سبارتاكوس لغة لا يفهمها إلا الأحرار

سبارتاكوس لغة لا يفهمها إلا الأحرار

العدد 540 صدر بتاريخ 1يناير2018

حالة تموج بالثورة والتمرد والرغبة في التعبير عن الذات يمر بها الإنسان بين الحين والحين، وتشتد هذه الفترة توهجا واشتعالا في فترة الشباب، وخصوصا في مرحلة التعليم الجامعي، ومع تنامي المواهب الفردية يتخذ الشاب من موهبته منبرا لعرض قضيته
 وكان المسرح وما زال فاعلا ثوريا وقادرا على تفريغ تلك الطاقات التي تشحذ الهمم بغية التغيير للأفضل. ومن ذاك المنطق والمنطلق كان اختيار فريق كلية التجارة بجامعة الزقازيق النص المسرحي “سبارتاكوس” للمؤلف الأشهر في شريحة المسرح الجامعي محمود جمال الحديني الذي اختار شخصية سبارتاكوس بدلالاتها الأسطورية كمحرر للعبيد من الظلم الروماني/ الإمبراطوري/ السلطوي، فكان تمرير أفكار الثورة والتمرد ضد ظلم الحكام تمريرا دراميا راقيا أنبأ عن عقليات اتخذت خشبة المسرح وسيلة واحترام العقول والافئدة غاية.
بدا العرض “اللامع” بمجموعة من الرجال مكبلين بالأغلال يسحبهم شخص قوي الجثة متشحا بصرامة الوجه وفظاظة الأسلوب، وما أن استوطن خشبة المسرح حتى أرعد في المكبلين أن تقاتلوا واقتتلوا أو موتوا ودار النزال بين هؤلاء بعضهم وبعض لتنبئ المنازلات عن الشخصية الأهم وسط المكبلين (سبارتاكوس)، ومع تنامي الأحداث يظهر الإمبراطور اللاهي والمتخذ من عرشه شرعية اللهو بحيوات البشر وكأنهم رهن يمينه فاقتتالهم أمامه ليس إلا ترفيها يعتنقه، ولأن المرأة أصل الحياة في التحليل الأخير وباعث على الأمل ومحفزا للدفاع عن حق الإنسان في الوجود والكينونة، فكان وجود حبيبة لسبارتاكوس دافعا آخر سعى له المؤلف وأكده المخرج ليكون مقدمة لمطالبة سبارتاكوس لحكامه أن دعونا نحيا كما قدر لنا؛ أن دعونا نملك الحد الأدنى من الكرامة والعدالة والإنسانية ومع اشتعال الأحداث ومطالبة سبارتاكوس بحقه في الحياة والحب وانفصاله عن الحكام، كان له ما كان من أحلامه المستحيلة حتى وإن استقطب المكبلين المقاتلين ليتحرروا، فخانه من رأى في الحرية استعبادا وفضل ذل العبودية على شرف الحرية، ومع عودة سلطة الإمبراطور على المكبلين والمغدورين ذبح الإمبراطور سبارتاكوس والحبيبة والوليد الذي أنجبته الحبيبة من سبارتاكوس ليعلن عن طغيان القهر كلغة يستحقها العبيد المغدورون، وانتهاء أسطورة سبارتاكوس ذي اللغة التي لا يفهمها إلا الأحرار.
تجربة سبارتاكوس هي أول تجارب محمد الجندي الإخراجية التي أعلن فيها عن ميلاد مخرج صاحب رؤية وفكر وموهبة حقيقية في الإخراج، إن توفرت له سبل الصقل والثقافة المستدامة0 قسم الجندي مسرحه تشكيليا إلى ثلاث مناطق متداخلة رابعها افتراضي. أما عن المنطقة الأولى، فكانت عن يمين الجمهور التي اختصت بتكوين حجري التزم باحتضان العبيد وعد الحجر في التحليل السيمولوجي حاضنا حانيا عكس تكوينه وطبيعته لتحدث المفارقة وتقترب الدلالة من المرجو، وجاء على يسار خشبة المسرح تكوين دموي مرتفع للإمبراطور اللاهي بالمقدرات، فكان اللون الأحمر طاغيا على الدرجات التي يرتقيها الإمبراطور دائما حتى يصل إلى عرش الإمبراطور الدامي، وجاءت المنطقة الثالثة من التشكيل السينوغرافي التي ساعدت في تحييد المكان وتركيزه، هي وسط المسرح بين التشكيل الحجري والدموي دون أي مستويات لتجري الأحداث على المستوى الأرضي، وبهذا اكتملت الثلاث مناطق اللازمة للتشخيص والتجسيد وتكاملت سيمولوجيا بصالة النظارة التي انفصلت عن عالم سبارتاكوس الدرامي ببعض الحراب المثبتة على أرض المسرح لتحجب بين عالم سبارتاكوس المتعرض دائما للظلم والتنكيل والتسفيه وعالم جمهور النظارة الأمن فليس ما يجري على خشبة المسرح ألا وهم (وإن كان حقيقية) وليس سبارتاكوس إلا حقيقة (وإن كان حلما).
جاءت حالة التمثيل معبرا حقيقيا عن هموم تلك الفئة من الشباب الطامح إلى التغيير والرافض أي قيود تحد من حريته، فانطلق الممثلون في المبارزة بالإحساس والكلمات لتشخيص حالة الكبت المستعر فامتاز (عبد الرحمن مرجان) في دور سبارتاكوس بهالة من التميز كفلها التحكم في طبقة الصوت الغليظة بلا عنف والعنيفة بلا افتعال وعاونه على التميز الأداء الواثق (أحمد نبيل) الذي جسد دور الإمبراطور اللاهي بمقدرات الشعب، فكان بروده حالة فريدة في الأداء، وجل ما يلفت الانتباه قارع الطبول (محمود جمال) الذي ظل صامتا طوال العرض في عمق المسرح تاركا لصوت قرع الطبول كلماته المميزة ومن الفتيات امتازت (ناردين) في دور اميرلا مجسدة هدوء المرأة ورومانسيتها وقوتها في ذات الوقت ولم يقل باقي الممثلين عن ذويهم وأجادوا في أداء المطلوب منهم بشكل أكد امتلاكهم للحماس والإخلاص والحب اللازم لممارسة فن المسرح باقتدار ورقٍ.
ارتبكت الموسيقى في بعض الأحيان وابتعدت عن تشخيص الحالة الدرامية اللازمة وتداخلت بشكل أصاب بالارتباك مع قرع الطبول، فكانت النتيجة ابتعاد الحالة الشعورية والوجدانية بين المرسل والمتلقي في بعض الأحوال واقترابه في بعض الأحوال كما أثرت الحالة المعمارية لخشبة مسرح قاعة المنتديات بجامعة الزقازيق على مراكز إسقاط الضوء وزواياه فغرقت بعض مناطق خشبة المسرح في ظلام غير مبرر دراميا مما أثر على التواصل البصري آنذاك وبالتالي أثر على التواصل الوجداني والدرامي.
العرض المسرحي “سبارتاكوس” لمحمود جمال الحديني ومن إخراج محمد الجندي وبطولة فريق مسرح كلية التجارة بجامعة الزقازيق محاولة جادة على طريق التميز.

 


محمد النجار

mae_nagar@yahoo.com‏