مغامرة رأس المملوك جابر.. تجربة مسرحية جديدة في بني مزار

مغامرة رأس المملوك جابر.. تجربة مسرحية جديدة في بني مزار

العدد 829 صدر بتاريخ 17يوليو2023

على مدار عدَّة أيَّام متَّصلة، أمتعتنا فرقة بني مزار المسرحية، بعرض مسرحي مُهم، وصعب في الوقت نفسه، استطاعت هذه الفرقة بإمكانياتها التمثيلية الجبَّارة وبإخراجها الواعي، تقديم متعة مسرحيَّة للجمهور لمدة 90 دقيقة تقريبا.
ومن خلال مشاهدتي لهذا العرض، مرتين على التوالي، انتابني سؤال مهم، وهو إلى أي مدى أسهمت السينوغرافيا في صنع رؤى العرض المسرحي (مغامرة رأس المملوك جابر) وخلق نوع من التوازن الديناميكي بين عناصره. 
العرض في فناء مدرسي واسع، يتخلله فضاء تاريخي بسيط (قصر الخلافة)، خشبة بها مجسمات خشبية وكرسي وطرابيزة وبعض الستائر وفوانيس للإضاءة، يغلب اللون الصحراوي عليهم، كما يمتزج اللون البني الداكن معه، هذا المكان السينوغرافي بهذه الصورة التركيبية البسيطة، هيَّأ المشاهد نفسيّا وذهنيّا للدخول في العرض، كما تلمس طبيعة الرؤية الإخراجية عن طريق الموازنة بين المرئي والمحكي، وهذا العملية تخلق نوعا من التماهي الشعوري والفكري للمشاهد مع العرض، وتأثيث هذا الفضاء بديكور بسيط وهادئ ينأى عن الصخب، يخلق أجواء من الراحة والألفة بين الجمهور والعرض.
كما جاءت الأزياء في العرض معبرة عن طبيعة الشخصيات ومنتجة للمعنى، ومناسبة لزمان ومكان أحداث المسرحية، فالراوي وعامة شعب بغداد والخليفة والوزير وسلطان العجم والمملوك جابر والجند وزمردة وغيرهم، هذا التنوع الظاهر في أزيائهم يحيل إلى الهوية الطبقية لهذه الشخصيات وأيديولوجيتها.
والإضاءة والتحكم التام بها وتوجيهها على الشخوص التي تحمل مواقف درامية جادة تسهم بشكل كبير في إنتاج المعنى، فظهر الجوع على شعب بغداد والبحث المميت عن رغيف العيش من جراء الصراع السلطوي الدائر بين خليفة بغداد ووزيره.
ولعبت الإضاءة دورها الحيوي بشكل ظاهر في المشهد الأخير عند تسليط الضوء على ملك العجم وهو يتملكه الغرور والشر والغطرسة في السيطرة على بغداد ودهسها بأقدام الخيول، جاءت الإضاءة ملازمة لهذه الشخصية حتى عند حركتها على خشبة المسرح يمينا ويسارا معبرة عن جنون الذات والكبرياء والأنفة والسيطرة التامة على حكام العرب/ بغداد. 
وتأتي الموسيقى لتلعب دورا مهما في إنتاج المعنى، حيث جاءت مناسبة للحظة الدرامية في العرض، هادئة في بداية المسرحية، تجذب بها السامع، وتخلق جوّا من الراحة النفسية، ثم تخللتها بعض الكلمات الشعرية العامية مرة والفصحى مرات، على حسب طبيعة المشهد واستدعائه لنمطية اللغة، لتضفي طابع التأثير والحضور التام بين المنظور والمسموع، وفي المشهد الأخير وهو مشهد (قطع رأس المملوك جابر) جاءت الموسيقى وحملت أصواتا مأساوية، لتؤكد على الهول والفاجعة من نهاية المملوك جابر التراجيدية. 
