مفهوم الحرية في مونودراما «هارون»

 مفهوم الحرية في مونودراما «هارون»

العدد 832 صدر بتاريخ 7أغسطس2023

يناقش الكاتب المسرحي محمد محمد مستجاب في مونودراما «هارون» الصادرة حديثًا عن هيئة الكتاب في كتاب «أحلام منتصف النهار» ومسرحيات أخرى، مسألة الحرية ومفهومها وصورها. جاءت المونودراما في خمس لوحات، قضية الحرية من منظور فردي، كيف يرى كل شخص الحرية؟ هل هي المعنى المجرد الذي ينطق به دائما هارون بحثًا عن الحرية؟ أم هي مفهوم ضيق يبحث فيه كل شخص عن حريته في مجتمع لا يضع اعتبارًا لها. جاءت شخصية هارون الشاب الصعيدي الذي يعمل مراكبيًا على مركب يعبر به ترعة الابراهيمية ذهابًا وإيابًا. يعبر هارون بركاب معروفين وغير معروفين وتمر به حكايات هؤلاء العابرين ولا يندمج معهم تمامًا، إذ ليس لديه فضول في التدخل لكن بعض الحكايات تتسرب إليه طوعًا. يمثل المركب بالنسبة له الوطن بكل ما تعنيه الكلمة أنساق ورؤى، إذ يعيش فيه حياة كاملة ويعتبر أن أي شخص يضع قدمه فيه بدون رغبة منه يعتبر دخيلا.
تمثل شخصية هارون المواطن المستكين الذي لا يرغب في التدخل في شئون الآخرين وبرغم ذلك يتطوع معظمهم لقضاء مصالحه ولا يبرح مركبه إلا للذهاب لساحة التحطيب، تلك الهواية التي تستهويه وتجعله يخرج إليها بعد العصر لينازل الآخرين ويتغلب عليهم. يمثل التحطيب الخروج عن المألوف الذي يقوده إلى الخروج عن العزلة التي فرضها على نفسه من أجل حياة هادئة دون حدوث مشكلة ما بينه وبين الآخرين، كما تمثل تدريبًا على شجار محتمل ربما يخوضه في يوم من الأيام. يتحدث هارون عن الحرية بعد أن يفرغ من اشتراكه في التحطيب إذ يفجر مسألة قتل امرأة في قاربه مما جعله يتأزم إذ لم يكن قاربه الذي يعتبر موطنه مناسبا لارتكاب جريمة ما.
إن أصـل الـكـلـمة اللاتـيـنـيـة Monodrama تنقسم إلى كلمتين الأولى MONO أي الواحد، وDrama وتعني «الفعل» وهي كلمة تعني «مسرحية الممثل الواحد» أو عرض الشخص الواحد، وإن كانت بداية مسرح المونودراما قد وجدت من خلال بدايات الحركة المسرحية الأولى التي ظهرت في اليونان على يد ثيسبيس Thespis الذي يعد أول ممثل معروف في التاريخ.
 تمتلك شخصية هارون قدرات خاصة من خلال تعبيراته بلغته البسيطة التي ترتكز على معنى الحرية بمفهومها الأشمل كما تتميز لغته عمقها الذي يعكس دلالات متعددة، يعتبر أيضا المحرك الوحيد للحدث الدرامي وقاده للنمو والتطور برغم وجود بعض الأصوات المساهمة في الحدث والسرد. لا يشعر المتلقي بالملل بسبب وجود شخص واحد يتحدث لأنه كان يقوم بالفعل بالحركة سواء على القارب أو خارجه وتنوع الأداء وحالاته النفسية المتغيرة والمتقلبة فضلا عن تجسيده لشخصيات غائبة استحضرها وتفاعل معها فخلق الدرامية التي تعتبر العنصر المهم في بناء الشخصية المونودرامية. تتسم مونودراما «هارون» بالعمق واتكاءها على دلالات تحملها اللغة المعبرة التي تتسم بالدينامية فكانت الوعاء الذي يحمل الرسالة المونودرامية التي يستطيع الممثل توصيلها بالشكل الصحيح الذي يؤكد دلالات وغايتها.
