مصير الدراما في المجتمع الحديث: النظرية الاجتماعية والطليعة المسرحية(2)

مصير الدراما في المجتمع الحديث: النظرية الاجتماعية والطليعة المسرحية(2)

العدد 820 صدر بتاريخ 15مايو2023

  لا يمكن إلقاء اللوم على مخاطر الحداثة على العقل الأداتي للعروض بعد الدرامية والعروض السلعية. على العكس من ذلك, كانت الشرور الاجتماعية مدفوعة بالعواطف الثقافية ذات القوة الأدائية الهائلة. ففي المجتمعات الحديثة والمحدثة وما بعد الحداثية, ربما للأفضل أو الأسوأ, فإن الدراما الاجتماعية موجودة لتبقى. فلا يقتصر الأمر على أن الحياة الاجتماعية تتجاوز الدرامي؛ بل إنها لا يجب أن تحاول. ومنذ أربعة عقود أكد ريموند ويليامز أن المجتمعات لا تزال تحتاج إلى جعل الوعي دراميا: 
 نحن نعيش في مجتمع أكثر حركة وأكثر تعقيدا في آن واحد, وبالتالي في بعض النواحي الحاسمة, أكثر غموضا نسبيا من معظم مجتمعات الماضي, ومع ذلك فهو أيضا أكثر إصرار  والحاحا. فلم يكن النظام العام الواضح لكثير من الدراما التقليدية متاحا لنا لعدة أجيال.... ولكن لم يكن التقديم والتمثيل والدلالة أكثر أهمية من أي وقت مضى. فقد انطلقت الدراما عن العلامات الثابتة, وأثبتت ابتعادها الدائم عن الأسطورة والطقس والنماذج الهومية ومواكب الدولة... ولكن الدراما, التي انفصلت, لم تنفصل تماما... فبتجاوز ما يرى كثير من الناس أنه مسرحانية لصورة عالم الوعي العام, هناك دراما أكثر جدية وأكثر فاعلية وعميقة الجذور: جعل الوعي نفسه دراميا. 
     الدراما أساسية في البحث عن المعنى والتضامن في العالم بعد الطقوسي. وإلا كيف يمكن الحفاظ على المعنى والأساطير عندما تتفكك ميتافيزيقا الدين الكوني وتصبح الطقوس متفرقة وناقصة؟ 
الدراما تزيح أجزاء من النظام الديني قبل الحديث, مع أنها تشملهم. وبتحويل العالم إلى نص, تعكس الدراما السرديات القوية التي يقاتل فيها البطل والبطل المضاد ضد وجهة نظر كل منهما الآخر للخير والحق. ومن خلال التعرف على هذه الشخصيات, يتواصل الجمهور مع المعاني خارج أنفسهم ويعملون بشكل انعكاسي من خلال مضامينها الأخلاقية, ويتعرفون على الأبطال والأعداء, ويصنعون التجليات من الأحداث التاريخية, ويختبرون التضامن مع الآخرين من خلال التطهير. يبلور المسرح هذه العمليات ويركزها بأسلوب جمالي بشكل انعكاسي, ولكن يتخلل الشكل الدرامي الحياة الاجتماعية بأسرها. فبدون الدراما, لن تتأكد المعاني الشخصية والجماعية, ولا يمكن تمييز الشر, ويستحيل الوصول إلى العدل. 
 (ثالثا)  
قبل المسرح, عندما كان هناك كون وطقوس, كانت تداولية الأداء بسيطة جدا. وبعد ظهور المسرح, في عالم التعقيد والتشتيت بعد الكوني, يصبح الأداء الاجتماعي صعبا للغاية. وإذا كان لا بُدّ أن تفهم النظرية الاجتماعية وتتصور هذه الصعوبات, فيجب عليها  ألا تدرس كيف تنفصل التقنية الدرامية في المسرح والمجتمع وتشكل عناصر الأداء فقط, بل يجب أن تسعى إلى تجميعها معا ثانية. 
