علاء قوقة بين الليل والسعادة

علاء قوقة بين الليل والسعادة

العدد 577 صدر بتاريخ 17سبتمبر2018

بداية، يجب أن يعلم الجميع وخصوصا العاملين في المجال التمثيلي، أن كونك ممثلا جيدا لا يعني بالضرورة أنك في كل مرة تؤدي دورا جيدا، لأن الأداء بالدور مرتبط بأشياء كثيرة، منها ما هو أولي ويمكن التحكم به؛ كطبيعة الدور واتساقه مع الحالة العمرية والطبيعية والطريقة المكتوب بها الدور، داخل الإطار الكلي للنص، ثم الإيمان بقدرات القائم على تفعيل النص ليخرج من حيز الكتابة للمشاهدة، وهذه عناصر أولية من الممكن التحكم بها، أولا من حيث القبول أو الرفض للعمل ككل، أو المطالبة بعملية تعديل منطقية لتتواءم الوحدات المكونة للعمل مع بعضها البعض وصولا للغاية، ثم استنتاج كيفية خروج العمل من خلال اكتشاف وجهة نظر المخرج خلال عملية التحريك ومواجهة الشخصيات لبعصها وتفاعلها مع الآخرين، والمطالبة بطريقة أداء معينة، وذلك من خلال التدريبات الأولى التي يمكن من خلالها الاكتشاف، ومن ثم تأتي عملية الرفض أو المضي في القبول أو المطالبة بالتعديلات.
ثم العناصر الثانوية المتغيرة التي لا يمكن التحكم بها في المجمل، فلو قدر للممثل أن يتحكم في حالته النفسية والمزاجية اللازمة للدور، فهو لا يمكنه التحكم في مزاجات الآخرين خاصة الممثلين المشاركين معه، الذين لهم دور كبير عن طريق أدائهم في التحكم بمستوى الأداء للممثل المقابل، بحيث تخرج العملية كمعزوفة واحدة، وفي المسرح من الممكن أن يكون النشاز بالإجادة كما هو في الرداءة، خاصة في الأداء التمثيلي، بمعنى أن يقلّ ممثل عن زميله بطريقة زائدة، أو يعلو، ناهيك بالتحمكات لعملية منابع الصوت وإمكانية تغيرها من ليلة عرض لأخرى، كذا الإضاءة، حتى لو كانت موضوعة مسبقا عن طريق الحاسب، ولكن الممثلين لا يتحركون بطريقة الحواسيب، هؤلاء الذين من الأصل وضعت المناطق الإيضائية من أجلهم، بالإضافة لحالة الجمهور نفسه، وهي حالة متغيرة من ليلة عرض لأخرى.
وطبيعي أن يقوم الآخرون بإضافة البعض من العوامل الأولية أو المتغيرة، ولكن المهم أننا اتفقنا على المبدأ، في أن كونك ممثلا جيدا في العموم، لا يتبع بالضرورة أن تؤدي أدوارا جيدة في العموم، لأن الأدوار الجيدة لها شروط واجبة؛ منها أن يكون الممثل المؤدي لها على قدر جودة الدور.
ولعل أكبر مثال على ما أقوله هو أداء علاء قوقة كممثل في عرضين مسرحيين شاهدتهما له في نحو أسبوع واحدا بعد الآخر، وبداية لا يمكن أن أشكك في قدرات علاء كممثل موهوب ومطبوع، وقد كنت من المعاصرين لبداياته التمثيلية الرائعة بأقاليم مصر، من قبل أن يلتحق كطالب بالمعهد العالي للفنون المسرحية، والآن وهو الأستاذ لمادة التمثيل لهذا المعهد، وهو بالفعل وضع في محله، ولكن عليه أن يدرك أن الأستاذية لا تتوقف فقط عند قاعات الدرس، بل إن أثرها الأكبر يتمثل فيما يقبله من أدوار، وخصوصا المسرحية وطريقة أدائه لها، المحكومة سلفا بالعوامل التي أشرنا إليها من قبل.
العرض الأول كان “حدث في بلاد السعادة”، والحقيقة أن خيبة الأمل كانت مركبة في هذا العرض، ولكن بما أن الحديث عن أداء قوقة، فالحقيقة كان أداء باهتا؛ لا يمكن أن يرقى لموهبته وإمكاناته، أما العرض الثاني فكان “مسافر ليل” وهنا شاهدنا قوقة بحجمه الطبيعي، وأدائه المتمكن، بل إن بعضا من لمحات إبداعية أضيفت عن طريق أدائه وقدمت تأكيدات على أبعاد لتفسيرات نص صلاح عبد الصبور، ربما غفل عنها المفسرون لتكرارية نمط الأداء للدور.
