سجل المخرج كوثيقة إبداعية أصيلة في المسرح بعد الدرامي (2-2)

سجل المخرج كوثيقة إبداعية أصيلة في المسرح بعد الدرامي (2-2)

العدد 665 صدر بتاريخ 25مايو2020

 يبدو أن بعض الرسوم التي قدمها (فابر) في المراحل التمهيدية للأداء تذكرنا بوصفات الأداء التمثيلي الكلاسيكي والتقليدي في سجل المخرج . وتتضمن هذه الرسوم الأشكال التخطيطية للسينوغرافيا والأزياء و تخطيط الأرضية . واعتمادا علي اللحظة التي تقدم فيها هذه الرسومات أثناء عملية التدريبات، فإنها ليست رسوما مفصلة أو أقل تفصلا . ورغم ذلك فان هذه الرسوم ليست نموذجية .  فإذا رجعنا خطوة إلى الوراء لكي ننظر إلى مجموعة الرسومات التي قدمها (فابر) في سياق العروض المسرحية علي مدار ثلاثين سنة، فسوف يدهشنا تنوع الوظائف واللغات الجمالية التي عمل علي تطويرها . وإذا أخذنا في الاعتبار مجموعة الرسومات المصممة لأداء محدد، فسوف يظهر لنا سجل مخرج مختلف في المسرح بعد الدرامي، والذي لا يقدم لمحة عن الوقت بين التدريبات والعرض الأول، ولا يقدم دليلا إرشاديا يتحكم في إعادة تقديم الأداء علي خشبة المسرح . فهذه الرسومات لا تشير فقد إلى التهجين المذكور آنفا في المفكرة المسرحية في مسرح ما بعد الدراما، بل تتميز بتصميماتها في عملية إبداعية مستمرة ودينامية ومتجاوزة تظهر فيها الأفكار الأساسية. في الواقع،فضلا عن أنها رسوم توضيحية وإرشادات، فإنها توظف داخل حلقة جدلية مستمرة مع التدريبات: تحدد رسومات (فابر) التدريبات، وتتأثر الرسومات بدورها بالتدريبات. وفيما يلي سوف نوضح بعضا من هذه الوظائف المتعددة التي تؤديها هذه الرسومات علي مدار العملية الإبداعية .
 وفي كتاباته عن الرسم، يجادل عالم الرسم والتصميم (ستيفن جارنر Steven Garner) بأن الرسم يدعم الإدراكية ولاسيما الأفكار الإبداعية والمبتكرة . وبالمثل، يصف (فابر) رسوماته بأنها تفكير أثناء الرسم والرسم أثناء التفكير. ويستمر قائلا “الرسم هو شكل للرقص بالمعصمين مع نتائج غير متوقعة دائما “. والمثال الجيد لكيفية توظيف كل رسم باعتباره صورة للفكر، تفكير متشابك ورسم، اذ يتضح الإدراكي والبدني في الخطوط التمهيدية في عرض “عندما يكون البطل هو الدراما” عام 2004. ففي هذا العرض يستكشف حدود نوع الجنس والنشاط الجنسي بابتكار نموذج خنثوي يغير هويته باستمرار . وقد تم اكتشاف هذا الوجه المزدوج لنوع الجنس للمرة الأولى في الرسومات التي تتحد فيها الرموز الواضحة للذكر والأنثى علي صفحة الورق . وفضلا عن كون الرسم تصميم لإعداد خشبة المسرح، فقد كان طريقة للبحث في كيفية السعي الي ابتكار مفهوم خنثوي وأداء متدفق في أسلوب الرقص .
