«اللعبة» و«سيب الباقي علينا» ومسرح العبث

«اللعبة» و«سيب الباقي علينا»    ومسرح العبث

العدد 849 صدر بتاريخ 4ديسمبر2023

في إطار الدورة التاسعة لمهرجان آفاق مسرحية العربي والذي أقيم في الفترة من (29 أكتوبر: 7 نوفمبر 2023م) والدورة مهداة إلى النجم الراحل كرم مطاوع، وضيف شرف الدورة دولة فلسطين، وقدمت نهائيات المهرجان على مسرح الهناجر بدار الأوبرا المصرية، وفي مسابقة العروض القصيرة، قدمت فرقة الخ...  – القاهرة عرض اللعبة، وقدمت فرقة فيجن تيم – القاهرة عرض سيب الباقي علينا، وفي السطور القادمة نلقي نظرة على هذين العرضين اللذين ينتميان إلى مسرح العبث، والعبثيون هم مجموعة من الكتاب الشباب الذين تأثروا بنتائج الحروب العالمية، التي أثبتت إفلاس القيم الدينية والأخلاقية وانعكس ذلك على كتابتهم للتعبير عن لا معقولية الوضع الإنساني، ففي القرن العشرين قامت الحرب العالمية الأولى وعندما بدأ الإنسان يعود إلى رشده قامت الحرب العالمية الثانية بعد مرور عقدين من الزمان، وكانت حربا كارثية، أثبتت أن كل شيء بناه الإنسان من حضارة وتراث يمكن أن ينهار في لحظات، وقد ظهر ذلك بعد التجربة الذرية المريرة (إسقاط القنبلتين الذريتين على هيروشيما ونجازاكي) مما أدى إلى زعزعة الاستقرار والإيمان بالقيم، وفي الألفية الثالثة أصبحت الصراعات واضحة دون مواربة بين الدول الكبرى أو دول العالم الأول المتحضر التي تنادي حكوماتها وشعوبها بالسلام، وتحقيق العدالة، واحترام حقوق الإنسان ولكن للأسف، أصبح الكثير منهم يريد أن يسيطر على مقدرات الشعوب الضعيفة ويسعى لأن يسود العالم بلا منازع، ولذلك تولدت حروب خفية بنشر الفيروسات، أو الشائعات، أو الحرب مباشرة باستخدام المعدات العسكرية، وكل هذه الأدوات والمكائد تؤدي إلى هلاك البشر وليس حقوق الإنسان، وأصبح كل ما يقال ما هو إلا مجرد شعارات جوفاء رنانة.  
ظهر صامويل بيكيت في نفس زمن ظهور يوجين يونسكو، فهما يعتبران رفيقين في الكتابة لمسرح العبث أو اللامعقول، وعلى الرغم من أن كليهما كان يعتمد على الكوميديا إلا أنهما اختلفا في أسلوب الكتابة، فكانت نظرة بيكيت تشاؤمية لعبثية الحياة وخلوها من أي منطق؛ فالحياة تتسم بالكآبة والتكرار، والزمن الخامل الذي ليس له تأثير، فكان بيكيت يستخدم اللغة ليقدم كوميديا الموقف بسخرية يطغى عليها الطابع الفلسفي التأملي، أما يونسكو فقد حاول أن يطرح في نصوصه خواء الحياة وغربة الفرد داخل مجتمعه، وعدم الانسجام بين وضع الإنسان ورغباته، فكان يعبر باللغة بسخرية يطغى على أسلوبه الهزل المدهش والفاحش أحياناً.
 
