في مقالتنا السابقة نشرنا حوارا أدلى به نجيب الريحاني، هاجم فيه زوزو حمدي الحكيم، ويوسف وهبي، وعزيز عيد، وحسن البارودي.. إلخ! وهذا الحوار به أمور مهمة تمسّ حياة الريحاني الفنية، وتُعدّ المذكرات غير المباشرة للريحاني. والعجيب أنني توقعت أن أجد ردا منشورا من زوزو حمدي الحكيم على ما ذكره الريحاني في حقها، بما هو معروف عنها من قوة في الرد وجرأة كبيرة في المعارك الصحافية منذ أن كانت طالبة في معهد التمثيل العربي عام 1930!! أو أجد ردا من يوسف وهبي ضد الأوصاف التي ذكرها الريحاني له!! أو ردا من عزيز عيد أو من فاطمة رشدي ضد مزاعم الريحاني حول قدرتهما الفنية.. إلخ ما جاء في الحوار!! وكم كانت المفاجأة أن الرد جاء من «حسن البارودي» الذي مسّه الريحاني مسّا خفيفا في حواره!! وهذا نص رد البارودي كما نشرته الجريدة تحت عنوان «إلى الأستاذ الريحاني» بعد شهر تقريبا من نشر حوار الريحاني عام 1934:قال البارودي: يظهر أن الزمن أبى أخيرا إلا أن ينكبني في أصدقاء أعزاء، كنت أخلص لهم وأحبهم وأحترمهم. وبالأمس البعيد نكبت في صداقة أعز صديق لدي، بعد عمل مستمر معه، وعشرة صافية دامت زهاء العشرة أعوام، ضربت فيها المثل الأعلى للإخلاص، فكوفئت بتفل هذه الصداقة كما تتفل النواة من الثمرة الحلوة. وخرج عليّ شخص آخر بعد ذلك كنت أحبه وأقدر عمله، فأنكرني كممثل سينمائي ناسيا أنه أول من هنأني يوم أن عملت معه. واليوم تصيبني الطعنة الثالثة من صديق أيضا كنت أحترمه كممثل له مكانته عند زميل له فيقدرها ويحبه.. هذا الممثل هو الأستاذ «نجيب الريحاني» الذي أدلى بحديث خطير على صفحات الصباح «الغراء» في الأسبوع الماضي تناول فيه الممثلين والممثلات والثقافة الفنية. والظاهر أن جو الإسكندرية قد أثر نوعا ما على رأس الأستاذ نجيب، فخرج الحديث معه تماما كنوع الجو الذي يعيش فيه! لقد أنكرت في سياق حديثك مواهب جميع الممثلين والممثلات بلا استثناء، ورميت ممثليك الذين يعملون معك الآن بالجهل المطبق. وقلت إنك تظل تنفخ فيهم، وتنفخ، وتنفخ حتى يستطيع الممثل منهم أن يؤدي دوره، وقد أهلكت نفسك معه، وهو لا يعلم قيمة هذه التعاليم، إنما هو يؤديها كأوامرك له. إذن هم مجرد آلات متحركة في نظرك تسيرها وتكيفها كما شئت. ولكن ليسمح لي الزملاء الأفاضل الذين يمنعهم العيش وحده من الوقوف في وجه رئيسهم أن أرد بالنيابة عنهم، فأقول: إذا كانت رواياتك قد نجحت فذلك لأنهم ممثلون قبل كل شيء، ولولا ذلك لما استطعت أن تنتج منهم شيئا ولأنهم هم الذين آزروك وتكاتفوا معك وساروا بالقصة معك إلى الوجه الناجح كما تقول. ولأنهم أخيرا هم أنفسهم الذين جعلوا منك الآن من أنت، وأعني الأستاذ نجيب الريحاني!! ثم إنك لا تريد أن تعترف بوجود ممثل أو ممثلة عندنا، ومع ذلك فأنت مُصرّ على تكوين فرقتك بين فترة وأخرى حسب الظروف!! فلماذا تكلف إذن نفسك مشقة العمل في بلد لا تجد فيه ممثلا أو ممثلة؟! ثم تقول إنك بعد تجارب عديدة، وخبرة أكيدة من خدمتك للمسرح أيقنت أنه من الخطأ أن يقوم مدير الفرقة بإعطاء أية ممثلة قسطا من تعاليمه وإرشاداته الفنية، لأنه بذلك يسلحها ضد نفسه.. الله! الله! على العبقري الذي يبخل بعبقريته!! والشرف أن هذا لمنتهى الأنانية! فلو أن كل مخرج اتبع هذه النصائح لخرجت الروايات مهازل ولسخر الجمهور منها! ولكن أين الضمير يا صديقي الأستاذ، ضمير المخرج؟ ولتسمح لي أن أسميه هنا بالضمير الغائب! أين هذا الضمير الذي يرى أمامه نقصا فنيا ويضن بإتمامه لغاية في نفسه، ثم لقد أنكرت كذلك على الأستاذ يوسف وهبي ثقافته الفنية، ونسبت نجاحه في أدواره إلى «عصبيته» فقط، وأنه رجل معدوم الفن، وهذه جرأة كنت أستبعد صدورها عنك، لأن للأستاذ يوسف وهبي أدوارا هادئة كانت السبب في بناء مجده الذي يتمتع به الآن، أدواره في روايات «توسكا» و«المستر فو» و«الجبار»، فأين كانت «العصبية» في هذه الأدوار الخالدة يا صديقي؟ ثم لا أظنك تنكر أني حضرت لك جلسات طويلة معه، كنت تظهر فيها إعجابك الشديد برواياته، واليوم تقول إنها من تأليف «صبي»!! فأين كانت شجاعتك الأدبية وقتها؟ هل تريدني أعتقد الآن أن ذلك لم يكن إلا لغرض في نفسك؟ ثم تقول إنه يجب أن يكون لكل هاوٍ في بداية عهده بالتمثيل أستاذ يقتدي به، ورشحت لذلك الأستاذ عزيز عيد. جميل! جميل جدا! ولكن بكل أسف؛ كأني بك قد نسيت ذلك، فقلت في سياق حديثك من فشل السيدة فاطمة رشدي في حياتها الفنية أن ذلك راجع إلى تعاليم الأستاذ عزيز لأنها هي التي أسقطتها! ما هذا التخبط يا صديقي؟! ثم ما هو نوع هذه الثقافة الفنية الذي خلعته على نفسك، وجردت منه أستاذين كبيرين هما الأستاذان وهبي وعزيز؟ وما هذا الشيء العظيم الذي تستطيع أن تأتيه أنت ويعجزان عنه؟ ثم أنك تقسم بأنك لو تفرغت لإخراج ممثلين لأمكنك أن تخرج في مدى ثلاث سنوات فطاحل بمعنى الكلمة! لا يا صديقي. إنك لا تستطيع أن تُخرج من الطالب أو الموظف، أو أي كان، ممثلا ما لم يكن الاستعداد الطبيعي متوفرا فيه. إذن هو ممثل بطبيعته، وأنا.. أنا «حسن البارودي» الممثل المتكلف تكلفا مكروها لا يتفق مع الطبيعة، والذي كانت لديك الشجاعة أن تصرح باسمه علانية على رأي زملائه الذين أنكرت فنهم جميعا، أنا أصرح علنا أيضا؛ بل وأتحداك أنت يا من تقول بأنك تستطيع أن تُخرِّج ممثلين فطاحل، أن تمثل مشهدا واحدا من دوري مثلا في رواية «الاستعباد» وتجيده الإجادة التي أمثله بها.. ليس معنى ذلك أنك لست بالممثل أبدا، أنت ممثل «كوميديان» عالٍ! لك نوعك، ولي نوعي، وكلانا ممثل يا صديقي. وكان يجدر بك أن تخدم الزمالة. ثم لا أريد أن أكون قاسيا معك. فأذكرك بالفشل المريع الذي أصابك يوم أن أردت أن تجعل من نفسك ممثلا «أخلاقيا»، وليس عهد رواية «المتمردة» ببعيد، رغم مؤازرة زملائي لك، هؤلاء الزملاء الذين طعنتهم أيضا في فنهم. بعد هذا اسمح لي أن أشك كثيرا في أنك تستطيع أن تُخرِّج أحدا. وختاما يا سيدي الأستاذ، إن هذه الطعنة كنا نغتفرها لغريب عنا، أما وقد أصابتنا من زميل لنا، من رجل من أسرتنا سيظل يعمل معنا ونعمل معه، فستوخزة دائما كلما مرت بنا. [توقيع] «حسن البارودي».