فما الذي كان في الدورين؟ ومن ثم تحكم في الأداء بما كان له من تباين كبير؟
أعتقد أن سطحية الدور الأول/ الوزير المستبد الطامع، ونمطيته التي تشابهت كثيرا في نصوص عدة دون أي فارق جوهري يذكر، فالشخصية تدخل دون تاريخ أو سمات شخصية خاصة بها سوى هذا الاستبداد المتواتر دون أي سبب، كما أن طريقة كتابة الدور لم تسمح أبدا بإبراز أي شيء، وأعتقد أنه لو كان المخرج قد تعامل مع علاء قوقة كتعامل الراحل أحمد العدل (واحد من رواد المسرح المرتجل بدلتا مصر، وهو أيضا والد المخرج الراحل سمير العدل) مع ممثليه، وقال لعلاء اذهب وأدِ دور الوزير المستبد الذي يتحكم في كل شيء ويسيطر على كل الأوضاع في نهاية الأمر؛ لربما بل أكيد كان قوقة بحكم خبرته ومعرفته سيصوغ الدور بشكل أكثر منطقية وإمتاعا، ربما كان سيبحث عن سبب وجوده هو ومن معه ويحاول أن يخبرنا به، ومن ثم أيضا أسباب جبروته وقوته، خصوصا أن الوضع لم يسمح إنتاجيا فيما يبدو أن يظهر الكثير من الجنود تحت إمرته؛ أو يعدد بشيء لا يريد الآخرون كشفه مثلا.. إلخ.
على الجانب الآخر، كان دور عامل التذاكر في “مسافر ليل”، ولسنا هنا بصدد الحديث عن عبد الصبور ومسرحه ولكن بلا شك أي مهتم بالمسرح سيدرك قيمة هذا الدور، من حيث تركيبته النفسية والعصبية وعمليات التنامي داخله وتأرجح الحالة الإنسانية صعودا وهبوطا بشكل عكسي مع عملية التسلط والقهر، مع عدم إغفال أنه ربما كان هذا التأرجح وجها من أوجه الوسائل للتمادي أكثر في الغي.
بل إنني لا أبالغ لو قلت إن قوقة قدم أداء أكثر قيمة من سابقيه، فهو هنا لم يركز على تأريخ عمليات التسلط والقهر الممتدة زمنيا من الإسكندر وصولا لعشري السترة، بل أدرك فحوى الجملة وفسر إمكاناتها بشكل كبير، وبناء عليه فقد أضاف أن السلطة نفسها ورجالها بينهم بعض التشاحن والحسد وسعى بعضهم لنيل مكانة من هو أعلى مرتبة، ولكن دون انشقاق، فهم أمام العامة سواء أصغرهم كأكبرهم يديرون أمورا متفق عليها مسبقا؛ أو مملاة عليهم، ولكنهم يدركون أن تفوقهم يكمن في السير معا وتنفيذ تلك السياسة، وكان هذا واضحا في تعامله مع شخصية عامل التذاكر الأول الذي يتحدث عن رؤسائه ويعدد ما يحصلون عليه ويستمتعون به على العكس منه.
كما أن قوقة ركز جيدا في إيصال أن السلطة حتى تبرز قوتها أو تفعل ما يعن لها، لا تنظر للمصلحة العامة لو شكلا، وتمثل في تعامل عامل التذاكر حينما يخبر الراكب أنه أحيانا يشق المقعد بمطواته ليبحث عن هارب من دفع ثمن التذكرة!! إدراكه التام بهذا أوصل للجمهور المعني المتمثل في أن ثمن التذكرة لا يساوي قيمة المقعد المشقوق؛ ناهيك بالقسوة في التعامل، وهنا يأتي سؤال للمخرج ولعلاء: هل كان من الأجدى أن تتم عملية الشق هذه فعليا؟ أم الاكتفاء بالإخبار كان أجدى؟
ونتيجة حسه هذا وأن يؤدي شخصية من لحم ودم، لا مجرد شخصية دالة على معنى، فهو كما قلت تعامل مع أن الدور يحوى عدة شخصيات كل منها له سمتها وطريقتها وإدراكها وتعاملها، لذا كان من الطبيعي أن تخرج منه بعض اللمحات الكوميدية المتعلقة بالفعل الإنساني دون افتعال؛ ولكن في اتساق مع الحالة، بشكل يجعلك تخرج متسائلا كيف لم يفكر السابقون في هذا الأمر؟
