نوح الحمام.. غائب لن يعود

نوح الحمام..  غائب لن يعود

العدد 623 صدر بتاريخ 5أغسطس2019

يظل الإدهاش هو البوابة الملكية التي يعبر من خلالها المخرج إلى أفئدة المتفرجين، وذلك الإدهاش حال تحقيقه يصبح هو التمهيد الحقيقي لغزو العقول والأفئدة وتمرير الأفكار المبتغى بثها للمتلقي بعد أن مهد الإدهاش لها طريقا مختصرا بطبيعة الحال، ولتحقيق الإدهاش طرق وأساليب عدة سواء بأفكار وثيمات متجددة بعيدة عن تلك الأفكار المعلبة التي غزت الكثير من خشبات المسرح أو ألحان موسيقية ذات دلالات درامية مركبة وعميقة تتشابك مع الدراما المطروحة أو استعراضات مبهجة أو بألوان ملابس مبتكرة أو بلغة مبتكرة تضفي عمقا للشخصيات التمثيلية أو بأية وسيلة أخرى يراها صناع العرض المسرحي هي القالب الأكثر ملاءمة للأفكار المبتغى الوصول إليها.
وفي العرض المسرحي “نوح الحمام” الذي يعرض على خشبة مسرح الطليعة تأليف وإخراج (أكرم مصطفى) اتخذ الكاتب/ المخرج صعيد مصر مسرحا لأحداثه المتركزة في ثيمة الانتظار تلك الثيمة التي عولجت في المسرح العالمي والمصري سواء بسواء، ولكن في “نوح الحمام” كان الانتظار له أهداف أخرى فلم يكن المنتظر هو البطل القومي أو القادم لينقذ البشرية من أدارن قد تأتي على الأخضر واليابس أو هو المنتظر القادم ليكشف فسادا استشرى أو ما إلى ذلك، ولكنه شخص من أهل البلدة يدعى (وطني) غاب عن أهله وذويه منذ خمس سنوات، وذلك بعد اتهامه بقضية قتل أخذ على أثرها حكما لإدانته وكان الهرب هو الحل. أما (وطني) وبعد أن استشرت في البلدة شائعة مفادها عودة الغائب إلى بلدته تبارت الشخصيات التي تريد لقياه لأسبابها الشخصية في الاستعداد لذالك اليوم الذي استمرت هذه الشخصيات في الإعداد له منذ خمس سنوات، ولتبدأ بالتالي أحداث المسرحية منذ إطلاق تلك الشائعة بعودة وطني، وتم استعراض الشخصيات المنتظرة للغائب المنتظر (الأم – الزوجة – العشيقة – أخو القتيل/ طالب الثأر – الشرطي) ولأن اللهجة الصعيدية المصرية من أكثر اللهجات العامية المصرية إدهاشا وقربا من المواطن المصري، فقد اكتفى المؤلف/ المخرج بذلك ليحقق الإدهاش.
مع اختيار عنوان جاذب للعرض من مفردات شعبية تحمل الكثير والكثير من المعاني والدلالات الدرامية والافتراضات التي شكلت أفقا كبيرا للمتلقي لانتظار عرض مسرحي يشتبك مع التراث، إلا أن تلك الافتراضات لم تتحقق ولم تشتبك الرؤية الإخراجية مع التراث واكتفت باللهجة الصعيدة وثيمة طلب الثأر وانتظار المنتظر حتى حين.
“نوح الحمام” المسرحية التي تعرض على خشبة مسرح الطليعة حاولت استخدام فراغ خشبة المسرح، فقسمت فراغ التمثيل إلى ثلاث بؤر ضيقة بشكل يحبس ممثليها في بؤرها الضيقة تقريبا مع ملاحظة الثبات شبه الكامل في الميزانسين، وعدم خروج ممثل من بؤرته إلى بؤرة أخرى اللهم إلا العشيقة التي مرت على طالب الثأر مرورا سريعا في طريقها إلى منزل العشيق المنتظر، وعند قراءة البؤر الضيقة تقريبا في انتظار المنتظر نراها يمينا ويسارا وفي الوسط، أما عن اليمين الزوجة المنتظرة زوجها ليؤنس وحشتها ومعها أم الغائب المتماسكة التي تظهر للجميع قوية لا يأتي عليها الزمن، وانضمت إلى تلك البؤرة النسائية جدا عشيقة الغائب التي أكدت أنه وطئها يوم زفافها بموافقتها وكانت أسعد لياليها يوم واقعها وأنها علمت أنه قادم بعد هروب خمس سنوات، وكم هي سعيدة لتروي ظمأ قلبها حال رؤيته، ونلاحظ أن تلك البؤرة عن اليمين لم يطئها رجل وبقيت الثلاث نساء في انتظار الغائب حتى إن أم الغائب روت وحكت كيف كان الغائب مولعا بسيدة قبل ولعه بتلك العشيقة وكيف أتاها حتى انقضى أجلها، وقيل إن عشقه للعشيقة لا لشيء إلا أنها ابنة أخيها وتذكره بالعشيقة الكبرى، ولأن الحب يعلو الفضيلة في عرف تلك المرأة الأم فقد أهدت العشقية زجاجة من العطر يهواها (وطني) الابن الغائب المنتظر علها تبرد نار العشقية حتى حين.
والبؤرة الثانية في منتصف المسرح ضمت شقيق القتيل (محمد) الذي أجهز عليه الغائب (وطني) والذي هجر بيته ساعيا إلى الأخذ بالثأر من قاتل أخيه وما زال الأخ ينتظر الغائب ليجهز عليه ليرتوي قلبه بدم قاتل أخيه، ويظل طالب الثأر يسامر صديقه الأخرس تقريبا الذي يحكي له كيف أن الغائب المنتظر قد سلب روح الكثيرين مع التلويح مرارا أنه أجهز على أربعة في أسيوط فبث الرعب بالضرورة في طالب الثأر الذي حتى وإن بات مرعوبا فعاداته تمنعه من الفرار من ثأره فما زال هو الآخر ينتظر.
وعن اليسار كانت البؤرة الثالثة التي شملت بار (خمارة) يسكر فيها رجل الشرطة الذي ينتظر الغائب هو الآخر، فقد يكون الإمساك به هو السبيل الوحيد للعودة إلى عمله بعد أن فصل من الشرطة، وقد كان رجل الشرطة هو المكلف بإدارة البلدة أمنيا قبل أن يصاب بطلق ناري من الغائب المنتظر الذي نقله بعد إصابته إلى المستشفى ليعالج، وبعد صدور الأوامر من القيادات بضرورة تغيير طريقة التعامل بين الشرطة والمواطنين ارتأت القيادات أن هذا الشرطي تحديدا الذي اتخذ من الخوف حاجزا بينه والمواطنين ليس أهلا للاستمرار في منصبه، فقررت السلطات إنهاء خدمته، ولما علم الشرطي بشائعة عودة الغائب المنتظر قرر انتظاره عله يظفر به وبالعودة لعمله.
هي حكايات منفصلة رويت حكيا ولعبت الإضاءة دورا في الانتقال بين البؤر في محاولة لخلق إيقاع جاذب، مع ملاحظة أن الانتقال بالبؤر كان متوقعا (تقريبا)، فاكتفى صناع العمل بالإدهاش الناتج عن اللهجة العامية الصعيدية، فكانت الدراما هي الغائب مع اجتهادات الممثلين لضبط الإيقاع العام للعرض لتحقيق الرسالة المبتغاة.


محمد النجار

mae_nagar@yahoo.com‏