 والتصنيف المهم لرسوماته داخل أعماله هو الارتجال التخطيطي. فخلال أسابيع التدريبات الأولى، يعطي (فابر) “لمحاربي الجمال “ (وهو الاسم الذي يحب أن يطلقه علي الممثلين) المئات من مهام الارتجال التي تهدف إلى تطوير الموضوعات المحتملة في المسرحية الجديدة . ويتم تنقية الأفكار الخاصة بهذه المهام من الصور التي تظهر في الرسم . وبينما يقوم بعمل الرسوم خارج مكان التدريبات (في الليل منفردا داخل الأستوديو أو في البيت)، فانه يمرر هذا البحث الأولي إلى الممثلين من خلال الإرشادات التي تظهر في هذا الرسم التخيلي . فالرسوم بالنسبة ل(فابر) مادة بلا حدود، تفيض بالتخيل، والأفكار والمشروعات غير المتحققة. فمن الناحية المثالية، يصبح الراقصون والممثلون باحثين مشاركين، يكتشفون موادا مماثلة لتلك التي تم استكشافها في الرسومات ولكن من خلال وسائل ووسائط مختلفة، وتحديدا من خلال بدنية وبديهية أجسامهم، من خلال الحركة والصوت والتمارين المتكررة، ما إلى ذلك . وعلي الرغم من أن (فابر) لديه حدس واضح حو النتيجة النهائية، فان هذه العملية تهدف إلى فتح مساحات له وللمؤدين لإيجاد طرق جديدة وغير متوقعة لتحقيق هذا الهدف . إذ يمكن أن ترى العملية الدينامية بين الحدس والارتجال في الرسوم التي قدمها في عرض “ حقوق النشر العالمية  1، 9 universal copywrights 1 et 9- “ عام 1995. فبعض الملاحظات علي الرسومات هي مسودات لارشادت الارتجال النموذجية التي أعطاها للمؤدين. فمثلا، يٌلطخ جسم الممثل بالعسل ثم يٌطلق النحل، ويجب أن تكون جميع الممثلات حوامل في ثلاثة شهور (إلزاميا !)، ويقوم بتوضيح فكرة التوائم السيامي مع “ ألبرت + جاك “ وهما يغذيان بعضهما البعض مما يجعلهما سمينين .
 وبدلا من افتراض أن هذه الرسومات تفتقر الي مكون الأداء (وبالتالي النظر إلى الأداء علي أنه إكمال الرسم)، يجب أن نراها كأعمال فنية مستقلة غير مكتملة ولكن متوائمة مع وسيط آخر (أجسام الممثلين والأداء) . وهذه الرسوم توظف باعتبارها الأثر المسرحي الذي أنتج (وربما مازال ينتج) الحضور غير المستقر للأداء . وكما يشهد الفنان نفسه، أنها أشياء شاعرية تحمل فعلا بدنيا بداخلها .
 تقدم هذه العملية أيضا تفسيرا محتملا للتنوع الكبير في الأساليب (رسوم بالحبر الشيني، رسوم تخطيطية بالرصاص، والحبر  والألوان المائية) ومختلف الأساليب والجماليات المطبقة . يرتبط أسلوب وتقنية وألوان الرسوم بخصوصية كل أداء مستقل . فرسومات ثلاثيته الأولي (1980 - 1984) علي سبيل المثال خشنة جدا وعضوية، بينما الرسومات التي قدمت أثناء عروض “ الساعة الزرقاء Blue Hour” 1990 - 1995) كانت أكثر تشددا وانضباطا شكليا وصياغة جزئية باستخدام أقلام الحبر من نوع “BIC”، وهي تقنية يستخدمها في أعماله الفنية البصرية، ويتجلى ذلك من خلال وسيط الرسم باللون الأزرق في سينوغرافيا وملابس أعماله في الأوبرا والمسرح . وبدراسة الانتقال بين الوسائطي، ونقل هذه الرسومات إلى خشبة المسرح، نستطيع أن نحلل العناصر والسمات التي أخذها في اعتباره أثناء إبداع الأداء وأي هذه العناصر يؤثر في الصور الشكلية للرسومات، مثل الألوان والخطوط، علي الأداء الفعلي .