عرض اللعبة
من واقعنا المعاش المرير وعن مسرحية نهاية اللعبة لصامويل بيكيت قدم عرض “اللعبة”، دراماتورج (عبد الرحمن عماد)، وإخراج (إسلام تمام).
 تدور الفكرة الرئيسية حول معاناة الإنسان، وهذا النوع من البشر يعيش في صراع دائم في مراحل عمره عندما كان صغيراً او كبيراً، وهذا النوع من البشر أيضاً تتولد لديه فكرة الإقبال على الانتحار، وقد اختصر الدراماتورج بعض الأحداث، وقدم حواراً مغايراً، وبدلاً من  شخصيات نص بيكيت الأربع؛ قدم العرض شخصيتين فقط باسم هام (أحمد سليمان)، وكلوف (محمد أسامة)، وعلى الرغم من وجودهما من الممكن أن نعتبرهما شخصية واحدة تعيش في مكان ما هامشي، من الجائز أن يكون بدروم، يعيش هذا الإنسان في قلق وتوتر وصراع نفسي ويعزل نفسه عن العالم الخارجي؛ لإيمانه أن العالم أصبح غابة يأكل فيها القوي الضعيف، أو هما شخصان (أب يدعي هام، وابن يدعى كلوف)، هام لا يعترف أبدا بخطئه، ويحب السيطرة والتملك، لكنه شخص مريض نفسياً يخاف من الموت، ولذلك يخشى الخروج من المنزل حيث أنه مقتنع أنه من الممكن اضطهاده لسبب ما مبني على الدين أو اللون أو العرق، فهو عكس الابن الذي يريد الخروج معبراً عن حالة الطفولة، وبالتالي فهو شخص محدود الذكاء، وغير متعلم لا يعلم شيئا عن مبادئ الحياة، أو يعلم بأن الطعام والشراب هما أساس الحياة بجانب أنها من متع الحياة أيضاً، وكذلك الراحة والخلود إلى النوم من أساسيات الحياة، ويشير نص العرض لذلك على لسان هام «لن تنام بعد اليوم (...) سوف أعطيك قليلاً من النوم حتى لا تموت (...) سأرمي لك نقودا تحضر بها طعاما يكفيك على قدر العيش»، فقد خرج الجانب السيء الذي بداخله، والحكاية أن هذا الأب يحبس ابنه في هذا المكان الذي يعيشان فيه، والابن يريد الخروج وعندما يسأله الابن “لماذا أنا هنا” يخبره الأب “لأن هذا هو قدرك يا فتى» فالابن يريد أن يلعب مع الأطفال الذين هم في سنه،  فيبلغه الأب بأن «المنزل بلا أبواب .(...) لا يمكن أن نغير الأقدار” والحب من وجهة نظر الأب يكون للضعفاء، والأحلام أوهام، والآمال زائفة، فالأب والابن يعيشان في عالم مزيف.
من الممكن أن نلخص ما سبق بأن هذا العرض يطرح أكثر من رسالة سلبية يعيشها إنسان اليوم ولا بد أن نغيرها للأفضل بالاتفاق على ما يلي:
1 – الحروب لا تترك إلا الدمار والخراب للبشر.
2 – تسلط الأب أو الأم على الأبناء يترك لديهم شروخا نفسية.
3 – يجب على الإنسان استثمار الوقت وعدم إهداره.
4 – يجب على الإنسان التصالح مع ذاته ليعيش في هدوء نفسي.
5 – يجب على شعوب العالم التركيز على العيش في سلام ووئام.