كما أن التجسيد الإيمائي والحركي للشخصيات وضح التأثيرات الانفعالية للشخصية وصارت جنبا إلى جنب مع الحوار معبرة عن المعنى ومساهمة في إظهاره بصورة واضحة جلية، لحظة الأداء والحضور والتأثير.
فجاء أداء الممثل العبقري علي سيف الذي جسد دور خليفة بغداد دالّا على الشخصية بانفعالاتها، فقد عايش الشخصية وحركاتها وإيماءاتها الجسدية والصوتية، معبرا عن مأساة الحكم واضطرابه في ظل الصراع السلطوي، وتخوفه من العدو الداخلي والخارجي، وظهر ذلك بشكل واضح في نبرة الصوت التي هي انعكاس نفسي للشخصية. 
وجاء أداء الممثل الفارس خفيف الظل ربيع سيد عطية الذي جسد دور الوزير معبرا عن كينونة الشخصية وحركاتها، بل جال هنا وهناك على خشبة المسرح عبر حركات إيحائية تترجم أفكاره وأهدافه لتصل إلى المشاهد بأسهل الطرق، كما تميز (ريعو) بالخروج عن النص عندما تصل الدراما إلى ذروتها، فيخفف من حدة الصراع ويخلق روح الفكاهة للمشاهد.
وجاء أداء الممثل العظيم خلف شحاته الذي جسد دور ملك العجم، مُعبرا عن الشخصية بجوانبها كافة، وظهر ذلك في  صوته الجهور وإيماءات وجه الشريرة. كما جاء أداء الممثل البديع مدحت نظير مُعبرا عن الشخصية في هدوء تام وسلاسة في التعبير وكان دائم الحركة على الخشبة، وجاء أداء الممثلين الشباب والممثلات مُعبرا عن قوة الإبداع، حيث استطاعوا خلق حالة مسرحية متكاملة شكلا ومضمونا، فنرى الراوي عبر حركات مرتجلة يحقق المتعة للجمهور ويحيل إلى خطورة الموقف الدرامي تارة وإلى عبثية الواقع تارة أخرى، والمملوك جابر التي ظهرت عليه انفعالات الشخصية بأشكالها كافة استطاع التعبير عن تراجيديا الموقف وكوميديته في الوقت نفسه عبر أداء تمثيلي رائع وبديع.
 وفي نهاية المسرحية تتوجه الإضاءة على الشخصيات وهي تقول:
على لسان الوزير: (رأسك بمملكة). 
على لسان أخو الخليفة: (القرار الحاسم في اللحظة الحاسمة). 
على لسان الخليفة: (نتخلص من شر ليأتي شر آخر). 
على لسان ملك العجم: (بغداد تدهس تحت أقدام الخيول).
لتحيل إلى بشاعة الموقف وعبث الواقع وسخريته، فالوزير يبرر سبب قطع رأس المملوك جابر، والخليفة تنبَّأ بما سيحدث، وأخو الخليفة يختار التوقيت المناسب للتحرك، وملك العجم يسيطر على بغداد وينتابه التكبر والغرور. 
وعبر الاستعراض المشهدي (جابر والوزير/ جابر وزمردة/ جابر مع ملك العجم/ قطع رأس المملوك جابر) تظهر السينوغرافيا بتفاصيلها كافة لتصنع نوع من هندسة الفضاء المسرحي من خلال التناغم والانسجام بين كل عناصر الخشبة لتعبر عن الحالة الإبداعية المتنوعة للبطل المأساوي.
وعلى كل: إن السينوغرافيا في هذا العرض أصبحت لغة مسرحية منتجة للمعنى، فمن خلالها برزت مأساة جابر الإنسانية، والصراع على السلطة بين الخليفة والوزير، وتعالي ملك العجم على حكام العرب وسيطرته على بغداد.
وفي النهاية نشكر فرقة بني مزار المسرحية على ما قدموه لنا من متعة في الأداء المسرحي وخفَّة في الحركة وتألُّق في التصميم، على مدار ساعة ونصف مليئة بالضحك والبهجة والسرور والسعادة.


أحمد محمود أحمد سعيد