 علاوة علي ذلك، فان هذا يوضح تعمية الحد الفاصل بين الفنون البصرية والمسرح (وهو الحد الذي يتجاوزه فابر باستمرار) . بينما جزء من عملية التدريبات، وبعض هذه الرسومات هي أعمال فنية بحد ذاتها . ويصبح هذا الحوار مع الفنون الجميلة أكثر وضوحا عندما ننظر إلى  العديد من الإشارات إلى فنانين آخرين موجودين في الرسوم : بداية من “ لوسيو فونتانا “ في رسوم “التزييف كما هو، غير مزيف “ عام 1992، و “ ايف كلاين” في عرض “ عندما يكون الرجل بطلا والمرأة “، وأسلوب التنقيط في عرض “ بحيرة البجع” 2002 . وإدراكا لموقفه من تجاه الفنون الجميلة، غالبا ما يخصص (فابر) الرسوم التي قدمها أثناء عملية البروفة لدخول دوائر التوزيع الأخرى . اذ يتم نشر أو عرض أو حتى بيع العديد من الرسومات المتعلقة بالمسرح لهواة جمع اللوحات أو المتاحف . ومادامت هذه الرسومات هي المعنية، فمن الصعب غالبا، أو حتى من المستحيل، أن نميز بين رسومات ما قبل العرض وما بعده  . فبالنسبة ل (فابر)، الذي هو مخرج مسرحي وفنان بصري، لا يبدو هذا التمييز مهما في رسومات المجالين المتقاطعين.
 بمعنى ما، تشكل كل هذه الرسوم معا، باعتبار أنها آثارا للعملية الإبداعية، إصدارا خاصا حاضرا للسجل التقليدي للمخرج . ورغم ذلك، فإنها لا تنشئ أو تلتقط التمثيل المثالي للعمل، أو تكون الأداء مسبقا، بل إنها معنية أن تلتقط وتنتج طاقة إبداعية معينة تتبلور في صور الأداء الأخرى – وليس فقط العناصر البصرية – وبالتالي، تؤثر بشكل غير مباشر في المتفرجين . ويقول (فابر) “ في الرسومات أضع أعصابي ويداي وطاقاتي، في ا\لأداء تكمن أعصابي في خلايا المؤدين “، مستحضرا الكيفية التي سيتم بها استكشاف الأفكار والخصائص الحركية أيضا المستكشفة في الرسومات والتي يجب نقلها الي أجسام الفنانين من خلال الارتجال والتمرينات البدنية . ولا تهدف هذه الوثائق الأصلية إلى الوصول إلى التمثيل المثالي فهي أيضا أرشيف للأخطاء والمسارات والأفكار الملغاة، والأحلام المستحيلة، الأفكار الجامحة، أو وعود الأداء المسبق .
• لوك برسيفال : المخرج وكاميرا الفيديو
ينشئ (فابر) تغذية استرجاعية بين الرسم والأداء تلعب دورا حاسما في العملية الإبداعية. وفي حالة المخرج البلجيكي (لوك برسيفال) (المولود عام 1957)، وهو مثالنا الثاني، اذ تترك حلقات التغذية الاسترجاعية بين الوسائطية صفحة الورق (التي لا تزال هي الناقل الرئيس للرسومات) لكي تمتد إلى فكرة ملاحظات المخرج التي تتضمن وثائق مصورة بالفيديو . وقد ترك (برسيفال) أثره علي المسرح البلجيكي، أولا مع الفرقة المسرحية التي ساعد علي تأسيسها (تحت اسم “فرقة الاثنين الأزرق Blauwe Maandgnie Compagnie” في الفترة من 1984 - 1998)، ثم بعد ذلك كمخرج فني لدار المسرح في بلدية أنتويرب (في الفترة من 1998 - 2005) . وسوف نشير إلى أحد أشهر مشروعاته أثناء عملة في فرقة الاثنين الأزرق، وتحديدا ثلاثية “ إلى الحرب، في المعركة Ten Oorlog  “ (بين عامي 1993 - 1997)، وهي معالجة لدورات التاريخ في أعمال شكسبير حول “ حروب الورود Wars of Roses”، وشارك (برسيفال) في كتابتها مع الروائي والكاتب المسرحي البلجيكي (توم لانوي Tom Lanoye) . وقد عرضت الأجزاء الثلاثة بشكل منفصل علي مدار عدة سنوات توجت بسلسلة عروض  مارثونية طويلة استمرت لثمان ساعات عندما عٌرض العمل كاملا. وفي عام 2005 ترك بلجيكا لكي يصبح مدير لمسرح  Schaubuhne am  Lehniner Platz  في برلين (قاعة مسرح شوبان في برلين). ومنذ عام 2009 وهو يعمل بوظيفة كبير المخرجين في مسرح تاليا Thalia Theater في هامبورج . ومنذ بداية مشواره الفني، ابتكر (برسيفال) ما سوف يصبح أحد الملامح الرئيسية لفناني المسرح  في “ الموجة الفلمنكية “، وهو تحديدا، تخصيص ربرتوار كلاسيكي من خلال أخذ العينات والمونتاج . ولأنه سئم من المسرح التقليدي المدعوم، فقد حول علاوة علي ذلك تركيزه إلى أسلوب أكثر بدنية في التمثيل، ويحاول تقريب المسرح من بيئة المتفرج والممثل .  