ظهور النص: 
 بينما يعالج أرسطو الدراما ظاهريا, فإنه في الواقع يشرح بناء النص الشعري. إذ يشرح «موضوعنا هو الشعر, وأقترح أن أتحدث عن بنية الحبكة المطلوبة للقصيدة الجيدة, وعدد وطبيعة الأجزاء المكونة للقصيدة «. ومع هذا التركيز داخل النصي, يسلط أرسطو الضوء على البنيات السردية مثل التراجيديا والكوميديا, مستفيدا  منها للتنبؤ بالتأثيرات الدرامية. ومع ذلك, فإن أقرب ما وصل إليه من تداولية الأداء, هو نصح الشعراء بوضع أنفسهم بشكل خيالي في مكان الجمهور: 
 في الوقت الذي يبني فيه الشاعر حبكته, ويشارك في الإلقاء, يجـب عليه أن يتذكر (1) أن يضع المشاهد الواقعية أمام عينيه قدر المستطاع. وبهذه الطريقة, ومع رؤية كل شيء بوضوح، إن جاز التعبير, سوف يبتكر ما هو مناسب, وسيكون تجاهل التناقضات هو أقل احتمال... (2) بقدر ما يكون الأمر كذلك, يجب على الشاعر أن يطبق نظريته من خلال إيماءات شخصياته...  بضيق وغضب مثلا, ويصورهما بأكبر قدر من الصدق الذي يشعر به من يحسهما في الوقت الحالي. 
     وبعد ألفي سنة, عندما انبثق المسرح مرة أخرى من الطقوس الدينية, وجدنا نفس التركيز النصي الداخلي في مقدمات بيير كورنيه لمجموعة مسرحياته, غير المقيدة بنفس الإيمان بأن النجاح المسرحي مضمون من خلال تماسك المكتوب في المسرحية. مؤكدا على أن الدراما توحد الحدث والزمن والمكان, يصر الكاتب المسرحي الفرنسي الكلاسيكي أن نص المسرحية, المبني بشكل صحيح, يخضع لعناصر الأداء المسرحي الأخرى بحيث يتم قمع أي احتمال في التقديم أو التفسير. وينصح كورنيه بقوله «يجب أن يكون هناك حدث واحد تام, يجعل ذهن المتفرجين صاف». معترفا بأن «يمكن أن يكون ذلك الحدث مكتملا من خلال بضعة أحداث أخرى فقط, وأن هذه الأحداث الأخرى ربما تكون أقل اكتمالا», ويؤكد, مع ذلك, أنه إذا أمكن ظهور هذه الأحداث الثانوية كأعداد للحدث الرئيس, عندئذ سوف تنجح في الحفاظ على المتفرج في حالة تشويق ممتعة». فالحفاظ على المظهر والاستمرارية المتدفقة هو كل شيء, أما حقائق الشخصية وظروف العمل فإنها غير مهمة. ويشرح كورنيه: «ليس من الضروري أن نعرف بالضبط ما يفعله المشاهدون في فترات التوقف التي تفصل بين الفصول, إلا إذا كانت تساهم في الحدث عندما تظهر على خشبة المسرح». 
             ليس مطلوبا من الشاعر أن يعرض كل الأحداث الخاصة التي تظهر حدثا بعينه؛ يجب عليه أن يختار عرض تلك الأحداث الأكثر فائدة سـواء من خلال جـمال المتفـرجين أو من خلال تألـق أو عنـف العواطف التي يقدمها... ويخفي أحداث أخرى وراء المشهد بينما يخبر المتفرجين عنهم من خلال السرد أو حيلة فنية أخرى... ويجب أن يتدخل بنفسه بأقل قدر ممكن من الأشياء التي حدثــت قبل الحدث الذي يقدمه. مثل هذا السرد مزعج, لأنه عادة ما يكون غير متوقع, ويسبب اضطراب في عقول المتفرجين. 
