الفلسفة والدراما الأداء والتفسير والقصدية(2-2)

الفلسفة والدراما الأداء والتفسير والقصدية(2-2)

العدد 573 صدر بتاريخ 20أغسطس2018

هل يمكن أن تكون الأداءات وسائطية:
إذا كان النقاش السابق للدراما باعتبارها أداء صحيحا، عندئذ يستتبع ذلك أن هناك تمييزا تصنيفيا بين الأداء الدرامي وما يسمى الفنون الوسائطية الجماهيرية للسينما والتلفزيون والتصوير المتولد عن الحاسوب. ولكي نرى لماذا هذا كذلك، دعونا بسرعة نراجع مرة أخرى الطريقة التي يصل بها العمل الفني الوسائطي الجماهيري مثل الفيلم السينمائي إلى مشاهديه في مقابل الطريقة التي تصل بها علامة الأداء مثل تجسيد المسرحية جيدة الصنع إلى متلقيها.
في كثير من النواحي المهمة، تكرر قصة كيفية وصول المثال الرمزي للعمل الوسائطي الجماهيري إلى مشاهديه ما قلناه بالفعل عن الطريقة التي ينتقل بها المثال الرمزي لنوع الدراما باعتبارها تكوينا إلى قرائها. مثلما تتيح لي نسخة مسرحية “البعل Baal” إلى النوع الذي أبدعه برتولت بريخت، فإن رمز أداء «اكتشاف نيفرلاند» (عرضها على الشاشة) في دار العرض المجاورة، تتيح لي الوصول إلى نوع فيلم “اكتشاف نيفرلاند”. وإذا تمزقت نسختي من مسرحية «البعل» أو إذا ألغي عرض الفيلم في الظهيرة بسبب تهديد من قنبلة، فلن يعرض الحدث وجود أنواع الفن ذات الصلة للخطر. وقد تكون هذه الأخطاء هي مسألة تدمير للأمثلة الرمزية للأعمال الفنية المعنية، وهي الأعمال الفنية وثيقة الصلة، فيمكنها أن تستمر في الوجود باعتبارها أنواعا.
والأعمال الفنية من النوع الذي يهمنا فورا – السرديات القصصية – هي أنواع؛ بمعنى أنها يمكن أن تتجسد بواسطة عدد كبير بشكل غير محدد من العلامات. وبعكس الرسم والنحت، فإنهما يدعمان تجسيدات لنفس العمل الفني. ويمكن استهلاك العلامات المطابقة لنفس الأعمال الجماهيرية الوسائطية في نفس الوقت في أماكن مختلفة. ومن بين أشياء أخرى، فإن هذا ما يجعل العمل الفني الجماهيري الوسائطي مربحا. إذ يمكنك أن تعرضه – مثل المسلسلات التلفزيونية – في جمع أنحاء العالم في نفس الوقت، وبالتالي تسيطر على جماهير هائلة.
ولكن الدراما أيضا شكل فني متعدد الأمثلة. إذ يمكن أن يكون هناك الكثير من الأداءات الرمزية لمسرحية «القطط» – بالطبع لنفس عرض «القطط» – في أماكن مختلفة وفي نفس الوقت. وقد تكون هناك، مثلا، فرق جوالة. وربما مع الفرق الجوالة الكافية تستطيع أن تصل مسرحية «القطط» إلى جمهور بنفس الحجم في أماكن مختلفة مثلما يفعل عرض “اكتشاف نيفرلاند”. وقد يكون هذا باهظ الثمن، لكنه مستحيل فعلا.
لذا يبدو أن الأعمال الجماهيرية الوسائطية وبعض العروض المسرحية قد تكون على قدم المساواة. وكلا المثالين عملان فنيان نوعيان، وفي بعض الحالات، فإن النوع موضوع السؤال يمكن أن يعرض في نفس الوقت في موقع تلقي مختلفة. وهذا ما حاول مشروع المسرح الفيدرالي «WPA» في عرض «لا يمكن أن يحدث هنا It Can’t Happen Here»، الذي، بعد انسحاب شركة الإنتاج السينمائي، تم افتتاحه في ثماني عشرة مدينة في نفس الوقت. فهل يوحي هذا أن الفن الوسائطي والدراما باعتبارها أداء في نفس القارب بشكل
أنطولوجي؟ أؤكد أنهما ليس في قارب واحد، لأن هناك فروقا دقيقة ومهمة بين تقديم الأعمال الفنية الوسائطية إلى مشاهديها في مقابل الطريقة التي ينتقل بها عمل فني درامي من النوع إلى خشبة المسرح.