 يستفيد (برسيفال) بشكل كبير من مختلف أشكال التوثيق ووسائط التواصل الاجتماعي خلال عملية إعداد التدريبات . وتلعب السينما والفيديو دورا حاسما لدرجة أن وثائق مثل الرسم بالفيديو هي أمثلة للعملية التي ترتكز علي ملاحظات المخرج الهجينة التي نهتم بها . وبالمقارنة إلى كثير من المخرجين المعاصرين الآخرين من جيله، مثل (ايفو فان هوف Ivo Van Hove) أو (جاي كاسيه Guy Kassiers)، فلم تكن الصور المصورة بالفيديو جزءا من الميزانسين في الأداء النهائي . فلم يهتم (برسيفال) بمزج السينما بعناصر المسرح، التي تظهر غالبا في أعمال الفنانين الآخرين الذين ينتمون الي جيل (برسيفال) . ورغم ذلك، بينما لا يستكشف (برسيفال) تجاور الفيديو مع العناصر المسرحية، إلا أن الجوانب الأساسية للأداء،  ولاسيما أسلوب التمثيل وتصميم الإضاءة،  تتأثر مع ذلك باستخدام الكاميرا أثناء العملية الإبداعية . وباستخدام المصطلحات التي طورتها (ايرينا راجوفسكي  Irena Rajewsky) للتمييز بين التصنيفات الفرعية المختلفة لما بين الوسائطية، لا يهتم (برسيفال) بمزج الوسائط – المزج بين وسيطين علي الأقل من الوسائط المتمايزة، أو أشكال التعبير الوسائطي داخل العمل الواحد – لكنه يهتم بالأحرى بالموائمة بين الوسائط الأخرى والإشارة إليها باعتبارها جزء لا يتجزأ من لغة مسرحه غير الوسيطة . وكما سنوضح، فان تحويل تسجيلات الفيديو في الأداء هو مثال لما تسميه (راجوفسكي) “ نقل الوسائط media transposition” : تحويل منتج وسيط معين أو بنيتها التحية الي وسيط آخر .
 وفي أرشيف فرقة “ الاثنين الأزرق “ هناك العديد من شرائط الفيديو المخزنة في صناديق من الورق المقوى . وبينما يحتوي الأرشيف غالبا علي شريط واحد لأقدم أعمال (برسيفال) (معظم الموجود تسجيلات كاملة للتجارب والعروض الأولية التي أجراها في ضوء عمليات إعادة التدوير المستقبلية)، فقد كانت أعداد الشرائط تزداد باطراد بحلول منتصف التسعينيات عندما بدأ تصوير تدريبات عرض “ إلى الحرب” . نظرا لأن (برسيفال) كان يقوم بتشغيل الكاميرا بنفسه (وفي المراحل اللاحقة من مسيرته الفنية استخدم مصورا مساعدا)، فقد سجل لقطات الفيديو بالطريقة التي يرى بها التدريبات. إذ وظف الكاميرا باعتبارها امتدادا لرؤيته : فقد تركها تتحرك خلال مساحة الأداء، ويقربها من ممثل معين أو مجموعة من الممثلين. وفي بعض الحالات يدخل بنفسه الى مساحة العمل، ويتحرك بين الممثلين أثناء عملية التصوير، ويحذف المنظور الثابت والمنظور الوجهي الذي يميز الرؤية من منظور مقعد المخرج. ومن المثير للاهتمام أنه لم يلتزم بالحدث الرئيس في أي مشهد (مثل الحوار الرئيسي). وفي العديد من مقاطع فيديو التدريبات، تركز الكاميرا علي ممثل واحد أو مجموعة من المؤدين أو بعض الأشياء الموجودة في الخلفية أو علي الإيماءات المنعزلة، التي لا تركز بشكل فعال علي الحدث الدرامي .