ثم نأتي لطبيعة وضع الممثل أو المؤدي ومكانه على المسرح وتعامله مع الآخرين، في العرض الأول الذي كان على خشبة مسرح السلام على اتساعها، وفي نفس الوقت قلة عدد الأفراد الموجودين على مستوى التمثيل والشخصيات، وعدم سعي المخرج لتقليص دور المساحة التمثيلية، بل فعل العكس واستعان بالمقدمة الشاسعة كثيرا، ونتيجة القلة هذه ربما لجأ لوضع الشخصيات صفا لتشغل أكبر حيز ممكن أمام عين المشاهد، ونتيجة هذا كان معظم أداء الممثلين ومنهم قوقة بالطبع من الواضع واقفا أمام الجمهور حتى وإن كان حديثه مع آخر بجانبه، ولهذا انعدمت بشكل كبير عملية التفاعل بين الشخصيات وبعضها، وأصبح الكل يقول كلماته دون التفات لنبرة الآخر أو تعبير وجه أو طريقة أدائه، وأصبح هذا ملمحا عاما أصاب الكل وتركز الأمر في الإخبار تقريبا؛ بدون تفاعل أو شعور أو رغبة.
في العرض الثاني، ومع قلة عدد ممثليه عن العرض الأول، ومع أن المخرج اختار أن يصنع عربة قطار طبيعية ربما؛ ليدور بها العرض، ولسنا هنا بصدد تقييم هذا الشكل، وهل اتفق مع الملمح العام الذي كان يريده عبد الصبور أم إضافة له أو نكوصا عنه.
ولكن هذا التعامل جعل منطقة التمثيل أو الحدث هو منتصف العربة؛ مع وجود الجمهور في الطرفين، بما أوجب أن تكون الحركة أو وقوف الممثلين هو الوضع الجانبي حتى يستطيع كل من الطرفين الرؤية للشخصية، وطبيعي أن هذا الوصع قد منح الممثلين خاصة عامل التذاكر والراكب الفرصة في أن تكون المواجهة بينهما هي الصورة العامة للحدث، وكان من طبيعة هذه المواجهة اكتشاف كل طرف لكل خلجة من الآخر والتعامل معها برد الفعل، الذي يكون في حد ذاته فعلا جديدا بالنسبة للطرف الآخر، فيكون الرد بعملية رد فعل، تكتسب الجدة من الآخر.. إلخ، وهكذا دواليك تجد نفسك أمام دائرة كبيرة وجيدة من الشعور الإنساني والتعامل معه وطرائقه المختلفة، وهذا جاء لطبيعة تلك المواجهة فكل شخصية تتخذ نبرتها وإيماءاتها بفعل مركب ناتج عن رد فعلها تجاه الشخصية الأخرى؛ وما تريد أن تصل إليه معها؛ أو دفعها للسير معها في اتجاه معين وتحييد أو تقليل عملية المقاومة من جانبها، وطبيعي أن دور عامل التذاكر كان الأكثر ثراء بهذه المتقلبات والرغبات في عملية محاولة تطبيع ما يريد أن يصل إليه قهرا، ونتيجة هذا التفاعل أو التصارع كان الجمهور الموجود، وأنا منهم، في لحظات تشوق كثيرة لرؤية ما سيحدث مع أنهم كلهم تقريبا من العارفين بالنص نتيجة تكراره حتى دون قراءته، وذلك لأن الأداء العام يقدم مفاهيم جديدة بأذهان البعض ويطرح بعضا من أسئلة جديدة أيضا، وهنا لا يمكن أن نغفل اسم حمدي عباس/ الراكب فقد كان أداؤه جيدا، ولن نبالغ أنه ساعد في تقديم الفرصة لقوقة لكي يبدع؛ نتيجة إحساسه وأدائه الجيد، كما أن اختياره كان موفقا من جانب المخرج خاصة في عملية التباين الجسماني بين الشخصيتين إضافة لموهبته الخاصة.
وإذا كان عرض “مسافر ليل” يقدم في الثامنة مساء وعرض “حدث في بلاد السعادة” يقدم في التاسعة والنصف؛ أي أن قوقة ما أن يفرغ من “مسافر ليل” بالأوبرا يهرع لمسرح السلام ليكون في الموعد، فهل كان لهذا الأمر دور في خروج الأداء بالعرض الثاني بهذا الشكل نتيجة الهرولة، وعدم وجود الوقت الكافي للخروج من شخصية عامل التذاكر والدخول في شخصية الوزير، إضافة للإرهاق الجسماني؟
أعتقد أن الأمر ليس بهذه الدرجة مع ممثل كعلاء قوقة، كما أن المسافة تبدو متقاربة، بالإضافة لأن شخصية الوزير كما هي مكتوبة ربما لم تجبره على شيء، وفي نفس الأمر لا يمكننا أن نمحو الأثر كلية.
ربما نكون بهذه المقارنة السريعة قد أوضحنا أن الممثل الجيد حتى يؤدي دورا جيدا، لا يتوقف الأمر عليه فقط، بل على عوامل كثيرة، وفي سبيل المحافظة على الجودة والموهبة التي يتمتع بها الممثل يجب عليه أن يناقش في بعض الأحيان ويرفض في أحيان أخرى.


مجدى الحمزاوى

mr.magdyelhamzawy@gmail.com‏