على النقيض من الطريقة التي نصل بها من نوع “اكتشاف نيفرلاند” إلى علامة أدائه (عرضه على الشاشة) في أماكن متعددة الليلة مع أداء لعلامة مسرحية «البعل» على مسرح الجامعة المجاور في نفس الوقت. ولتقديم مثال رمزي – أداء/ عرض سينمائي – لعمل “اكتشاف نيفرلاند”، فإنك تحتاج إلى قالب، مثل الفيلم أو المطبوعة، التي هي في ذاتها نوع من «اكتشاف نيفرلاند». وعندما يتم ضبط آلة العرض بالشكل الملائم، فإنك تدير القالب، النسخة في الحركة الآلية. وتقوم بتشغيل المفتاح وبعض العمليات الميكانيكية والإلكترونية التلقائية مما يولد علامة أداء لـ«اكتشاف نيفرلاند».
ولكن هذه ليست الطريقة التي تولد بها علامة أداء لمسرحية “البعل”، ولا حتى، لهذا السبب علامة أداء لعرض “القطط” لإحدى الفرق الجوالة. فهذه الأداءات الحية لا تتولد تلقائيا من قالب. فالمؤدون، بالأحرى، لديهم الإمكانية للوصول إلى نص وربما مجموعة من الإرشادات الإخراجية التي تؤسس، في المقابل، وصفة الإعداد أو خطة الأداء – فضلا عن قالب – والتي يستمر المنفذون في تفسيرها لتقديم مثال رمزي للمسرحية إلى الحياة.
والأداء الحي – سواء لمسرحية «البعل» أو «القطط» – هو نتيجة قصد المنفذين ومعتقداتهم ورغباتهم، وليس مجرد نتيجة لعمليات تلقائية ميكانيكية أو إلكترونية. فعلامات الأداء الحي للمسرحيات مثل “البعل” و”القطط” (وكل تلك الوصفات الأخرى) هي نتيجة، أولا وأخيرا، عمليات ذهنية – أفعال تفسيرية، بينما علامة الأداء لفيلم «اكتشاف نيفرلاند» ليست. بمجرد أن تدور آلة العرض السينمائي - مسألة سلسلة من الأفعال الذهنية، بل مسألة يحكمها قانون علمي، وعمليات مادية. فما يعتقده عامل آلة العرض عن الخيال لا تأثير له على انفتاح عالم قصة شريط السيلولويد لقطة بلقطة.
فما ينشئ عرض الليلة لفيلم “اكتشاف نيفرلاند” هو أداة ميكانيكية تتعلق بقالب كيميائي ثابت ومحدد مسبقا وفقا لإجراءات فنية تقنية معينة وقوانين طبيعية. ولكن ما ينشئ علامة أداء الليلة لمسرحية “القطط” هي عمليات مستمرة من الأحكام حول كيفية تفسير وصفة العرض من جانب الممثلين والراقصين والمغنين والإضاءة.. إلخ.
ولو سألت نفسك لماذا تشاهد ثلاثة شخصيات على يسار الشاشة في عرض الليلة لفيلم “اكتشاف نيفرلاند”، ويجب أن تكون للإجابة علاقة مع البنية المادية للقالب: صور وأوضاع الشخصيات الثلاث ثابتة كيميائيا في القالب. فما تراه في «اكتشاف نيفرلاند» يعتمد بشكل مغاير على البنية المادية للقالب. فهل كانت البنية المادية للقالب مختلفة، بمعنى أن الصورة كان لا بد أن تكون مختلفة. وإذا كان هناك ثلاث شخصيات مطبوعين في القالب، فلن يمكنك أن تشاهد صورتهم. فهل الشخصيات الثلاث – بعكس الحقيقة – كانوا على الجانب الأيمن من الصورة بدلا من الجانب الأيسر، ويمكنك أن تراهم على يمين الشاشة.