الجمهور المستقل: 
ومع ذلك عندما صاغ كورنيه هذه التأكيدات داخل النصية, بدأت المسارح الخاصة في إزاحة مساحات الأداء العامة والأداء الأرستقراطي. ومع انهيار الرعاية المسرحية, وازدهار أسواق الدراما, وانفجار الصراع الاجتماعي, تلاشت ثقة كتاب المسرح الهادئة في التأثير البلاغي لحيلهم الخطابية. وأصبحت خيالية عالم خشبة المسرح والمشاهدين أكثر وضوحا. واستبدلت الأكشاك بالتجاويف, ووضعت الإضاءة على الأرضية –وقد تم تركيبها لأول مرة في المسارح الخاصة في القرن السابع عشر– كحاجز مادي جديد بين المشاهدين والمسرح. تواجه النصوص المسرحية الآن الجمهور بطريقة صريحة, وأصبح من الصعب أكثر من أي وقت مضى للتأكد من أن الجمهور الذي تم منحه حق التصويت سواء من الطبقة العاملة أو الطبقة الوسطى, قد تم تحفيزه وإسعاده. ففي العقود الأولى من القرن التاسع عشر, كان الجمهور صاخبا. وبحلول منتصف القرن, أصبحوا أكثر رصانة. فاقترح بوث «لقد تحسن السلوك, والشكاوى في نهاية المطاف لم تكن بسبب الضجة في مكان الأوكسترا, ولكن من الضجة الشديدة في القاعة». والآن أصبح يُنظر إلى الجمهور الأقل انتباها على أنه حائط المسرح الرابع, ليس فقط بشكل ملموس بل بشكل مجازي, للنص الذي يفترض أن يكون مؤثرا ومجسدا على خشبة المسرح. وقد حاول هنري جيمس يائسا أن يكون كاتبا مسرحيا ولكنه فشل, وألقى اللوم على الجمهور متجاهلا اضطراب تقنياته الدرامية. وبصوت ينضح بالسخرية, انتقد الروائي الأمريكي الطبيعة الوحشية للجمهور الحديث بشكل أساسي: 
 التجمع الغفير لسكان المدينة التجارية الكبيرة في ساعات النهـار عندما يكون مذاقهم في أدنى مستوى, وهم يتدفقون من الفنادق والمطاعم, متخمين بالطعام والمنشغل بالبيع والشراء, وبكل الانشغالات القذرة الأخرى في هذا العصر, وهم يتزاحمون فــي كتلة ملتهبة, وهم محبطون في جماعتهم, في ملل ويرغبون في استعادة أموالهم على الفور قبل الساعة الحادية  عشرة. ويتخيلون وضع المتأنق أمام محكمة كهذه! وينبغي أن  يقدم الكاتب المسرحي أقل التنازلات. ولعل أحد مبادئه الرئيسية هي أن يساعده المتفرجون على اللحاق بقطار الضواحي, الذي يتوقف في الساعة الحادية عشرة والنصف.
 على الرغم من هيمنة جيمس على النص الروائي, فإنه لم يستطع ترجمته إلى نص يتكلم على خشبة المسرح. 
 ومع ظهور الجمهور كعنصر مستقل وكتجاوب بشكل مؤقت في المسرح, يمكن رؤية تحذيرات بريخت السياسية ليس فقط على أنها معيارية بل أيضا تحليلية؛ إذ حددت تقنياته الجمالية موضوع الانسحاب الاجتماعي من التقمص والعاطفة مع خشبة المسرح. ولكن دريدا قد فهم أن الاغتراب يركز فقط, بإصرار تعليمي وثقل منهجي, على عدم مشاركة المتفرجين في العمل الإبداعي, في قوى التشتيت في فضاء المسرح. وكما يقترح سينفيلد, يعتمد كل شكل فني على استعداد ما للمتلقي للتعاون مع أهدافه وتقاليده. ولكن إذا كان الجمهور موجودا دائما, فلم يتم تصوره إلا مؤخرا بطريقة أصبحت متعامدة مع الأداء, كعنصر مستقل. ورغم ذلك تعتمد أكثر المسارح تطرفا على استعداد الجمهور للمشاركة. ويشير برت أوستاتس إلى أنه «حتى عند بريخت, فإن كل شيء يسعى إلى مستواه الإيهامي», ويعتمد نجاحه الدرامي على «رغبة الجمهور على التفاعل بما يتوافق مع ما يكون عليه العمل». وكذلك يتبع بوال بريخت في رحلته مع أرسطو, فإنه يصر, رغما عنه, على أن الحائط الرابع, الذي بنته الطبقات الحاكمة, يمكن هدمه, ولا بُدّ من هدمه. ويشكو بوال من أن كلمة «متفرج» كلمة سيئة لأنها تجعل المشاهد أقل من الإنسان. ودعوته إلى مسرح جديد للمقهورين, وقد كان هذا الناقد المعترف بالتطهير يأمل في أن تلهم الدراما الأمل في الانتصار وأن تستعيد البروليتاريا قدرتها كممثلين. 