كيف حقق المخرج رؤيته؟
نجح المخرج في رسم حركة مسرحية منضبطة، فنجد إحدى الشخصيتين تقف في المقدمة وتقف خلفها الشخصية الأخرى فتكون هي المسيطرة على الحدث الدرامي، ثم يحدث العكس، ولذلك كان قولنا إن العرض يعبر عن شخص واحد في حالة صراع نفسي، ويؤكد أيضا على ما نقول بوقوف الشخصيتين أمام بعضهما البعض، يعلق كل منهما حبلا واحدا في رقبته شكل من الطرفين على هيئة مشنقة، كأنهم ينظران في مرآة، أي أن أحدهما انعكاس للآخر، فالماضي والحاضر يمران في عقل الإنسان في لحظة واحدة قبل لحظة الانتحار،  فعندما يحتضر الإنسان وقبل وصوله إلى العالم الآخر يتذكر شريط حياته، كما كان التعامل مع جسد الممثل بشكل متميز، ومنها أحدهما واقف والآخر نائم على المسرح ليشكل عقارب الساعة التي توحي بمرر الزمن وحالة الإنسان النفسية التي يعيشها، فعلى الرغم من أنها ساعة واحدة، إلا أنه مثبت عليها عقربان أحدهما يشير للدقائق والآخر يشير للساعات، وكذلك تنمية قدرات التركيز للممثل بالازدواجية؛ بوقوف الممثل على حرف ظهر كرسي خشبي، والمحافظة على الاتزان والأداء والنبرات الصوتية والانتقال من حالة إلى حالة، فأدى ذلك إلى ثراء في الرؤية البصرية للمتلقي، ولكنني للأسف أقول أرجو الاهتمام باللغة العربية. 
قرر المخرج تنفيذ العرض بالدمج بين المدارس المسرحية المختلفة، مثل التعبيرية والرمزية  باستخدام الديكور والإكسسوار، وغلبت على العرض فكرة مسرح الصورة، وأنهى كل مشهد بكادر ثابت لمدة ثوانٍ قبل الانتقال إلى مشهد آخر.
استكمالاً للرؤية البصرية (ديكور: أدهم همام) وضع المخرج سبعة كراسي في الفراغ المسرحي، بعضها وضع بشكل صحيح والآخر وضع مقلوبا في دلالة على أنه أصبح غير صالح للاستخدام (متهالك)، وتم توزيعها في عمق ووسط ومقدمة المسرح، وتم استخدام بعضها أثناء التمثيل، وشكل المكان منزل هام وكلوف فهما  يعيشان في بدروم به أثاث مهمل، وتم لصق بعض الأشكال على ستارة عمق المسرح، وقد كان الإكسسوار إضافة للعرض فاستخدم الحبل ليعبر عن حالة الانتحار والقلق النفسي الذي وصل إليه الإنسان في العصر الحديث، عصر الشعارات الرنانة عن حقوق الإنسان، التي تملأ الكتب وتسمع وتشاهد في الوسائط المختلفة، ونجد أحد الممثلين يقف على عدة كتب فقد أصبحت لتخزين معلومات غير حقيقية وغير مرغوب فيها، معلومات لا تتحقق بل قسمت العالم إلى شعوب العالم الأول، وشعوب العالم الثالث، ولم تجب عن سؤال من هم شعوب العالم الثاني على الرغم من أن كلنا بشر.
كانت إضاءة (أحمد حلمي) منضبطة فقد خطط لها ونفذها بحرفية شديدة أثناء العرض وهي من العناصر المميزة لخلق رؤية بصرية تحقق ما أراده المخرج بتقديم الحالة الضبابية والرؤية القاتمة للمجتمع التي يعيش فيها سكان هذا المكان، وتم خلق حالة مشهدية جيدة باستخدام الضوء الأزرق، كما تمت إضاءة المسرح كاملاً ليعبر عن الليل، أو بعض البؤر الضوئية، وكذلك اللون الأحمر ليؤكد على الشر، واستخدمت بعض البؤر الضوئية للتعبير عن الانتقال من مكان إلى مكان آخر بالمنزل.
ملابس (إيمان نادي) كانت عبارة عن ملابس متسخة يرتدي أحد الشخصيات (هام) بدلة سوداء كاملة وقميصا أسود، أما الشخصية الأخرى (كلوف) يرتدي قميصا أبيض وببيون وفوقه جليه أسود وبنطلون أسود، وذلك لخلق فكرة التضاد، واللون الأسود يتسق مع فكرة الموت.
عبرت الموسيقى عن حالة القلق والتوتر وكانت طوال الوقت مبطنة للعرض تعلو وتخفت في حالات متعددة، كما عبرت المؤثرات الصوتية عما يدور في عقل الإنسان فنسمع أصواتا غير منتظمة ومكررة، مثل سماع صوت دوران عقارب الساعة، وصوت طلقة رصاص، وصوت صرخة.