ومن الناحية الأخرى، عندما ترى الشخصيات الثلات على خشبة المسرح في عرض «القطط» على اليسار، فإن ذلك لأن الممثلين فسروا وصفة العرض بهذه الطريقة بحيث يعتقدون أنهم يجب أن يكونوا على يسار خشبة المسرح في هذه اللحظة. إن ما نراه على خشبة المسرح، بمعنى آخر، يعتمد بشكل عكسي على معتقدات المؤدين. ببساطة تامة، إن لم يعتقدوا أنهم يجب أن يكونوا على يسار خشبة المسرح، فلن يكونوا هناك، ولهذا السبب نفسه، لن تراهم هناك.
ما تراه على الشاشة إذن يعتمد بشكل معكوس على بنية القالب كما يتم إعداده مبدئيا من خلال سلسلة عمليات فيزيائية غير عادية. فما تراه في الأداء الحي للمسرحية، رغم ذلك، يتولد بواسطة تفسيرات ومعتقدات المؤدين. أما علامة عرض «اكتشاف نيفرلاند» تتولد من خلال إجراءات مادية لا عقلية، العلامة الحية لعرض «القطط» باعتبارها أداء مسرحيا، فإنها تتولد بشكل قصدي، ويتم توسيطها تقريبا لحظة بلحظة بواسطة معتقدات وأحكام المؤدين الذين يسعون إلى تفسير عرض وصفة الأداء. ولنسمي هذا الفرق بين التوليد بواسطة أنساق قصدية (أنساق توسيط تعمل من خلال حالات بدنية حصريا).
وهذا فرق أنطولوجي مهم. وبوضعه في شعار خام – شعار يحتاج إلى المزيد من التنقية – فهو الفرق بين الخصائص الذهنية والخصائص المادية. لأن الأعمال الفنية الوسائطية الجماهيرية هي أنواع أعمال فنية تعتمد على قوالب لإنتاج علامات أداء، فإنها تختلف تصنيفيا عن الأداءات الدرامية التي تعتمد على الحالات القصدية – الأفعال التفسيرية – لكي يتم إظهارها. وهذا دور الحالات القصدية في توليد علامة الأداء الدرامي الذي أعتقد يصور لنا أن نسمي هذه الأحداث أنها حية. لأنه، إذا أدى عرض القطط الزومبي، فلا أعتقد أننا سنكون مرتاحين بأن نسميه أداء حيا ولا أن نسمي الفرقة مسرحا حيا. لأنه على الرغم من أن الزومبي أحياء كما هو مفترض، فليست لديهم أي قصد أو نيات.
ولكن على أية حال، فإن أداء العلامة الوسائطية الجماهيرية هو حصريا تقريبا مسألة مادة في حالة حركة، بينما علامة الأداء الدرامي هي بشكل ثابت قطعة فنية من عمل العقل. أو أن علامات الفن الوسائطي بالنسبة لعلامات الأداء الدرامي هي مثل المادة للعقل. ولذلك، لا يمكن أن تكون علامة الأداء الدرامي كعمل فني في ذاته عملا فنيا وسائطيا.
وأحد أسباب هذا هو أن علامة أداء العمل الفني الجماهيري الوسائطي ليست ذاتها عملا فنيا. تذكر: علامة أداء «اكتشاف نيفرلاند» تظهر بوضع القالب - فصل من الفيلم – في آلية الإسقاط وآلة التشغيل وفقا للروتين المعمول به. ومن الناحية الأخرى، علامة أداء العرض الدرامي هي عمل فني بذاته، لأنها تعتمد على التركيز الذهني الكامل للمؤدين.
