينيه. ولقد قرأ الناس اسم الراقصة الروسية المعروفة «فالاشميلفسيكا»، مكتوباً بأحرف كبيرة على إعلانات اليد والحائط، فاستغربوا عدم ظهورها على المسرح. وتفصيل الخبر، أن الأستاذ نجيب كان قد أوشك على الاتفاق مع تلك الراقصة الماهرة، ولكن ظروفاً قاهرة، حالت دون انضمامها إلى الفرقة، وظهورها في هذه الرواية. ونستطيع أن نطمئن القراء، بأنها ستكون درة هذا المسرح وفخره في الرواية الاستعراضية الكبيرة القادمة.
نختتم الحديث عن مسرحية «آه من النسوان» بمقالة مهمة جداً، كونها مقارنة بينها وبين مسرحية «الذبائح» لفرقة رمسيس تأليف أنطون يزبك، ومن هنا تأتي نصف الأهمية كونها مقارنة، وهو لون نقدي مسرحي غير مألوف في هذ الفترة. أما النصف الآخر لأهمية المقالة - وربما النصف الأهم - أن المقالة كتبها «أحمد جلال» وتُعد من كتاباته الأولى النادرة!! وأحمد جلال هو أحد رواد السينما العربية والمصرية، وصاحب أستوديو جلال السينمائي، وشريك «آسيا داغر» الرائدة السينمائية، وزوج الفنانة «ماري كويني» ابنة شقيقة آسيا داغر، ولعل أغلبنا لا يعلم أن أحمد جلال بدأ حياته صحافياً وناقداً مسرحياً!!
والمقالة نشرها أحمد جلال في مجلة «الناقد» في منتصف مارس 1928، تحت عنوان «آه من النسوان على مسرح الريحاني»، قال فيها: ليست الذبائح وآه من النسوان إلا رواية واحدة! وقد يبدو عجيباً أن نشبه المأتم بالعرس، ولكن الفكرة التي عالجها الأستاذ يزبك في روايته المبكية هي الفكرة التي عالجها الأستاذان نجيب الريحاني وبديع خيري في روايتهما المضحكة، إلا أن يزبك أحاط فكرته بدموع ولطم وعديد وموت، وكان ختامها مفجعاً. والريحاني وخيري أحاطا فكرتهما بضحكات ورقص وغناء وكان ختامها مفرحاً. وأن يزبك نظر إلى زواج الأجنبيات بمنظار أسود، فأظهر شقاء زوج الأجنبية في صور شاذة غير مألوفة وغير عادية مبالغ فيها إلى حد المناحة. وأن الريحاني وخيري نظرا إلى هذه الفكرة بمنظار أحمر فأظهرا زوج الأجنبية في صورة فكهة مسلية وأني أفضل الفلسفة الأخيرة عن الفلسفة الأولى، وأعتقد أن تحليل المسائل من الوجهة الفكهة المحبوبة أوقع في النفس وأقرب للقبول من تحليلها من الوجهة الصاخبة المفجعة! ضابط تزوج أجنبية فطلق زوجته ومات ابنه وجنت فتاته ثم مات قتيلاً. وعمدة تزوج أجنبية فاحتقرته وأرغمته على المدنية الكاذبة فطلقها وعاد إلى زوجته الفلاحة بعد أن عرف موضع السعادة العائلية. أليست الفكرة الثانية أقرب للحقيقة وأحسن سبكاً من الفكرة الأولى؟ تلك هي رواية نجيب الجديدة التي يتلقى المشاهد منها العظة والعبرة بين الضحك المتواصل والارتياح المستمر.
أما «أشخاص الرواية» فأولهم الأستاذ الريحاني الذي يعد من أمهر الممثلين المضحكين في العالم، وقد ظهر في الرواية في ثلاثة أشكال متباينة، في كل شكل منها ما سيملؤك طرباً وعجباً. فهو في الفصل الأول الشيخ المتصابي والعمدة المستهتر والعاشق المغرور، الذي يخيل إليه أن له سلطاناً نافذاً على النساء فإذا قابلته المرأة بكلمة «أمبسبل» أي مغفل، ترنح طرباً وخيل له وهمه أنها كلمة مجاملة وتحية، فتراه سائحاً نائحاً فرحاً مترنحاً. وفي الفصل الثاني يصبح زوجاً لفتاة أجنبية من طراز سنة 1930 ترغمه على تعلم الرقص والجولف والبوكس والتنس والمجاملات التي تتنافر مع طبعه وذوقه. فهو زوج متمرد ساخط ثائر على النظم الحديثة والآداب الاجتماعية الغربية لا يستفيق من صدمة حتى يقابل بصدمة أقوى منها. وإذا كان الفصل الثالث رأيته الشيخ القروي المستكين الذي أفاق من غفلته وعاد إلى منزله وشعر بعطف أهله وعشيرته على الرغم من عدم تمدنهم وسوء طباعهم. وهو في كل فصل خفيف الروح حلو الدعابة يملأ المسرح مرحاً وطرباً ويرغمك على أن تحبه وتضحك معه وتلبث محلقاً إليه حتى لا تفوتك حركة من حركاته الخفيفة وتعبيرات وجهه الناطقة.