 لم تفقد مونودراما «هارون» الوهج الخاص الذي يميز المسرح وهو التفاعل لخلق الحالة الدرامية لأنها تعتمد على ممثل واحد يقوم بالأداء إذ أنه حتما سيسقط في نمطية الأداء الفردي الذي سيتحيز لدوره دون بقية الأدوار المتخيلة. لكن في «هارون» جاءت الشخصية المونودرامية ثرية وتتميز بتنويعات في الأداء والانفعالات التي تخلق الدرامية المنتظرة، استطاعت الشخصية المونودرامية في تطوير الحدث ونموه وصولا إلى الذروة مما مكنها من تطوير ذاتها، فضلا عن تفاعلها مع الشخصيات المتخيلة والتي ساعدت في نمو الصراع النفسي من ناحية والصراع من قوى أخرى مثلها الجربان وابنه، إذ أنه بمجرد أن نجح في التغلب على الصراع النفسي نجح أيضا في التغلب على الجربان وابنه، لم تمثل الثنائية في إفتقار المونودراما إلى الدرامية بسبب ثراء الشخصية المونودرامية وزخمها. لم تكن الشخصية هارون بمنأى عن مجتمعه أو محيطه بل كات قريبا جدا من قضاياه وأزماته.
استقل اثنان من ابناء الجربان مركب هارون حاملين جثة امرأة وفي وسط الترعة قاما بإلقاءها في الماء على مرأى من الشيخ الذي تصادف وجوده في تلك الأثناء. تشاجر هارون معهما وكأنه في ساحة التحطيب محاولا منعهما من القاء الجثة في الترعة لكنهما تغلبا عليه، كما ساهم بشكل غير مباشر في نقل ابناء الجربان بعد أن قتلا احمد ابو دياب في مرة سابقة. قام ابنا الجربان بانتهاك خصوصيته واقتحام وطنه مما جعله يأخذ المسألة مأخذ شخصي ودفعه للأخذ بثأر المقتولين. استطاع ابناء الجربان من الاستعانة بشهود الزور ليشهدوا بأنهم كانوا موجودين معهم ساعة ارتكاب الجريمة في سامرهم وقال آخرون بأنهك كانوا نائمين، ساهم المجتمع كله في المؤامرة إذ أنكر الشيخ رؤيته لهما أثناء التخلص من الجثة. ندد هارون بالمجتمع المتخاذل الذي يعرف حقيقة ابناء الجربان وإجرامهم ووصفهم بالجبناء لدرجة أنه كان يراهم في الجمهور وهو في الفضاء المسرحي. يوجه حديثه للمجتمع الذي يسكت عن قول الحق في وجه الإجرام، فتمتد كلماته النارية لكل متخاذل يخشى أن يواجه التعنت والطغيان. إنه يبحث عن مجتمع مسالم كمجتمعه الذي يعيش فيه، ولم تكن العزلة في مجتمعه الصغير كفيلة بتحقيق السلام لنفسه إذ انخرط في المجتمع الكبير وطالته نيرانه، محاولا تحقيق العدل بنفسه. 
يناقش هارون مسألة الخوف الذي ينتاب الآخرين في وجود عناصر تهدد أمن مجتمعهم وسلامه، الخوف الذي يقطع أواصر المجتمع ويهتك نسيجه. وصل إلى نتيجة لم يكن يرغب في بلوغها في الوقت الذي أكد بأنه رأى جريمة آل الجربان وهي أنه يقف بمفرده في وجه الطغيان. تمثل شخصية هارون البطل الذي يخرج من صفوف الجبناء ليحقق العدالة والاقتصاص من المجرمين. استعان مستجاب بالمعادل الموضوعي حينما ظن هارون بأنه لا يرى قاربه الذي كان يعيش فيه فجعله يتأزم. إن عدم رؤية القارب تمثل اختفاء الوطن بالنسبة له. ظل يبحث عنه في وجود وجوه خائفة برغم أنها تبدي سعادة مخنوقة، ثم ناجاه وتفجرت لديه العاطفة المكبوتة. سُلبت حريته باختفاء قاربه وعليه استعادته كي يستعيد حريته.
سألت عنك كل القوارب التي تمر هادئة على صفحة تلك المياه ، سألت عنك جميع الكائنات (يصرخ( لماذا لم استطع الحصول عليك؟ لماذا لم أجدك؟ لقد بحثت عنك على جميع الشواطيء وفي جميع المواني! لماذا؟ لماذا؟ (بهدوء) أنا لست حرا.. أنا لست حرا..