وعلامة الأداء الناجحة لعرض «اكتشاف نيفرلاند» – عرض الفيلم على الشاشة أو تشغيل الفيديو أو أسطوانات DVD – لا يسيطر على التقدير الجمالي، لأنه ليس عملا فنيا. فنحن لا نصفق لعامل العرض مثلما نفعل لعزف البيانو في نهاية أداء ناجح. وربما نشكو عندما يحترق الفيلم أثناء عرضه، وربما نطالب برد أموالنا. ولكننا نعتبر هذا مسألة مهارة فنية، وعندئذ يمكن أن نتوقع أنه يسعد الناس عندما لا يحترق الفيلم، ولكنهم لا يفعلون. لأن عرض الفيلم الناجح يعتمد على أداة التشغيل, كما صممت لكي تعرض، ولأن ذلك لا يرتبط بأكثر من الحد الأدنى من الذكاء الآلي، فإدارة القالب في آلة لا يفترض أن يكون إنجازا جماليا. فعامل آلة العرض من الناحية الأخرى ليس فنانا، ناهيك بفنان الأداء (المفسر).
ومن الناحية الأخرى، يتعلق التوصيل الناجح لعلامة الأداء الدرامي بعلامة تفسير لتفسير النوع، وبقدر ما يعتمد ذلك على الفهم الفني والحكم، فهو موضوع ملائم للتذوق الفني. ولهذا السبب فلن تكون علامة أداء الفن الجماهيري الوسائطي موضوعا ملائما للتقييم الفني، بينما تكون علامة الأداء الدرامي ملائمة للتقييم الفني. لأن إرشاد المنفذين هو الذي يستحق الثناء أو اللوم، وليس مجرد مسألة الحركة.
وربما هناك طريقة أخرى أكثر وضوحا لوضع هذه النقطة وهي أن نقول إن الأشكال الفنية الجماهيرية الوسائطية المتعلقة – السينما والتلفزيون بشكل ملحوظ - ليست فنون أداء في إطار الهيكل المطور في هذه الدراسة. وقد يبدو هذا غريبا، لأن كثيرا من الناس الذين يساهمون في صناعة الفيلم هم الذين نعتقد أنهم فنانو الأداء – الممثلون والمخرجون ومهندسو الإضاءة والصوت، ومصممو الديكور والملابس والرقصات ومدربو القتال.. إلخ - ورغم ذلك، من الضروري أن نلاحظ أنه مهما كانت الفعاليات التفسيرية والأداء الذي يساهم به الفنانون في هذه الأعمال الفنية متكاملة بشكل لا ينفصم داخل نوع الفيلم باعتبارها الأجزاء المكملة بطريقة ثابتة دائما في بداية الصياغة الأخيرة للنوع. فلا يتم تعديل التمثيل أو إعادة تفسيره وفقا لمقتضيات المسارح أو الجماهير المختلفة. وبمجرد عمل الموتناج للفيلم ووضعه في العلب، لا توجد فرصة للقصدية، فعلامة أداء النوع سوف تكون متشابهة، رغم أن علامة الأداء في النوع الدرامي مثل مسرحية «البعل» يمكن أن تكون مختلفة جدا، لأنها تفسيرات مختلفة.
وبالنسبة للأشكال الفنية الوسائطية الجماهيرية، سوف يتم تقديم تفسير ثابت للنص في قالب العلامة نفسه. وعندئذ يتم تشغيل القالب آليا، ولا يوجد مزيد من التفسيرات للنص المعنى. وفي هذا السياق، فإن العمل الفني الوسائطي الجماهيري ليس عملا فنيا ذا مستويين، بل ذو مستوى واحد، أشبه بالرواية منه إلى الأداء. ولذلك لأن الأفلام بنقصها الثنائية المطلوبة – سواء كانت سينما أو تلفزيون أو فيديو – فهي ليست أعمال أداء، رغم أن بعض المشاركين فيها قد تدربوا كفناني أداء، فهم مجرد فنيين.
وبلا شك، فإن افتراض أن الأفلام ليست فن أداء لن يروق لأقسام الدراما، أو أقسام السينما. وسوف يفقد رجال الدراما كل أولئك الطلاب الذين يرغبون في دراسة التمثيل لكي يصبحوا نجوم سينما، بينما عشاق السينما سوف يستاءون من فقدان الهيبة التي يخشون أن يعانوا فقدانها، أن يجلسوا مرة أخرى على نفس الطاولة مع الموسيقى والدراما والرقص. ورغم ذلك لا المال ولا الشهرة مهمان كثيرا عندما يأتي الأمر إلى الأنطولوجي. وأنطولوجيا فإن فنون السرد القصصي الوسائطية الجماهيرية مميزة تصنيفيا عن الدراما باعتبارها فن أداء.