ولو قصر الأمر على نجيب لكفى به مبعثاً للمرح والسرور والضحك المستمر فما بالك وحوله فريق من الممثلين نبغ كل منهم في فكاهته وإتقان شخصيته حتى كأنهم خلاصة الممثلين الفكهين في العالم. وقد أجاد محمد كمال المصري «شرفنطح» دور السجان الفظ الغليظ الذي يتقلب على جمر الغيرة والغيظ لأن كشكش يغازل امرأته فيعطيك صورة كاريكاتورية قوية الرسم من الجندي السجان وحركاته وعقليته وإمارته وعنطظته. و«عبد الفتاح القصري» الفلاح الساذج الذي يحدثه كشكش عن نساء مصر الأجنبيات ورقتهن ومداعباتهن فتراه فاتحاً فمه حتى أذنيه تنتابه نوبات طرب ونشوة من الحديث اللذيذ ولا تلبث هذه النوبات أن تنتقل إلى المشاهد فتراه يضحك ويطرب معه. و«محمد التوني» الوسيط المخادع المتلون، و«حسين إبراهيم» المرأة البلدية الصاخبة السليطة النابغة في الردح وفي اللطم والعديد. و«عبد النبي» ماسح الأحذية وابن البلد الظريف المداعب، و«جبران نعوم» أستاذ البوكس وصاحب المنزل الشحيح العتيق الطراز، و«محمد مصطفى» الموظف العصري الرشيق.
أما «الألحان» فقد خسر نجيب بوفاة المرحوم الشيخ «سيد درويش» خسارة لا تعوض. فإن ألحان رواياته فقدت تلك الروعة والحلاوة التي كانت تجعل اللحن في غداة تمثيل الرواية لحناً شائعاً في كل مكان تمتلئ به المسامع والأفواه وتسمعه في كل بيت وفي كل شارع وفي كل مدينة وفي كل قرية. وقد عمد نجيب إلى بعض الأنغام القديمة فصاغ لها كلمات جديدة ولذلك لم تعد الألحان قوام الرواية ومنبع قوتها كما كان الحال من قبل. أما «المناظر» فكانت جميلة ومزخرفة ورائعة، وهي من أهم معالم الروايات الاستعراضية. ولم يفت نجيب ذلك فأظهر لنا مناظر كثيرة الزخرفة، براقة النقش عظيمة الروعة. ولا شك أن منظر الفصل الثاني من أبدع النقوش المسرحية التي تفتخر بها مسارح الروايات الاستعراضية. ويجدر بنا أن نثني أطيب الثناء على صانعها الرسام الأسباني «أنطونيو دي لاجيرا».
وعن «الرقص»، فقد امتازت هذه الرواية بفرقة جديدة من الراقصات الأسبانيات. وللرقص الأسباني فتنة وحلاوة تجذبان القلوب فإن فيه الشيء الكثير من الروح الشرقية. كما أن في الجمال الأسباني معاني جمة من الجمال الشرقي الفاتن، ولا غرو فإن الدم الأندلسي لا يزال له أثره في أسبانيا، لذلك كان رقص هذه الفرقة قريباً إلى قلوب المشاهدين ملائماً للذوق المصري فلا تكاد الراقصات يعتلين المسرح ويتمايلن في زهو وإعجاب في حركاتهن الرشيقة اللينة المثيرة للوجدان ويدوي في الجو صوت الصاجات وفرقعة الأصابع وضربات الأرض بالأقدام بين خفيف الثياب الحريرية وبين الابتسامات التي تفتر عن أسنان في بياض العاج، وبريق العيون الواسعة السوداء حتى يمتلئ المكان بروح عجيبة ساحرة تفيض حياة وتأججاً ورشاقة وجمالاً ويخيل للمرء أنه تحت سماء أسبانيا الصافية بلد الأزهار والابتسامات. ولا يفوتنا أن ننوه برقصة الحبل التي ترقصها الأختان الأسبانيتان «أليسيا» و«روسيو» وهي رقصة تمثيلية تمثل مداعبة بين صبي وصبية صغيرين، وفي حركاتها وخطواتها معانٍ جمة من دقة الفن وحلاوة التوازن والتنقلات.


سيد علي إسماعيل