تجليات التجريب في مسرحية «من الذي يدق الباب» للسيد حافظ

تجليات التجريب في مسرحية «من الذي يدق الباب» للسيد حافظ

العدد 813 صدر بتاريخ 27مارس2023

يتمرد الكاتب المسرحي السيد حافظ في مسرحيته «من الذي يدق الباب» على الأشكال المسرحية التقليدية فيحاول إيجاد مسرح بديل أو مسرح مضاد لكل التقاليد المتعارف عليها في المسرح الأوربي بثالوث المسرحية «العائد والمنتظر والبديل»، مثلما فعل بيتر بروك حينما أخرج مسرحية «دكتور فاوستس» لمارلو و«خاب سعي العشاق» لشكسيبير. يستعين السيد حافظ بالتجريب كتكنيك يناسب بناءه الدرامي، فيطرح فكرة العائد الذي يجد كل شيء قد تغير، والمنتظر المتمثل في زوجته التي واجهت التغيير. يناقش أيضا مسألة الآخر المتجسد في البديل الذي يظنه ابراهيم عشيق بهية. تعتمد المسرحية كلية على التجريب سواء في الشكل أو الحبكة أو دلالة الأسماء. تثق المسرحية في شخصياتها وقدراتهم في نمو الحدث الدرامي كما ترسم الواقع المتغير وإسقاطه على الماضي وامتزاجه به في لحظات استثنائية. 
يمزج السيد حافظ ما بين الحاضر والماضي في فضاء واحد فتصبح خشبة المسرح وعاء رحبًا يستوعب الزمنين برغم فداحة ما حدث فيهما؛ بهية وابراهيم كونهما يمثلان الحاضر، وابراهيم والمحققان كونهم يمثلون الماضي، وبهية وابراهيم وطاعن البديل الذين يمثلون امتزاج الحاضر بالماضي. تنتظر بهية وتعاني من الانتظار، وتخشى من كل وجه غريب فقد يكون هناك من يراقبها، تخشى من الطرق على الباب لأنها بلا رجل. يختار السيد حافظ ثلاث شخصيات «ابراهيم العائد وبهية المنتظرة وطاعن البديل»، ثلاث شخصيات تجسد الدراما التي يتجلى فيها التجريب. تبدأ المسرحية برسم المنظر المسرحي في منزل بهية حيث توجد به مكتبة كدلالة على الفكر والمعنى الذي يستنبطه السيد حافظ، أثناء قراءة بهية لكتاب تسمع صوت الجرس فتقول من الذي يدق الباب؟ فيظهر ابراهيم الذي تنكره حينما يدخل، لكنه يحاول تذكيرها فيقول: انظري في وجهي المتمرد. يعود ابراهيم الغائب فيجد أن بهية لم تكن تنتظره كما كان يظن، بينما كانت بهية تعانق الوحدة وألم الفراق، تحاول استعادة الماضي لكن الحاضر كان كالحجر يصمد أمام ريح التغييرات التي تتلاحق أمامها. 
«لا يزدهر المسرح، كأي فن من الفنون الإنسانية الأخرى، بغير التجريب الدائم والمغامرة المستمرة مع الجديد. لأن المسرح يستهدف سبر أغوار التجربة الإنسانية المتحولة دوما المتغيرة أبدا» هكذا يستهل الدكتور صبري حافظ كتابة «التجريب والمسرح». بدأ مفهوم التجريب المسرحي في الظهور على خشبات المسارح في العالم مع نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، إذ كان يرى بعض النقاد إمكانية الفصل التام بين مفهوم الحداثة الذي ظهر بمختلف أنواع وأشكال الفنون عن التجريب المسرحي. ينظر بيتر بروك إلى المسرح على أنه فن شامل يعتمد على جميع الفنون والمعارف والتقنيات من أصوات وإضاءة وموسيقى ورسم وتشكيل ورقص وشعر وصورة مرئية وألوان وأزياء ومكياج، ويسمى هذا المسرح بالمسرح الشامل، ويتخذ هذا المسرح عنده طابعًا إنسانيًا يعبر عن حقائق النفس الداخلية.
إبرهيم: (ينظر للكتب) مكتبتي يا بهية.. أقصد مكتبتنا.. الرف الأول للفنون والثاني للتاريخ والفلسفة           والثالث للسياسة (ينظر للرف الثالث) إن به كتبا، لقد تركته خاليا يا بهية.
تعاني الشخصيتان الرئيسيتان في مسرحية «من يدق الباب» ابراهيم وبهية من ارتباكات وأزمات نفسية بسبب أحلام الماضي الثورية التي أجهضت، كما تعاني الشخصيات التي تتحدث عنها بهية والتي استفاد بعضهم من وظيفته فنسى أحلامه التقدمية، بينما تحطمت أحلام البعض فعمل في مكان حقير، تلاشت كل القيم والأفكار اليسارية فلم يعد هناك يسار بمعناه التقدمي وأصبح اليسار الجديد في مهب الريح. أجهضت بهية نفسها حتى لا تلد ابنا لا تجد طعامه له فيقع فريسة للظلم والمعاناة والتشتت في عالم مرتبك. يناقش السيد حافظ المجتمع المتدهور بكل طبقاته وخصوصًا الفقراء الذين لا يجدون خبزا والمدرسين المطحونين والصحفيين. قرر بعض أصدقائهما الهجرة بحثًا عن عالم أفضل، وكل من بقي فكر في الانتحار. 