وأحد المنظرين الذين يؤيدون عدم ثبات التمييز بين الأعمال الفنية الوسائطية الجماهيرية والأداءات الدرامية، هو فيليب أوسلاندر. فأحد أسباب اعتراض أوسلاندر على التمييز هو أنه يعتقد أنه محفز في الدوائر المعاصرة بتحفيز سياسي زائف. فهو يؤكد مثلا أن تشخيص بيجي فيلان للأداء الحي كصيغة للاختفاء – ساعدت على انتقالها لكي تكون مقاومة سياسيا – تشخيص زائف، فمفهوم فيلان للأداء الحي لا يمكن أن تكون له التداعيات السياسية التي تحددها للأداء الحي حتى لو كان توصيفها للفرق بين الأداء الحي والفن الوسائطي الجماهيري إجباريا (الذي لا يعتقد أوسلاندر أنه كذلك). مع أنني رغم ذلك، أعتقد أن اعتراض أوسلاندر على فيلان وعلى منظري المسرح البارزين، ليس على صواب في الادعاء بألا توجد فروق أنطولوجية جوهرية بين الأعمال الفنية الوسائطية الجماهيرية والأداءات الدرامية الحية.
فبالنسبة لأوسلاندر، يمكن أن توجد علامة أداءات درامية متساوية وظيفيا؛ بمعنى أن علامة أداء عرض ديزني “الجميلة والوحش” في مدينة واحدة، يمكن أن يتساوى وظيفيا مع علامة الأداء النظيرة لها، المجسدة في مدينة أخرى، في نفس الوقت بالضبط. فالممثلون الذي يلعبون دور الأطباق مثلا يمكن أن تكون مصنوعة بنفس الطريقة، ويؤدون نفس السطور، ويرقصون نفس الرقصات.. إلخ. ومن مكان الأوركسترا، يمكننا أن نتخيل، أن الأداءات ستكون غير ملموسة إدراكيا – محتمل أن تكون غير ملموسة مثل عرض نسختين مختلفتين من نفس قالب الفيلم. يقترح أوسلاندر في الواقع أن منتج فيلم “تمارا Tamara” باري ويكسلر هو مثال آخر للامتياز التجاري.
ولكنني متشكك، فالأعمال الفنية الوسائطية مثل الأفلام هي أنواع تحتاج إلى قوالب تولد علامات أداء من خلال العمليات التلقائية للشفافية المادية المطلقة. فهي فقط نتيجة حركة مادة بالتوافق مع القوانين العلمية. فبمجرد تركيز العدسة وقت تشغيل الآلة، فإن الباقي هو طبيعة عمياء تجري في مسارها. ولكن لا يوجد أداء حي ولا حتى عرض الامتياز التجاري «تمارا» كذلك؛ إذ تحتاج علامة الأداءات الدرامية الحية إلى ممثلين وإضاءة.. إلخ، وهم الذين يولدون علامات الأداء اللازمة من خلال عمليات من القرارات المستمرة. فعلامة أداءات «تمارا» ليست عمليات مادية تلقائية، فهي تأمل ذهني بكل ما في الكلمة من معنى.
وحتى لو كان «لكل مستحيل per impossible»، فيلم من إنتاج تمارا، وبدت علامة أداءاته غير متوقعة وكانت مساوية وظيفيا بكل وسيلة، فلا تستتبع ألا توجد فروق أنطولوجية بينهم، لأن هذه التطابقات الوظيفية ليست حجر الأساس أنطولوجيا، بل إنها مزيفة أو تشابهات سطحية بقدر ما تمتلك هذه الظاهرات من مصادر مختلفة جذريا وذات مغزى ميتافيزيقي. هذه التشابهات، بمعنى آخر، عميقة، ولكن هناك فروقا أعمق هنا، تصلنا علامة أداء واحدة عن طريق العقل، وتصل الأخرى عن طريق المادة.