     وفي النقد الأدبي, درست نظرية استجابة القارئ الانقسام بين النص والجمهور بشكل أكثر تحليلية. ويذهب ستانلي فيش إلى أبعد من ذلك ليقترح أن الجماعة التفسيرية –الجمهور بالمصطلحات المسرحية– يبتكر نصوصه الخاصة في فعل القراءة. وقد كرس كتاب الدراما الطليعية أنفسهم لاكتشاف طرق كسر الحائط الرابع, وابتكروا نظرية وممارسة التمثيل العاطفي الداخلي والنصوص المسلية, والأدوات الأيقونية, والإخراج الجذاب. وأحيانا يحاولون أن يتجاوزوا الجمهور بالتوجه إليهم مباشرة. وإذا صدموا المشاهدين وأساءوا إليهم (كما تقول الحجة), فربما يدمجونهم في نصوصهم في نفس الوقت. وهذا النوع من التفكير يخبرنا عن الوصف التمهيدي لبيتر هاندكه في مسرحيته «الإساءة إلى الجمهور» (1966): 
           «لن تتلقوا ما تستحقون هنا. وفضولكم ليس كافيا.  ولن تقفز أي شرارة منا إليكم. ولن تتكهربوا... فهذا ليس مختلفا عن عالمكم فلم تعودوا تسترقون السمع. فأنتم المادة وهذا ليس سرابا ولن تروا الحوائط التي تهتز... وخشبة المسرح هذه لا لا تمثل شيئا... ولن تروا الظلام الذي يتظاهر بأنه ظـلام آخر. ولن  تروا النور الذي يتظاهر بأنه نور آخر. ولن تسمعوا أي ضجيج  يتظاهر بأنه ضجيج آخر. ولن تروا الغرفة التي تتظاهر بأنها غرفة أخرى. لـن تختبروا هنا الزمن الذي يتظاهـر بأنه زمن آخـر... ولن نرسـم خطا ونحن نتحدث إليكم... وليس هـناك حزام إشعـاع بيننا وبينكم». 
     لقد تحول المنظرون الديمقراطيون الميالون بشكل كبير إلى استقلالية الجمهور لإنقاذ العقلانية من الصنعة المسرحية. وفي مقاله عن المتفرج المتحرر، أشاد جاك رانسيير بمن يراقب ويختار ويقارن, ويربط ما يراه بمجموعة الأشياء الأخرى التي شاهدها في مسارح أخرى, وفي أماكن أخرى, الذي يؤلف قصيدته الخاصة مع القصيدة التي يراها أمامه, ويشارك في الأداء بإعادة تشكيلها بطريقته الخاصة. وفي مثل هذه الجهود, ومع التخلص مع مشروطية الحياة المسرحية, تعكس الفلسفة السياسية الطموحات الجمالية للطليعة المسرحية. 
     ومع بزوغ فجر القرن التاسع عشر والكشف عن الفجوة المصيرية بين النص والجمهور, تدفق كل شيء آخر. وبين مطرقة النص وسندان الجمهور ظهرت كل التطورات المفاهيمية التالية, وفهمنا كل منهما كبوتقة لدمج أدائي جديد. 
ظهور الممثل: 
يقدم تحول التمثيل أوسع التطورات التي تم تأملها. ففي أواخر القرن الثامن عشر, أشاد دينيس ديدرو بالممثل باعتباره متفرجا لا مباليا ولا يتأثر, والمتغلغل بلا حساسية, الذي أتقن الفن الذي يقلد كل شيء. ومن أجل التنوير, كان النص هو الملك. ويسأل «ما هي الحقيقة إذن على خشبة المسرح؟» ويجيب ديدرو «إنه توافق الفعل والإلقاء والوجه والصوت والحركة والإيماءة, مع نموذج مثالي يتخيله الشاعر». ومع بداية القرن العشرين, بالمقارنة, رفض العبقري جوردون كريج فكرة الممثل كمجرد آلة تصوير, وأطلق دعوة واضحة لتحرير الممثلين باعتبارهم مصدر الإبداع في حد ذاتهم: «اليوم يشخصون وينقلون, وغدا يجب أن يمثلوا ويفسروا, وفي اليوم الثالث يجب أن يبتكروا». 
