عشاق المسرح ومجانينه إن عاش .. قطب الرجال .. ولا كان على بالي

عشاق المسرح ومجانينه إن عاش .. قطب الرجال .. ولا كان على بالي

العدد 526 صدر بتاريخ 25سبتمبر2017

  عندما تذهب إلي حارة ضيقة بها قاعة صغيرة أو إلى مسرح كبير مؤجر على نفقة فناني العرض  أو مكتبة خاصة صغيرة توظف ردهاتها للتمثيل ، لتشاهد مسرحية ممتعة فأنت أمام عشاق مسرح او مجانين مسرح ، سمّهم كما شئت ولكنك في النهاية ستقف لتصفق لهم بحرارة واحترام، ستقف أمام عباس أحمد وموريس عدلي وعماد اسماعيل وفرقهم المؤمنة مثلهم بضرورة المسرح لتنحني حبا وشكرا على مايبذلونه من جهد كبير بلا مقابل مادي غالبا بل كفاهم حضور الجمهور ومتعته بالعرض. هؤلاء هم مقصدي لأنني اعتدت البحث عن المسرح الحقيقي ، المسرح المختلف وإن كان يقدم  في قاعة أو حوش أو ساحة أوغيرها من الأماكن .
في قاعة صغيرة تقع في حارة ضيقة بحي سكني عريق هو حي الظاهرالذي يضم محلات حرفيين في الطباعة والحدادة والميكانيكة ، تجد قاعة “الجزويت “ الملحقة بالمدرسة العريقة ، والتى تعد وجهة لمتابعي المسرح لما تضم من تجارب مسرحية تتفاوت في القيمة الفنية ولكنها تتساوى في الطموح والشغف بالمسرح والتضحية في سبيله بالوقت والجنيهات القليلة من جيوب صناع المسرحية لمجرد أن تتحقق لهم متعة البوح والتواصل مع الجمهور . وهذا الأخير مجهول وليس معلوم فقد تجد أصدقاء صناع العرض من الشباب وقد تجد سكان المنطقة من حرفيين وطلاب وقد تجد أطفال شغفهم هذا الغموض داخل القاعة فاشتروا تذكرة بجنيهات قليلة لمشاهدة مايجري وإشباع شغفهم .
 وأنا دائما أكون أحد هذا الجمهور الشغوف فقد شاهدت بين جدران هذه القاعة الكثير من التجارب الطموحة الثرية بأفكارها التي ربما لم تنضج بما يكفي ،لكن -وهذا يقيني دائما وحركة تاريخ الفكرتعلمنا هذا- أن المسرح هو مكان نضج الأفكار من خلال عرضها ومناقشتها بين مبدعي العرض والجمهور . فشاهدت من قبل في قاعة “الجزويت “موسم للمسرح المستقل ضم أكثر من عشر مسرحيات عام 2015 بإشراف الفنانة عزة الحسيني ، وموسم لمسرحيات الفنانة نورا أمين نفس العام في احتفالها بمرور 20 عاما على نشاطها المميز ، وشاهدت مسرحيات متفرقة وكلهم مناضلون في المسرح بقروشهم القليلة وطموحهم الكبير .
قطب الرجال :
مجموعة عشاق للمسرح  كونوا فرقة مستقلة قدمت مسرحية “قطب الرجال” من إخراج مخرج كبير عاشق للمسرح بدأ من مدينة المناضلين بورسعيد وذهب إلى بقاع مصر يقدم مسرحا حيا يجذب المتفرج البسيط هو المخرج عباس أحمد .
كتب النص الكاتب أنور عبد المغيث وهو كاتب له تجارب كثيرة في المسرح ودراما التليفزيون والإذاعة وربما وجدنا ثيمة درامية تتردد في كتاباته وهي الظلم الواقع على الضعيف ومناصرة المحيطين به من أقارب وأهل مدينته وهم غالبا طيبون مسالمون أمام سلطة ظالمة تتمثل في عمدة أو مسئول في العمل ، ويتماس هذا مع حس ديني أصيل لكنه غالبا ما يستعين في الطرح الدرامي بالغيبيات ومعتقدات الجماعة حتى لو كانت متبناه بسبب الجهل والفقر العلمي  ، وهذا وإن كان مقبولا لأنه يتسق مع تركيبة الشخصيات داخل المسرحية ، إلا أن تلك الأفكار تحتاج من المؤلف للنقد المكاشفة لأنها هي سبب مشاكلهم  .