 وفي المساء، بعد التدريبات، يقوم (برسيفال) بتقطيع لقطات اليوم، لكي يعرضها علي الممثلين أثناء التدريبات في اليوم التالي . وتخدم عملية تصوير ومونتاج اللقطات في بداية كل تدريب جديد (والتي تسجل ثانية بالفيديو) عدة وظائف يجب مناقشتها لكي نفهم هذا الشكل من أخذ الملاحظات .
 أولا، يستمر منهج عمل (برسيفال) خلال عملية إعادة كتابة نص المصدر أثناء الإعداد والتدريبات علي المسرحية . وعندما يعمل علي نص مثل ثلاثية (إلى الحرب)، كتب إلى المؤلف المشارك (توم لانوي) أن معالجة شكسبير يجب أن تتوافق مع الطريقة القصيرة والسريعة للتصاعد والمونتاج السينمائي . ويتعامل مع نص المصدر بنفس الطريقة التي يمكن أن يتعامل بها مع بكرات الفيلم في غرفة المونتاج : يقوم بتقطيعها بالمقص ثم يعيد تجميعها وفقا للترتيب الذي يفصله . ومن خلال عملية مونتاج النص بجرأة، يسعى (برسيفال) إلى جعله شفافا بقدر الإمكان ويحتفظ فقط بما يراه ضروري . وبذلك يحول النص الدرامي الي ما يشبه السيناريو. وما يتبقي هو برنامج نصي مقطوع يظل عرضة للتغير حتى ليلة الافتتاح – أو حتى بعد ذلك – حيث يؤدي الارتجال أثناء تشغيل الفيديو إلى تغيير النص مرة أخرى . وقد وصف (جيرت أوبسومر Geert Opsomer) النص الناتج بأنه نص مفتوح، وقارن الدراماتورجيا المفتوحة عند (برسيفال) ودراما المؤلف في قاعة الدرس، حيث يتم توجيه المخرج والممثلين، إن جاز التعبير، للتوافق مع قصد المؤلف . وما فعله أثناء موائمة النص الدرامي وتقطيعه بشكل جذري، سمح لكاميرا الفيديو أن تصنع نص الأداء.
 ثانيا، تستخدم هذه اللقطات التي تم تقطيعها كأداة اتصال أثناء توجيه الممثلين . ويستطيع (برسيفال) أن يعرض بهذه التسجيلات ما يريده بالضبط أو ما لا يريده، بدون استعادة التعليمات المنطوقة (وربما الغامضة) التي تعيد صياغة أداء الممثل بدلا من إظهاره . ويجادل بأن اللغة دائما هي الحد الفاصل وغالبا ما تكون هناك ضوضاء تعوق تفسير الرسالة . والكاميرا من الناحية الأخرى، مباشرة وموضوعية في تسجيلاتها . ويجادل (برسيفال) بأن الممثلين الذين يشاهدون تمثيلهم هو أكثر ميلا لتقييم أدائهم نقديا . فاللقطات، علاوة علي ذلك تستخدم باعتبارها نقطة انطلاق للاتصال بين الممثل والمخرج، حسب ترتيب البنية الخارجية، وردود فعل (برسيفال) . ويصفها (زو سفنسن Zoe Svendsen) كالتالي :إذا أصبحت الكاميرا في غرفة التدريبات نوعا من التجسيد البدني لاهتمام المخرج بالتمثيل، فإنها أيضا وسيلة ينظم بها (برسيفال) استجاباته.