     في الواقع, في بداية القرن الماضي فقط, صار تدريب الممثل مهنة واعية بذاتها. وقد كانت فكرة هذا المجال الجديد هي إيقاظ النص الميت, لكي يقف شامخا, ولكي يمشي ويتكلم. ويصف ديفيد كريزنر ما حدث في عشرينيات القرن الماضي عندما هاجرت أفكار كونستانتين ستانسلافسكي إلى الولايات المتحدة. وفي أيدي معلمين مثل لي ستراسبورج وستيلا أدلر وسانفورد ميزنر, غيّر ما يُسمى منهج التمثيل على خشبة المسرح والسينما. وانتقل التمثيل من كونه “من الخارج إلى الداخل” –من النص إلى الممثل– إلى أن أصبح “من الداخل إلى الخارج”, وسمح للممثل بأن يكون له تأثير في فهم النص. وبدلا من مجرد الإشارة إلى المشاعر, حاول الممثلون الآن فعلا أن يعيشونها. وبدلا من التصنع, تم توجيه الممثلين إلى إبراز حضور طبيعي غير متكلف. وبدلا من المسرحانية المبالغ فيها, كان لا بُدّ أن يكون الأداء مثل السلوك الطبيعي. وأثناء التدريبات, كان يتم إبعاد الممثلين عن النصوص نهائيا, وأن يشاركوا في الارتجال, وأن يتكلموا بثرثرة, وأن يقوموا بإعادة الصياغة, والانخراط في التعبيرات المتكررة بلا تفكير, والتمارين المعدة لتحفيز التفسيرات الشخصية للممثلين بحيث تصبح عواطفهم مستقلة عن كلمات الكاتب المسرحي المطبوعة في النص. وقد شجع ستراسبورج على اللحظات الشخصية في التدريبات ويقترح أن استدعاء الذكريات المؤلمة والمبهجة من ماضي الممثلين وتقديمها هو الأسلوب الذي يحررهم من أي التزامات تجاه النص أو الجمهور. وقد تم تصميم منهج التمثيل بطريقة تكاد تكون منهجية. فالمسرح يمكن أن يصبح دراميا, وفقا لرأي كريزنر, إذا حقق الممثل تجربة المشاعر الحقيقية, ويعمل لحظة بلحظة على الباعث, ويتكلم ويستمع وكأن الأحداث على خشبة المسرح تحدث فورا. 
     وفي فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية, واصل جيرزي جروتوفسكي التقاليد العملية لجعل التمثيل مركز النجاح المسرحي. وأعلن أن التقنية الشخصية والمشهدية للممثل هما لب فن المسرح. فالنص بذاته غير مفيد, وأكد أنه في تطور الفن المسرحي كان النص آخر العناصر التي تضاف. وفي الواقع, بالمقارنة مع مغزى التمثيل, كانت كل عناصر الأداء الأخرى عمليا غير مفيدة أيضا. ومن خلال الاستبعاد التدريجي لكل ما هو غير ضروري, وجدنا أن المسرح يمكن أن يوجد بدون المكياج والملابس المستقلة والسينوغرافيا, وبدون فصل منطقة الأداء (خشبة المسرح), وبدون الإضاءة ومؤثرات الصوت. والشيء الذي لا يمكن أن يوجد المسرح بدونه هو علاقة التواصل الحسي الحي والمباشر بين الممثل والمتفرج. وقد سأل شيكنر المخرج البولندي عما قصده بتذكيره بعبارة “لا تؤدي النص” فأجاب جروتوفسكي بقوله: 
 إذا أراد الممثل أن يؤدي النص, فإنه يفعل أسهل شيء. فالنـص مكتـوب فهو يحرر نفسـه من الالتزام بفعل أي  شيء ولكنه إذا أظهر نقص هذا الفعل الشخصي ورد الفعل, فعندئذ فإن الممثل ملزم أن يشير إلى نفسه داخل سياقه وأن يجد سطور بواعثه... فالمشكلة دائما هي نفس المشكلة «أوقف الخداع» وابحث عن البواعث الصادقة. الهدف هو إيجاد تلاقي بين النص والممثل. 
وكما يشرح ستاتس, إنه لا يوجد مميز في المسرح. وبالمقارنة مع فرص التدخل التأليفي في النثر والشعر, فلا يوجد في المسرح سوى الحضور الموضوعي للإيهام, وتلك الهالة التي يمكن ابتكارها بواسطة وعي الممثل باكتفائه الذاتي. وقد نظم المسرح الحي عند جو تشاكين أداء موحدا خلق نصوصا مسرحيا من خلال الأداء المشترك. وكتب عن «حضور الممثل» لكي يفسر نجاحه «يشير كل تاريخ المسرح إلى الممثلين الذين يملكون هذا الحضور ويستكشف روش ذلك لكي يدرس نفس الشيء «الخاصية التي تجعلك تشعر وكأنك تقدم بجانب الممثل, ولا يهم مكان جلوسك في المسرح». 