«المعادل الموضوعي» Objective correlative هو الطريقة الوحيدة للتعبير عن العاطفة في صورة فنية، أي العثور على سلسلة من الأحداث والمواقف تكون هي الصيغة الفنية التي توضع فيها تلك العاطفة. وهو أحد المصطلحات النقدية الحديثة، الذي قدمه الشاعر ت. س. إليوت، أحد أبرز رواد مدرسة النقد الجديد الأنجلوـ أمريكية، في نقده عام 1919 لمسرحية «هاملت» لشكسبير. بمعنى آخر كيفية تحويل العاطفة إلى فن، فالأديب يبني فكرته الأساسية في صياغة قصيدته على انفعال وإحساس، ولكي ينقل هذا الإحساس إلى المتلقي، يضع الأحداث والمواقف الفنية التي تشكل وعاء له، فتنقله للمتلقي من خلال العمل دون أن يصرح به بشكل مباشر، وهو أمر ينسجم بشكل كبير مع البناء الروائي والمسرحي. جاء استخدام مستجاب للمعادل الموضوعي وهو اختفاء قاربه ليؤكد على اختفاء الحرية أو انتهاكها وعليه أن يستعيدها ومن ثم يستعيده فيراه. ساهمت تلك التقنية في أن يتخذ هارون موقف التحدي والفعل الدرامي لمواجهة الاجرام.
يستعين مستجاب بصيغة المعادل الموضوعي ليكسب المونودراما انسجاما فنيا فيستطيع أن ينقل الانفعال والإحساس وتوصيل فكرته بشكل درامي يتسق مع الفكرة الرئيسية كما يساهم في البناء الدرامي بشكل جمالي، كما تمثل الحالة النفسية للشخصية المونودرامية حتى تنسجم مع الفكرة برغم وجود صراخ وانفعالات إلا أن الحدث المسرحي ينمو ويتصاعد ويصل إلى الذروة.  
هيا صلوا معي صلاة الحرية.. صلوا معي صلاة الحرية. أنكم لا تحفظون آياتها..سأمكم. سوف أقول لكم أسافارها.. تراتيلها.. طقوسها. (يصرخ) الجميع يتطهرون.. ان العبادة عمل طيب.. ولكن الحرية أطيب. لو لم يكن للبشر ثروة غير الخوف.. فأنا أعرف أن ثروة الحرية أكثر بهاءً ومجدا.. الحرية التي على أبوابها يكتب لكم الخلود.
يتأزم هارون في اللوحة الثالثة حينما سمع ان ابناء الجربان يحتفلون لبراءتهم من دم القتيلة فيتنامي لديه الغضب ويعلن في الفضاء المسرحي أن الجميع مشتركون في المؤامرة ولن يقف مكتوف الأيدي وهو يرى القتلة في ساحة النجع يغنون ويرقصون وكأن دم القتيلة قد برد. وقف البطل المونودرامي الذي يعول عليه الحدث المسرحي الكثير ليقوم الجواد من كبوته ويستعد للقاء القتلة في ساحتهم. جاءت اللوحة الثالثة ليقضي هارون على خوف الجميع ومن قبله على استكانته وبحثه عن السلام. جاءت اللوحة الرابعة والخامسة ليواجه ابناء الجربان أمام الجميع ويرقص رقصة الثأر، استيقظ المارد بداخله ثم انقض على ابن الجربان الكبير في نوبات ضرب بهراوته، ثم جاء الدور على الجربان نفسه الذي أطلق النار صوب هارون فأصيب مما جعل الناس يحتشدون ويقفون معى هارون وقضوا عليه فتحركت في قلوبهم نزعات الشجاعة. استطاع هارون بأن يحث الناس على الوقوف في وجه الطغيان وقتل فيهم الخوف واستعاد الجميع الحرية التي كان ينادي بها منذ البداية. 