 وهذا يصل بنا الي ثالثا، وهي الوظيفة الأكثر عمومية : يعتقد (برسيفال) أن الصورة المصورة سينما لها القوة، ليس فقط للتسجيل بل أيضا لتوليد أسلوب التمثيل الدقيق الذي يسعى اليه، وبالتالي يكون له تأثير علي الأداء الناتج . اذ يتم استحضار بعض خصائص الوسيط السينمائي ومحاكاتها في الأداء المسرحي . وتسمي (ايرينا راجوفسكي) هذه العملية “ إشارة بين وسائطية Intermedial reference وتوضح أن أحد أهم خصائص الإشارة بين الوسائطية هي “ خاصية تكوين الإيهام “ : فعندما يشير الوسيط إلى وسيط آخر، لا يصبح وسيطا آخر، بل يولد ايهام أن يصبح وسيطا أو علي الأقل يدمج بعض خصائصه . بعبارة أخرى، تحتفظ الوسائط بتكاملها الأنطولوجي، اثناء انتاج صيرورتها كوسيط آخر . فعندما يشير (برسيفال) إلى التصوير السينمائي في الأداء، فانه يستثمر بشكل خاص في تقنية اللقطة السينمائية المقربة . فمن بداية مشوار (برسيفال) كمخرج، سعى الي تطوير أسلوب التمثيل الذي يشير إلى كيان سينما بعينها، وتحديدا السينما الأمريكية الكلاسيكية (ولاسيما أفلام الممثلين أصحاب المنهج في التمثيل) التي شاهدها في فترة النمو . فبالنسبة له، تسمح الكاميرا بمواجهة حميمة بين الممثل والمتفرج، وتنتج تأثيرا من المصداقية التي كان يفتقدها المسرح . وقد كانت اللقطة السينمائية المقربة – التي استخدمت بكثرة في هذه الأفلام – مع قدرتها علي تسجيل أدق تعبير للممثل، كانت ترياقا لأساليب التمثيل، وبالتالي تفصل أساليب التمثيل في المسرح . وقد كان لا بد للإشارة إلى السينما أن تخلص خشبة المسرح مما سماه (بانوفسكي) “الشوائب المسرحانية the impurities of theatricality “ .
 يدرك (برسيفال) أن السنوات العديدة من استخدام كاميرا الفيديو في استديو التدريبات تركت بصماتها علي طريقته في العمل مع الممثلين وأسلوب التمثيل الناتج أثناء الأداء. وحتى اليوم، ورغم أنه لم يعد يقوم بتشغيل الكاميرا بنفسه، فانه غالبا ما يوجه ممثليه الي استخدام الفراغ كما لو كان يتعين عليهم  أن يربطوها  بالكاميرا، أو يؤدوا وكأنهم يريدون أن يقدموا للمتفرج لقطة مقربة . ويتعزز تأثير هذا التوجيه بشكل أكبر عندما يرى الممثلين أنفسهم وهم يؤدون في لقطات مقربة في لقطات فيديو (برسيفال) في التدريبات . وهذا يتضمن ثانية تغير في التركيز من اللفظي إلى الجسدي، والتركيز لي لغة الجسم، وليس  باعتبارها إيماءات مبالغ فيها بل تعبيرات متأنية مسيطر عليها من العاطفة أو القصد .