        (رابعا ) 
هناك عدة موضوعات مرتبطة لم أتناولها هنا. أحدها هو الدراما السينمائية, والدراما على الإنترنت, وقد كانت مساهمتها القوية حركة إعادة التقديم الدرامي هي فكرة هذا المقال. وقد أصر المنظر السينمائي الفرنسي ومؤسس مجلة كراسات السينما أندريه بازان على أنه بالمقارنة للكتابة والمسرح, فإن أنطولوجيا السينما هي الواقعية. فقد سعى كل تجديد سينمائي – بداية من المونتاج والتحريك والسينما ثلاثية الأبعاد, ومن اللقطات المقربة إلى اللقطات الطويلة واللقطات البانورامية, ومن كاميرات الفيديو المحمولة إلى سينما الحقيقة, ومن أشكال التليفزيون الطويلة والقصيرة - إلى تعميق اعتقاد المشاهدين بأن ما يشاهدونه ويشعرون به هو شيء حيوي وحقيقي, إذا كان مختلفا بوضوح عن الحياة الاجتماعية الفعلية. 
     ويتحرك الموضوع الآخر فيما وراء المسرحي إلى مصير الدرامي في الفنون الأخرى. وخلال نفس الفترة التي تأملتها هنا انتقل الفن التشكيلي والنحت من التمثيل السردي إلى التجريد كصيغة مهيمنة, ومع الموسيقى كان الانتقال من الهارموني إلى النغمي. فهل دفع الانتقال من المادية والواقعية هذه الفنون إلى ما بعد الدراما؟ كثيرا ما يتم تقديم هذه الحالة غالبا, ولكن يبدو أنه انتقال فقير بالنسبة لي. فما قبل الانطباعية وما بعدها والوحشية والبنائية والتكعيبية والسيريالية والتعبيرية التجريدية والتقليديين والفن الشعبي والفن المفاهيمي – كل ابتكارات الطليعة الراديكالية هذه في الفن التشكيلي, قد لا ينظر إليها على أنها جهود لخلق اغتراب عن الفن المعاصر, ولكنها تقنيات لإعادة تكوين هالته وغموضه, لتوفير ارتباطات أكثر كثافة مع النزعة الجمالية. 
     هناك قضايا اجتماعية جديدة وليس فقط قضايا نظرية على المحك في هذه الحجة حول ما بعد الدراما. وإذا تصورنا المسرح الطليعي باعتباره ما بعد درامي, فربما عندئذ يمكن تنظير المجتمع المعاصر باعتباره مشهدا, وأن القصة التي يرويها ديفيد فوستر والاس ليست نكتة ساخرة, ولكنها صحيحة أحيانا. وتقترح حجتي, على العكس من ذلك, أن والاس كان على صواب في يضع قصة الدراما المكتشفة في إطار ساخر. وببحث دراسات الأداء الحالية, اكتشفنا أن عودة الدرامي موضوع قوي. وتوضح هذه الكتابات كيف أن العناصر التي تؤسس المنطقي لكل تحرر جمالي هو استعادة القوة الدرامية. لأن كل تجديد مسرحي كانت الحجة هي أنه بتحرير هذا الشكل الخاص والمتميز للقوة الدرامية, سوف يصبح من الممكن أن ندمج عناصر الأداء في الدراما مرة أخرى. 
     وأتمنى أن أكون قد وضحت في هذا المقال, هل كانت النظريات المسرحية والمسرحيات الاجتماعية مؤثرة, ومتضافرة جوهريا. وتتدخل التقنيات وأدوات التناول الجمالي بعمق في مؤسسات وعوالم الحياة في المجتمع المعاصر في الصراع من أجل القوة وعمليتها الرأسية وفي جهود خفض القوة إلى حجمها. فلا تستطيع الحركات الديمقراطية السيطرة على سلطة لا يمكنها أن تكون بعد درامية. فليس المشهد الفارغ, ولكن تجربة تنشيط الأسطورة والقيمة هي الهدف التي يسعى كل من الأداء الجمالي والاجتماعي من أجله. 
.....................................................................................
جيفري ألكسندر يعمل استاذا بجامعة يول بالولايات المتحدة الأمريكية . 
نشرت هذه المقالة في مجلة Theory،  Culture & Society،  vol 31،  3 -24،  2014


ترجمة أحمد عبد الفتاح