عرض سيب الباقي علينا
قدم العرض المسرحي سيب الباقي علينا عن نصي مسرحيتين ليوجين يونسكو هما المستقبل في البيض. وجاك أو الامتثال، دراماتورج (عبد الله ناجي) ومن إخراج (مراد كامل)، ونص يونسكو المستقبل في البيض والذي تدور أحداثه حول زوجين حديثي الزواج قررا تأجيل الإنجاب لفترة، لكنهما يتعرضان لضغط الأهل من أجل الإنجاب، خاصة بعد وفاة الجد، ونظراً لهذه الضغوط يقرر الزوجان الإنجاب لكنهما في النهاية ينجبان بيضة، والحكاية تؤكد على ضرورة تحلي الإنسان بالصبر والتأني في اتخاذ القرارات، وعدم الانسياق وراء أفكار أو متطلبات الآخر، أما نص “جاك أو الامتثال” استلهم الدراماتورج منه فكرة إصرار العائلة على زواج ابنها واختيار العروسة له، وهذه المسرحية تفضح الطبقة البرجوازية، وتدور الفكرة الرئيسية للعرض حول سلطة القمع الأسري، قمع الآباء للأبناء منذ ميلاد الطفل حتي يكبر، ودائما تصدر له توجيهات من الوالدين وعليه هو التنفيذ فقط، حتى عندما يكبر يختار له الآباء الجامعة ثم العمل وحتى الزوج أو الزوجة، لدرجة التدخل في قرار الإنجاب، فلا بد أن ينجب الابن حتي يمتد اسم الأب ويصبح جدا وتدور عجلة الحياة، فيتمرد الأبناء على تلك المعاملة، فهم ليسوا معمل تفريخ للبيض، ولا بد أن يفكر الآباء جيداً في مستقبل الأبناء من جميع النواحي سواء كانت التعليمية أو الاجتماعية أو الاقتصادية، حتى لا يكون أبناء الوطن الواحد متشابهين، وينصب الاهتمام فقط على العملية البيولوجية، وتقدم أحداث العرض في قالب كوميدي فانتازي، دمج فيه المخرج بعض المدارس المسرحية منها الواقعية والتعبيرية والرمزية والتجريدية، وهذا الدمج يناسب كل الأذواق للمتلقي حتى لا يصبح العرض مقدماً لفئة بعينها من المتلقين، فالعرض يخاطب كل الفئات.

كيف حقق المخرج رؤيته؟
كان الديكور عبارة عن متاهة متداخلة الخيوط، وتنتهي بسجن معلق في عمق المسرح به خطوط تجريدية، معلق عليه بعض الوجوه المتشابهة، وكأنها تخرج من هذا السجن، ويعبر ذلك على أن المجتمع يعيش في حالة إستاتيكية متعددة ومتشابهة، كما تم استخدام بعض الإكسسوار التي تؤكد على الحالة الدرامية مثل الدخول بست لفات بعد حوار أن الزوجة تلد، تشكل ست بيضات للتعبير عن أن الأطفال المولودة ليسوا إلا بيضاً لا علاقة له بالإنسان والفكر والعقل.
استخدم المخرج إضاءة كاملة للمسرح حيث أن الأحداث تدور في أماكن عادية كالمنزل أو المستشفى، وأحياناً كان يستخدم البؤر الضوئية ليركز على الحدث الدرامي وإظهار تعبيرات الممثلين.
والملابس عادية من عصرنا الحالي تعبر عن الطبقة البرجوازية.
أما الموسيقى فهي معدة ومناسبة للعبث أو اللامعقول وقد أضاف أغنية مؤلفة للعرض كلماتها (وأنا مالي أتجوز ليه.. أنا مالي أتقيد ليه) وتمت صياغة اللحن من موسيقى عالمية من فيلم لشارلي شابلن، ووفق المخرج باستخدامها في التعبير بالحركة، ويدور مضمونها عن رفض الابن الزواج حتى لا يتحمل المسئولية، لكننا نرى انزعاج العائلة ورفضها لذلك وفرض سيطرتها حتى يتم تنفيذ الأوامر، ويتم الزواج لإنجاب الأطفال. 
قام المخرج بتمثيل دور الأب وكذلك تصميم الديكور والإضاءة والموسيقى، وشاركه في التمثيل في باقي الأدوار (مارتن مرقص) الطفل، (مارتين إسحاق) الأم، (أميرة يسري) الجدة، (وجدي يوسف) الجد، (ماجدة ذكي) أم العروسة، (رامي نبيل) والد العروسة، وقام بدور الابن شاباً (ماجد إسكندر)، والعروسة (ميرنا زكريا).


جمال الفيشاوي