 فجهل مجتمع النص هنا في مسرحية (قطب الرجال ) قرية ما في ريف مصر يتحكم فيها الفاسدون من أصحاب المصالح الفاسدة من سرقة ونهب حقوق الفقراء( برهان وشركاه ) من أعيان القرية  وهم في سبيل ذلك يرتكبون كل الجرائم منها القتل فقد تم قتل الشاب (على ) القوي الجرئ وتم قتل ( أب قطب الرجال ) لمجرد أنهم يواجهون ويعارضون ظلم أصحاب المصالح. لكن  (برهان ) ليس وحده بل هو نموذج لكل فاسد متجبر، لذا كان من لمحات الإخراج الذكية أن برهان كان يظهر كل مرة بشخصية تماثله في صفاته مثل : المدير أو رجل الأمن أو سارق كبير وذلك بالاستعانة بمهمات مسرحية بسيطة مثل شماعة معلق عليها ملابس تدل على تلك الشخصيات وهو متخفي خلفها يتحدث ويقرر مصير الأخرين بجبروت وقسوة .
ومن اللمحات الذكية أيضا استمرار نموذج شخصية (برهان ) عبر الزمن ، فقد قتل شخصية علي وأب قطب الرجال، ومستمر يهاجم أم علي الفلاحة البسيطة كلما تذكرت ابنها ونعته باكية ويهاجم أم قطب الرجال ثم ابنها منذ كان طفلا وحتى صار شابا يافعا مستنيرا يدرك مظالم أهل قريته ويسعى لنصرتهم ، فإذا برهان يدبر له مكيدة وبمعاونة سلم السلطة المتجبرة يحبس قطب الرجال بينما هو يستعد للاقتران بحبيبته الجميلة زينب . والفكرة تصل وهي تجبر الفاسدين وكونهم سلسلة ممتدة في الزمان والمكان ، ليس تجبرهم من أجل مطامع مادية أو مغانم مادية فقط لكنهم أيضا يقتلون الفرح والحلم في نفوس الناس وتلك فكرة جميلة  رغم أنها ليست جديدة فقد طرقتها الدراما بكل أنواعها من قبل؛ لذا نحى النص والإخراج منحى مصري وهو الميل للميلودراما أي المبالغة في الحزن والعويل خاصة في أدوار الأمهات: أم علي (الفنانة نادية توفيق ) وكوثرأم قطب ( الفنانة دنيا ) .
  وبنفس المبالغة جاء أداء دور برهان (الفنان يوسف عبيد ) وإن كان برع في التنقل بين الشخصيات الكثيرة التى أداها فقد حمل وحده عبئ تجسيد شخصيات الفاسدين جميعا العمدة ورجل البوليس والقاضي والمدعي العام وغيرها وهذا جهد لا يستطيعه سوى ممثل قدير . تنوع اختيار الكاتب لمجموعة شخصيات القرية منهم (الدهل ) وهو المواطن البسيط الذي يبحث عن مصلحته فقط ،فهو مرة مع برهان وتانية مع قطب وقد أحسن الفنان القدير( مجدي عبيد) الأداء فكان بسمة العرض بأدائه السهل الممتع ، نقيضه  شخصية (أبو رية ) الفلاح الفطري الطيب المتدين الذي يسير حياته بالاعتماد على الله  ولا يتنازل عن نصرة الحق ضد الفساد، لذا يسجن مع قطب الرجال جزاء موقفه.
  الحقيقة كانت علاقة الحب بين الشابين البريئين (قطب الرجال وزينب ) من أجمل مشاهد المسرحية بسبب الأداء التمثيلي المميز للفنان محمد حسن والفنانة سماح شوقي فهما شابان واعدان لمسرحنا ، لديهما الامكانات الصوتية والتمثيلية الأصيلة ، وتعد الممثلة الشابة سماح شوقي اكتشاف لى على الأقل فهذه أول مرة أشاهدها فيها ، أداء يؤكد فهم الشخصية  وصوت معبر وملامح جميلة هي مكسب حقيقي للمسرح .