إضحاك الجمهورلم أجد شيئا منشورا بعد ذلك –وفقا لما بين يدي من مقالات- حول هذا الأمر، ولعل الجريدة اكتفت بحوار الريحاني ورد البارودي عليه! ورغم ذلك وجدت بعد عام مقالة منشورة في مجلة «كل شيء والدنيا»، نقلتها منها مجلة «الحسان» ونشرتها عام 1935 عنوانها «كيف شعر نجيب الريحاني بأنه يستطيع إضـحاك الجمهور؟»!! وهذا العنوان هو سؤال الصحفي لنجيب الريحاني!! والأكيد أننا نعلم جميعا بداية الريحاني الفنية الموجودة في مذكراته المعروفة والمنتشرة بيننا حتى الآن!! ولكن للأسف.. وبكل أسف.. ذكر الريحاني في هذه المقالة بداية لم نقرأها في أي مذكرات له قرأناها أو مرّت علينا، ولا حتى في المذكرات الحقيقية والمجهولة التي سأتحدث عنها فيما بعد!! وكفانا تشويقا ونترك الريحاني يُجيب على سؤال المجلة، قائلا:«الإفلاس والضنك يا سيدي.. أجل الإفلاس والضنك.. إني مدين لهما بحياتي التمثيلية، إني مدين لهما أولا باعتلاء خشبة المسرح، وثانيا بابتكار شخصية كش كش بك. كنت في سنة 1908 موظفا بالبنك الزراعي، وكان مرتبي الشهري لا يزيد عن بضعة جنيهات. وفي يوم سبت -وإني أذكر أنه كان آخر يوم سبت في الشهر- غادرت مكتبي ظهرا وأخذت أهيم على وجهي في الشوارع حائرا، وأنا أسأل نفسي كيف أتمكن من تمضية سهرة الأحد مفلسا؟ وشاءت الظروف ساعتئذٍ أن تقودني حيرتي إلى شارع البوستة بجوار سور الحديقة «حديقة الأزبكية»، فالتقيت هناك بأخي توفيق فحييته وقلت له: هل لك أن تقرضني ريالا! فتطلع إليّ متعجبا وقال لي: لماذا تريد مني أن أعطيك ريالا؟ فقلت لأن جيوبي خالية.. نظيفة كالصيني.. إني مفلس وأريد ريالا يساعدني الليلة على تمضية سهرتي وغدا على قضاء يومي. فلما أيقن أني لست هازلا قال لي: «أتريد أن تكسب الليلة ريالين بدون تعب كثير أو جهد كبير». فقلت (هو ده سؤال عاوز جواب!) فقال تعالى معي إذن! فتبعته متفائلا مغتبطا! وكان يقيم بجوار الأزبكية يومئذ رجل فرنسي اسمه «دور لبلانك»، كان يزعم أنه يستطيع تنويم الناس تنويما مغناطيسيا، ولكني فهمت من أخي أن الرجل (هوّاش)، وأنه يستخدم لهذه الغاية أشخاصا يتفق معهم. وقادني أخي توفيق إلى هذا الرجل الفرنسي وقال له: إني مستعد لأن أكون أحد أولئك الأشخاص الذين يستخدمهم في تجاربه أمام الجمهور فتسري عليهم حيلته ويصدقون أنه يقوى حقيقة على التنويم المغناطيسي. وارتاح «دور لبلانك» إلى شكلي ووعدني بريالين كاملين إذا أنا قمت بدوري. وأخذ يدربني على الحركات التي يجب عليّ أن أتظاهر بها عندما يدعي أنه نومني، وكذلك الألفاظ التي يجب عليّ أن أرد بها على أسئلته وإشاراته. وأفهمني قبل انصرافي أنه يجب عليّ عند عودتي أن أندس بين المتفرجين إلى أن يعتلي هو خشبة المسرح ويقول بصوت جهوري: «هل بين الحاضرين من يريد أن أجرب فيه تجاربي فأنومه تنويما مغناطيسيا».. فأقف أنا عندئذ وأصعد إلى المسرح مع من يصعد إليه. ولما حان موعد التمثيل في المساء قصدت إلى مسرح «دور لبلانك» وقد ارتديت بذلة أنيقة، وما كاد صاحبنا يعتلي خشبة المسرح ويسأل سؤاله المتفق عليه حتى صعدت إليه مع الأشخاص الذين كان قد اتفق معهم مثلي. وكان «لبلانك» إذا شعر بأن على المسرح أناسا غير الذين اتفق معهم فيدنو منهم ويتفرس فيهم ثم يقول لهم: «ارجعوا إلى أماكنكم يا سادة لأن نظركم أقوى من أن تؤثر فيه قوتي المغناطيسية».. فيفرحوا بكلامه ويعودوا إلى مجالسهم مقتنعين راضين. ولما جاء دوري في التنويم قال لي: اجلس، فجلست على كرسي فقال لي: والآن انطلق بحصانك إلى ميدان الأوبرا. فجعلت أرتفع وأهبط على الكرسي كمن يركب جوادا حقيقيا. وهنا أحسست بأن الحاضرين يغرقون في الضحك. فقال لي الرجل أنت الآن في الجنة بين الحور والملائكة. فأخذت ألعّبْ وجهي متظاهرا بالفرح والابتهاج. فازداد ضحك الحاضرين واشتد هرجهم ومرجهم فقال لي صاحبنا: والآن قد انتقلت إلى الجحيم بين المجرمين والشياطين. فأبدلت ملامحي ورسمت على وجهي علائم الخوف والوجل، فاستلقى الحاضرون على ظهورهم من شدة الضحك وضجت القاعة بالتصفيق الشديد. وانصرفت في تلك الليلة من عند «دور لبلانك» وقد ارتسم في ذهني اعتقاد راسخ وهو أني أملك إضحاك الناس». هذه بداية فنية لنجيب الريحاني لم أقرأ عنها، ولم أسمع بها من قبل!! ولعل البعض يختلط عليهم الأمر ويقولون إنهم قرأوا في مذكرات الريحاني الشهير والمنتشرة – أقصد مذكرات كتاب الهلال - قصة المنوّم المغناطيسي هذا!! وهنا يجب أن أنبههم إلى أن قصة المنوم المغناطيسي الموجودة في مقالتنا هذه وقعت أحداثها في منطقة الأزبكية بالقاهرة عام 1908! أما قصة المنوم المغناطيسي المنشورة في مذكرات الريحاني المعروفة وقعت أحداثها في نجع حمادي عام 1913! هذا بالإضافة إلى أن أحداث القصتين مختلفة!!وبناء على ما سبق عزيزي القارئ، أقول: إن المقالات التسع السابقة اشتملت على أغلب فترات حياة الريحاني منذ بدايته وحتى عام 1935. ولو جُمعت –مع بعض الشروح والتعليقات– تصنع مذكرات مجهولة وحقيقية لم تُنشر من قبل في كتاب!! ومن المؤكد أنه سيكون كتابا مشوقا لأن القارئ سيقرأ فيه ما لا يعرفه عن نجيب الريحاني منذ وفاته وحتى الآن!! كما أرجوك عزيزي القارئ ألا تظن السوء في كلامي هذا، أو تظن أنني أتهرب منك مكتفيا بما نشرته من مذكرات مجهولة وحقيقية للريحاني -لم يكتشفها أحد من قبل، ولم يتحدث عنها أحد من قبل– وأوقف مقالاتي عند هذا الحد.. دون أن أتحدث عن المذكرات المجهولة والحقيقية المنشورة عام 1937، التي أقمت الدنيا وأقعدتها من أجل الكشف عنها والحديث عنها!! لا -وقسما بالله- ما كان هذا قصدي.. بل قصدي كان بريئا وهو تشويقك لهذه المذكرات.. التي سأبدأ الحديث عنها في مقالتي القادمة.. فاستعد لها من الآن!!