ويحاول أوسلاندر أن يراوغ بهذه الخاتمة بالتأكيد على أن الفرق الذي أضعه بين التوليد بواسطة القالب والتوليد بواسطة التفسير لم يكن حادا بالقدر الكافي؛ إذ يجادل أوسلاندر بأن تفسير الممثلين يمكن أن يكون آليا مثل القالب المادي، مثل نسخة الفيلم أو أسطوانة DVD. ولا أرى سببا ملحا، حتى لو كان يوجد أحد الأسباب المادية، لكي نعتقد أن الخصائص الذهنية قابلة للاختزال تماما إلى خصائص مادية. فالسببية العقلية مختلفة بشكل أنطولوجي عن السببية المادية المطلقة في نواح ذات صلة (بينما أنها أيضا مرتبطة بوضوح بعمليات مادية). وتسليما بهذه الفروق، فإن التمييز بين الأعمال الفنية الوسائطية والأداء الحي يسقط بشكل طبيعي.
قد يعتقد أوسلاندر أن كثيرا من تفسيرات الممثلين في عروض «تمارا» آلية، ولكنها آلية بالتأكيد في ذلك السياق الذي يمكن أن يعني شيئا مثل “غير مستلهم” أو «ليس خياليا»؛ إذ لا يمكن أن يتعلق بصنع قرار أو أحكام المؤدين، لأنهم ليسوا الآلات تتماوج على موائد دون طائل.
كما هو معروف، يضبط الممثلون أداءاتهم لمشاهدين موجودين فعلا، ويفحصون الحالة المزاجية لهذا الزحام ويعيدون تفسير سطورهم بدقة، ويضيفون في هذه الليلة علامة سخرية، ويبدون جادين في الغد، وهذا فرق مهم بين الأفلام والأداء المسرحي الحي، الذي لاحظه والتر بنيامين في مناقشة لإعادة التقديم الآلية.
ففي فيلم “زهرة القاهرة القرمزية The Purple Rose of Cairo” لن يستطيع الممثل في علامة الأداء أن يعدل تناوله لكي يتناسب مع عواطف المتلقين في قاعة العرض، ولكن هذا أمر عادي في علامة الأداءات الدرامية. وحتى عندما يعتمد الممثل على ما يسمى الأسلوب، فضلا عن الإلهام، لكي يدخل في الأداء، فهناك دائما تفسير دقيق لوصفة الإعداد لكي تلائم المناسبة، ولهذا السبب من المنطقي أن نقول إن تمثيل جوني ديب في علامة أداء «اكتشاف نيفرلاند» كان بالأمس أفضل من اليوم، وهذه العبثية تميز الفرق بين علامة أداء فيلم وسائطي في مقابل علامة تجسيد خاصية من الدراما كأداء.
الاستنتاجات:
الدراما ليست شكلا فنيا واحدا: فن التكوين الدرامي وفن الأداء الدرامي، علاوة على ذلك، هو الدراما باعتبارها أداء، رغم ميلها الشديد، في كثير من الاعتبارات، إلى الخيالات الجماهيرية التي تعكسها الأفلام، مختلفة جذريا وتصنيفيا، رغم ذلك. وبالطبع، حتى لو كانت هناك نسخ كاملة من الأفلام لعلامة مثال العمل الفني الدرامي، الذي كان في ظروف معينة، غير متوقع بشكل مؤثر من الأصل الذي يمكن أن يكون في أفضل الأحوال تسجيلا لعلامة أداء درامي. علاوة على ذلك، فإن أداء تلك الوثيقة – عرضها على الشاشة – لن يكون عملا فنيا في ذاته.. لماذا؟ لأنه يمكن أن يكون بلا عقل.
 - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
نويل كارول يعمل أستاذا للعلوم الإنسانية بجامعة تمبل بالولايات المتحدة الأمريكية. وأحدث كتبه «فيما وراء علم الجمال واستخدام الصورة المتحركة Beuond Aesthetics and engaging the moving image». وتمثل هذه الدراسة الفصل الخامس من كتاب “فلسفة الأداء المسرحي” الصفحات (104 - 121).

 


ترجمة أحمد عبد الفتاح