 يظل الحضور الجسدي حاسما بالنسبة ل (برسيفال)، إذ ليس في نيته أبدا التخلص من المسرح والتحول إلى صناعة السينما بدلا من ذلك . ومن المفارقات أن الإشارة إلى السينما في عملية الإبداع، وفي النهاية في الأداء الناتج، يجعله أقرب إلى المحك في عملية صنع المسرح . وقد جادلت (ريجينا شوبر Regina Schober) بشكل مقنع، أنه عندما يتم تحدي حدود الوسيط أثناء أمثلة التبادل بين الوسائطي، فان هذا الوسيط يعكس طبيعته الوسائطية . وعلي غرار (راجوفسكي) تجادل (شوبر) بأن الانتقال بين الوسائطي ليس استنساخا لوسيط آخر، بل هو تمثيل مؤثرات وسائطية معينة في وسيط آخر . فمثل هذا النقل بين الوسائطي يتحدي حدود الوسيط . وفي نفس الوقـت، رغم ذلك، تدخل الخصائص الأنطولوجية في بؤرة التركيز وتسمح بتأمل طبيعتها الوسائطية . وبالمثل لا يحاول (برسيفال) محاكاة السينما، بل انه يحاكي بعض مؤثرات الوسيط السينمائي علي خشبة المسرح، علي سبيل المثال الإحساس بالمصداقية والحميمية والعاطفة الدقيقة المرسومة في الصورة المقربة. وتقوده في نفس الوقت الي شيء وراء الوعد التصويري للسينما إلى شيء مسرحي بشكل أصيل: وهو الإحساس القوي بالحضور الناتج من المؤدين علي خشبة المسرح. انه حضور المؤدي الذي ينجو من أي شكل من أشكال الترجمة.
 ومن خلال عملية التصوير المونتاج، ينشئ (برسيفال) حلقة تغذية استرجاعية بين تسجيلات الفيديو والفعل الحي علي خشبة المسرح . وهذا يوفر للمتخصصين منظورا مميزا حول نشأة عرضه المسرحي : فالصور التليفزيونية التي نشاهدها اليوم عندما نشغل شرائط الفيديو المتعددة الموجودة في الأرشيف تشبه الصور التي رآها المخرج في عدسة الكاميرا التي كانت تجوب ذات يوم استديو التدريبات. فنحن ننظر من خلال عيون المخرج (الوسائطية). وحتى لو كانت صور الفيديو لا تلتقط الأحداث الحية للتدريبات، فإنها آثار مفهرسة للوقت المبذول في الإبداع من خلال التكرار والمحاولة والتجريب والمحاولة مرة الفشل مرة . ويمكننا أن نجادل بأن الأداء المسرحي النهائي، يستخدم كسجل للعملية الإبداعية. ورغم ذلك، فانه لا يوضح لنا سوى ناتج واحد محتمل فقط. فصور الفيديو تتعقب ما يمكن أن يضيع أيضا: وهو المحو الذي لا مفر من أن يحدث إثناء عملية التدريبات.
• الأرشيف والوعد:
يفرض الوصول إلى العملية الإبداعية العديد من التحديات المنهجية، وأكثر من ذلك ان لم تكن العملية الإبداعية متاحة (أو لم تعد متاحة) لأحد مناهج أبحاث المسرح الجينية الرئيسية، وهي الملاحظة المباشرة تحديدا. فالأداء يكون دائما عند نقطة التلاشي، كما قال (هربرت بلو Herbert Blau)، وكذلك أيضا العملية الإبداعية، رغم ذلك. ولعل أحد الطرق الرئيسية التي تعمل بها الباحثون مع الطبيعة المؤقتة للعملية الإبداعية هي دراسة الآثار المكتوبة التي تنتج خلال المراحل التحضيرية المؤدية إلى الأداء المسرحي . وبالتالي فان مذكرات المخرج وسجل المخرج والملاحظات التمهيدية ووثائق العملية الإبداعية المكتوبة هي مصادر ذات قيمة لمؤرخ المسرح، ولاسيما عندما يدرس العروض المسرحية التي لا تترك مثل هذه السجلات . ورغم ذلك، فان التركيز علي هذه الآثار المادية المكتوبة للعملية الإبداعية له حدوده. أولا، باعتبار أن هذه المذكرات مصادر تأريخية، فإنها تصبح جزءا من نفس منطق إعادة البناء التي ميزت الاستخدام التقليدي في المسرح . وعندما نبقى في إطار هذا المنطق، فإننا نجازف بفقدان جانب هام من هذه الوثائق وغيرها من وثائق العملية الإبداعية الأخرى: دمجها في في عملية إبداعية مستمرة ودينامية وانتقالية، حيث يكون ظهور الأفكار هو المفتاح . وقد حاولنا أن نوضح كيف أن ملاحظات المخرج لم تكن أصولا للأداء بل هي بالأحرى آثار مؤشراتية لديناميات الابتكار المركب خلال نشأة المسرحية .  وفي ملاحظات المخرج بعد الدرامي التي درسناها، لم تكن الملاحظات لقطات من لحظات بين التدريبات العامة أو كتيبات الإرشادات التي تتحكم في إعادة التقديم علي خشبة المسرح .