 أتصور أن المخرج الكبيرعباس أحمد  أجهد نفسه وفنانيه في تفاصيل كثيرة أثناء العرض كان يمكن الاستغناء عنها مثل مشهد خيال الظل ومشهد التحطيب ومقاطع الغناء الكثيرة من ام كلثوم للشيخ إمام لعبد الحليم حافظ ، وكلها أغنيات وطنية ارتبطت بأحداث تاريخية بعيدة عن موضوع المسرحية مثل أغنية عبد الحليم حافظ عن عبور اكتوبر وغيرها من تفاصيل يمكن حذفها بسهولة أو تكثيفها وبذا يقل زمن العرض ويتعمق فهم الحدث الدرامي في حدود أحداثه وهذا أمر أظنه في صالح العرض .
ولاكان على بالي ...
 والحديث عن موريس عدلي هو حديث عن أحدعشاق المسرح منذ دراسته بالجامعة وإلي اليوم  ، فهو رجل مسرح كامل: مصمم ديكور وممثل وكاتب ومخرج ويقدم المسرح في كل وقت وأي مكان ممكن المهم عنده هذا الشغف بلعبة المسرح وجمالياتها التي تصلك كمتفرج بسلاسلة وعذوبة ممتعة من خلال اثارة ضحكك طوال العرض .خلف موريس طريق طويل ممتد من عام 1984 حين قدم مسرحية “ المطر” لسمير الجمل ثم “الرجل الذي أكل الوزة” ثم “يا نساء الفل “ عن نص “برلمان النساء “لارستوفانيس وصولا لعرضه الأحدث “ ولاكان على بالي “ .
 اعتمدت مسرحية “ ولاكان على بالي “ على إعداد نصين شهيرين للكاتب الروسي تشيكوف هما “ الخطوبة – الجلف “ فى فصلين ، حافظ الاعداد الجديد الذي قام به موريس مع باسم موريس وأحمد الشرقاوي على الحدث الدرامي في النصين وعماده الأساسي المفارقة  في علاقات الشخصيات فكل يفهم الأخر خطأ ويتصرف على هذا فاستثمر المعدون هذا للتأكيد على الكوميديا بكل أنواعها ، بدأ من جمل الحوار، مستفيدين من تركيبة الجملة في العامية المصرية والمعنى المتعدد للكلمة والحرف بنجاح كبير ، ثم خلق ملامح ساخرة  للشخصيات تثير الضحك حتى لو لم تتحرك ، مثل شخصية الجد “أبو صلاح “ في مسرحية الخطوبة ،فمع كل لفته وهمسة منه يشتعل الضحك رغم أن مؤدي الشخصية شاب اسمه حسن سينا موهبة كبيرة تتأكد في العروض القادمة للفرقة بلاشك .وكذا تميزت بخفتها وحضورها على المسرح الممثلة الشابة أماني مراد في دور الفتاة القبيحة التى يود والدها تزويجها لأي شخص ولو بدون رغبته فكونت مع زميلها الممثل عبد الرحمن ظاظا ثنائي بديع، هي تريده أن يخطبها وتتمنع وهو لا يريد خطبتها ولكنه يتورط، موقف كوميدي نجحا بالهمسة واللفتة أن يمتعانا ،ثنائي مبشر أتوقع له شهرة واسعة  وكذا تألقت الممثلة الشابة نورهان صالح في دور الأرملة الجميلة في “الجلف “ جميلة رشيقة ذات صوت جميل فكانت مناسبة لدور الأرملة التي يطمع بها الجلف وأداه عبد الرحمن ظاظا أيضا، لمع بينهما في دور الخادم الحشري الممثل محمد ملوك وكان مصدرا كبيرا للضحك بأداء بسيط وخفة ظل بدون افتعال وأكمل الطفل زياد الشرقاوى بحضوره المميز منظومة الضحك  .