كان البناء الدرامي في مونودراما «هارون» محكما ويطرح تساؤلات عديدة ويحفز المتلقي للإجابة على تلك التساؤلات، كما أنه يتميز بنسيج درامي ساهمت في تشييده حبكة صراع قائمة على ارتباكات الشخصية الذاتية والارتباكات الناجمة عن الأصوات المشتركة في الحوار بسبب وجود قتيلة في مركبة يقوم آخرن بإلقاءها في الترعة فتتفجر لديه أزماته النفسية والاجتماعية، يتسم البناء بالدينامية والتوتر والتفاعلية، إنه بناء قائم الحدث المتصاعد بشكل رأسي استطاع هارون من خلاله تطويره فضلا عن وجود حبكة قوية كان لها تأثير في توجيه الفعل الدرامي واتساقها مع حدث متدفق. جاءت أزمات الشخصية المونودرامية في نمو الشخصية نفسها ونمو الحدث كما خلقت مببرا للصراع المرتقب مع ذاته ومع الجربان وأولاده. يحمل البناء الدرامي العديد من الدلالات والمعادل الموضوعي الذي يتمثل في مركب تعتبر مركب الحياة والتقاء البشر عليها للعبور من شاطي إلى آخر.
جاءت العتبة اللغوية وهي العنوان «هارون» لتدل على وجود شخصية ما تواجه تقف في مواجهة مجتمع جبان، ويشير بشكل مباشر إلى المتن فتقوم بينهما علاقة قوية، ونجد المفارقة في العنوان الذي جاء في كلمة واحدة توحي ببطل يتحلى بالحكمة والقوة والشجاعة. من حيث الجانب التركيبي: تعرب كلمة «هارون» خبرًا مرفوعًا لمبتدأ محذوف تقديره هو.يقول بارت: «إن العناوين عبارة عن أنظمة دلالية سيميولوجية تحمل في طياتها قيمًا أخلاقية واجتماعية وأيديولوجية»، يحمل العنوان دلالة متشعبة إذ أن هارون يحمل في ذاته أهمية غامضة، ويشير أيضا إلى دلالة أن تلك المونودراما وشخصيتها وموضوعها وبنيانها الدرامي هي التي تبرز علاقة ما سوف يتولى المتن الكشف عنها. يعتبر العنوان بالإضافة إلى الغلاف العتبتان الأوليان؛ البوابة الشرعية للمتن بعد أن قامتا بوضع الدلالة التقابلية والتي تمثل الحبكة المسرحية وبرغم ذلك فإن هناك دلالات كثيرة غامضة سوف يتولى المتن أيضا الكشف عنها.
استطاعت الشخصية المونودرامية أن تملأ فضاء المسرحي؛ عنصر المكان وعلاقته المتينة به، مركب يرسو على شاطي ترعة الابراهيمية كون المكان الأساسي، لكنه يملأ أيضا المكان الآخر وهو ساحة القرية التي تدور فيها منافسة التحطيب، لكنه أغفل عنصر الزمن ليكون الحدث مرنا ودون أن يترهل أداؤه. إن المونودراما تتميز بالعمق والرؤية الواسعة من خلال رصدها للحدث في المكان المناسب وبطريقــة تتجاوز سردية الأداء أو ترهله. استطـــــاع محمد محمد مستجاب أن يجسد شخصية مونودرامية تقوم بدور مختلف وحالة درامية يستطيع الدفع بها من خلال تصاعد وتنامي الأحداث وتشابكها، وبين ردود أفعاله إزاء تحاور الأصوات معه في الفضاء المسرحي.
 تتميز مونودراما «هارون» لـ محمد محمد مستجاب ببناء درامي متكامل وخطابها المسرحي الخاص بحرية الفرد في المجتمع وحدودها وغايتها وجمال رؤيتها ودلالات رموزها، فضلا عن لغتها الرصينة باكتمال البناء الدرامي ووضوح القضية ورؤاها الدلالية وعباراتها التي جاءت في شكل جمل قصيرة تناسب التحولات في الشخصية المونودرامية، كما عبرت عن آلامها وأحلامها ونوازعها الشخصية، ولكي يكسب الدراما توهجًا استخدم السرد الذي يصور تنامي الحالة النفسية وانكساراتها ثم تطورها حسب الموقف لتكون الميزان في الفعل الدرامي وأنساقه وتكوين الشخصية الدرامية بطريقة فنية واعية، وحمَّل تلك الصيغة بدلالات آخرى تتوازى مع اكتمال الحدث ووصوله إلى الذروة. تتسم شخصية هارون بالوعي الثبات في ظل ظروف نفسية واجتماعية تقوده إلى الارتباك، يقوم بالفعل الدرامي الذي يؤدي في النهاية إلى قمة الانفعال وتقاطع مع نمو الحدث فاكتملت المونودراما مما جعلها تتسم بالخصوبة والثراء.


ترجمة عبد السلام إبراهيم