 ولكن تشير أمثلة (برسيفال) و(فابر) إلى صورة نقدية ثانية : هي أن التهجين في العروض المسرحية بعد الدرامية المعاصرة ينعكس في تهجين ملاحظات المخرج نفسها . فسجل المخرج بعد الدرامي هي مذكرات موسعة تذهب الي ما وراء النصية الموازية أو الشرح . ففعالية الرسم في حالة (فابر) والتصوير بالفيديو والمونتاج في حالة (برسيفال) أثناء عملية الإبداع، وما يتبعهما من حلقة التغذية الاسترجاعية الوسيطة، يمكن أن يكون له تأثير حاسم علي لغة العرض البصرية أو بنية السرد أو أسلوب التمثيل . وإذا أخذنا في اعتبارنا لا نصية نص المصدر، والديناميات التحولية المركبة متعددة الطبقات بين نص المصدر والنص المستهدف، وفي النهاية، تأثير الوسائطية المختلفة بشكل جذري للوثيقة العملية علي المنتج النهائي، يمكن أن نصل الي فهم أفضل للأصول الجينية للأداء داخل المسرح بعد الدرامي.
 وفي أمثلة (برسيفال) و (فابر)، تكشف ملاحظات المخرج وجهها الحقيقي، باعتبارها أرشيفا لكل من الماضي والمستقبل. وتقوم هذه الملاحظات المختلطة بتخزين التفاعلات الحقيقية والحيوية (والمركبة) بين مجموعة واسعة من الأفراد والوسائط أثناء عملية التكوين المسرحي . فلم تلتقط الآثار المؤشراتية عملية اتخاذ القرار التي تؤدي إلي الأداء، بل تلتقط أيضا الأخطاء والفشل أو المسارات المرفوضة . وفي نفس الوقت، تتضمن هذه الملاحظات الجينية بقايا ما كان يرد أثناء العملية الإبداعية . فهي تتضمن وعود الأداء : النتائج النهائية المتخيلة التي  ما تحقق الغاية النهائية التي تكون العروض الفعلية جزء من مثيلاتها المتعددة . إذ تلتقط رسوم (فابر) ولقطات فيديو (برسيفال) ما ينبغي أن يكون علية الأداء الفعلي والافتراضي. وسوف يكون المنهج الجيني، المطبق علي المسرح بعد الدرامي المعاصر، مفيدا عندما لا يأخذ في اعتباره  فقط الآثار الفعلية، بل أيضا الفشل والوعد بملاحظات للمخرج .
...........................................................................................
فريدريك لو روي - ايدث كاسيرز - توماس كرومبيز - لوك فان دين درايز
• نشرت هذه المقالة في مجلة Contemprary Theater Review   عام 2016 – العدد 26 المجلد 4 – الصفحات من 468 - 484
• فريدريك لو روي : يعمل أستاذا مساعدا في قسم تاريخ الفن والموسيقي ودراسات المسرج في جامعة جينت ببلجيكا.
• ايدث كاسيرز : تعمل أستاذا للمسرح في جامعة أنتويرب ببلجيكا • توماس كرمبيز : يعمل محاضرا في كلية الفنون الجميلة، ويقوم بتدريس فلسفة فن المسرح .
• لوك فان دين درايز : يعمل أستاذا لدراسات المسرح في جامعة أنتويرب ببلجيكا .


ترجمة أحمد عبد الفتاح