الحقيقة لم أفاجئ بالجمهور الذي ملأ مقاعد مسرح الفلكي ودفع جنيهات ليست كبيرة ولكنه تلقى متعة فنية وفكرية لأن جمهور المسرح في مصر موجود بالفعل ولكن من يستطيع الوصول إليه هو رجل مسرح مثل موريس عدلي ، الذي يقدم بذكاء وخبرة مسرحا يمكننا وصفه بأنه مسرح قطاع خاص نظرا لأن فرقة موريس تحمل اسم “ أبيض واسود “ بشعار المسرح الشهير “الضاحك الباكي “ لكنه مسرح خاص لايبحث عن المكسب فقط نافيا القيمة الفنية بل يقدم فنا ممتعا رفيعا ولو ربح قليلا ولو كان الأمر بيدي لنصحت بتصوير هذه المسرحيات وعرضها على شاشة التليفزيون ليشاهدها كل العالم بدلا من المقرارات المكررات على المتفرج في الأعياد والإجازات  .
إن ... عاش ؟ !
في ردهة شقة رائعة تشغل دور أرضي في بناية قديمة أنيقة في حي جاردن سيتي العريق وتحمل اسم (فلك ) وهو مكان خاص يقدم ويستضيف أنشطة ثقافية وفنية ويلقى إقبالا كبيرا من رواد هم شباب مصري جميل  ، قابلتُ عشاقين آخرين للمسرح هما الفنان عماد إسماعيل والفنان محمد فوزي اللذان قدما مسرحية بعنوان (إن ... عاش ) و بعد مشاهدة العرض تفهم دلالة الفعل الشرطي “إن “ وهو أسلوب يتطلب وجود جواب للشرط أي ماذا يحدث بعدما يعيش؟ ومن هو المقصود ؟ ولأن السؤال بلا إجابة فلم تكتمل الجملة ولن تكتمل .. لماذا؟ ذلك أن الحدث في المسرحية يدور على متن سفينة صغيرة تحمل شباب مهاجرين إلى إيطاليا هجرة غير شرعية مثلهم مثل كثيرين نراهم في نشرات الأخبار يوميا من بلادنا وبلاد أفريقية يحلمون بحياة  أفضل في بلاد أوروبا وهو الحلم الذي يطاح به وسط الأمواج العاتية لينتهي غالبا بفقد الحياة ذاتها وليس الحلم فقط .
والحقيقة أن كل جملة حوار وحركة قام بها البطلان عماد وفوزي ، كانت موجعة لمن يسمعها ويشاهد أدائهما الطبيعي لشخصية شابين مهاجرين للمجهول . فالحوار حاد يحمل خلافا في الرأي أكثر مما يحمل اتفاقا ، فهما مختلفين في وجهة المركب أحدهما يحلم بالوصول لفرنسا حيث الشانزليزية وأكل التوست بالزبد والثاني يحلم بإيطاليا حيث الباستا والبيتزا والرقص والغناء, أحدهما يعترف أن هذه الرحلة هي الرابعة له في الهجرة وكل مرة أمسكت به سلطات السواحل من قبل زادته إصرارا على تكرار المحاولة ، ويقول لنفسه أن سيره نحو المجهول خير من أن يعيش في واقع لا يجد فيه سوى نفس المصير المجهول مع انتفاء سبل تحقق الحلم وانعدام وسائل الحياة  .
ويدفعهما الخوف من المجهول وما يلاقيانه من صعوبات الرحلة إلى التشاحن بعنف وهما لا يدريان أن مركبهما تغرق لتذهب أحلامهما مع حياتهما بين الأمواج العاتية. رغم قصر المدة الزمنية للعرض إلا أنه ممتع وموجع ومثير للشجن ، حيث صاغ عماد اسماعيل النص بلغة بسيطة ولكن عميقة وقام بالتمثيل والإخراج وقد وظف المكان فكانت الصالة  محل تواجدهما أي المركب مع بعض الأكسسوار البسيط مثل دلو ماء وطوق نجاة وامتلأت الأرض بمراكب ورقية صغيرة وجلس الجمهور بجانب الحوائط أو داخل الحجرات المطلة على الصالة ، فكأن المكان كله سفينة واحدة تحملنا معهم في رحلة المجهول دون أن ترسوا على شاطئ النجاة .

 


سامية حبيب