إبراهيم: (وهو يقترب منها) خمسة عشر عاما، خمسة عشر عاما بعيدا عن هذا المكان، أعيش بعيدا           ألقينا بثمار أفكارنا في أرض الهموم، في أرض التناقض كي تطرح الوضوح وتطرح الأمل وتطرح العطاء.. ألقينا بعمرك من أجل هؤلاء الذين.. 
يستخدم السيد حافظ تقنية الاسترجاع بشكل مهنى إذ يظهر ابراهيم وقد أصبح شابا في سن الشباب مع بهية في الوقت الذي تحاول بهية إقناعه بأنها تنتظره. حينما يدخل طاعن البديل يظنه ابراهيم عشيق بهية وحينما يحاول طاعن إخباره بأنه كان ينتظره معها حبًا في شخصيته يرفضه. عاد ابراهيم من السجن بعد أن قضى فيه خمسة عشر عاما فوجد أفكاره التي كان يمتلكها قد ذهبت أدراج الرياح، فلم تعد تناسب الواقع. يتجلى التجريب في المسرحية في مزج الحوار بين الشخصيات لدرجة التماهى. يؤسس السيد حافظ لشكل مسرحي يناسب تعانق الماضي والحاضر كونهما كيانا واحدا للتكريس لفكرة بقاء الأفكار الثورية والمعاني والقيم النبيلة التي تنتصر للإنسان والإنسانية.
بهية : (تتجه إلي النافذة) كنت أقف هنا طوال الليل أنتظرك.. كنت أراك في كل المارة، في كل الرجال           والنساء والأطفال.. كنت أراك في السحاب.. في الضباب، في اللافتات (تتجه إلى المذياع) كنت أسمع صوتك في المذياع، في كل أغنية أو نشرة أخبار أو حديث، كنت أراك في كل صفحة من هذه الكتب وفي كل سطر كنت أسمع خطوتك في كل قدم يصعد على السلم أو يهبط، أفتح الباب صارخة “إبراهيم هل عدت؟ لكنك لم تأت.
 يقوم السيد حافظ  بالخروج من بوتقة التقليدية فاستعان بشخصيات تحمل في أسماءها معاني تدعم الفكرة، ابراهيم العائد وبهية المنتظرة وطاعن البديل، تمثل بهية الحبيبة والوطن، ويمثل ابراهيم العائد المواطن الذي لابد أن يعود لوطنه ويظن أنه يفتح له أبواب الترحيب، ويمثل طاعن البديل بوصفه المواطن البديل أو المؤنس، إذ تبدو دلالة كلمة طاعن كونه شخص وصل إلى سن الشيخوخة بالنسبة لبهية وكلمة بديل كونه حبيب أو عشيق بهية.   
استطاعت بعض حركات التجريب في المسرح إيجاد مسميات عديدة تناولت النص وعناصر العرض، لكن بقي العامل المشترك فيما بينها هو رغبة أصحابها في تطوير العملية المسرحية بشكل جذري ومختلف تماما عن جميع التقاليد المسرحية. إن فكرة التجريب في المسرح تقوم على تجاوز ما هو مطروح من الأشكال المختلفة المسرحية من حيث الشكل والرؤية، من أجل تقديم صورة حقيقية عما هو موجود بالفعل. فالتجريب بالنسبة إلى ستانسلافسكي يعني أهمية الممثل وإعداده للدور، إذ يمكن الاستغناء عن الحوار تقريبًا وتعويضه بحركات راقصة، وإضافة إمكانيات أخرى مثل السينوغرافيا. يقول الدكتور محمد عناني: إن التجريب ليس له مفهوم محدد، وقد تم ربط الحركات التجريبية في المسرح، برغبة الفنان في التغيير، ومحاولة منه في إعادة مكانة المسرح بين الجماهير.
تعاني بهية في مسرحية “من الذي يدق الباب” من الوحدة التي تكاد تقتلها بسبب الانتظار الذي طال، ولهذا السبب بحثت عن بديل يؤنسها ويقتل معها الفراغ النفسي الذي تشعر به، جاء البديل ليمثل الداعم الاجتماعي والعمود الذي تتكيء عليه بهية، لكن وجود فكرة البديل تقطع الخيط الرفيع الذي كان يربط بهية بابراهيم، لكنه يرفض ذلك برغم محاولات بهية وطاعن إقناعه أنه مجرد جدار تستند عليه بهية كي لا تقع، والتأكيد على أن وجود شخص آخر لا يعني بالضرورة أن يكون عشيقا. يمثل الآخر في المسرحية البعد الاجتماعي والنفسي والذي تتصاعد بسببه الأحداث وصولا إلى الذروة.
بهية : كنت هناك تعيش وأنا هنا أعيش وحيدة.. أتفهم؟ 
صاغ السيد حافظ مسرحيته “من الذي يدق الباب” في مشهد واحد يحمل في رحمه مشاهد قصيرة تمثل الماضي ليقتحم الحاضر ويضربه في عمق، وفي ظل اشتعال الحوار بين بهية وابراهيم يدخل طاعن ليتصاعد الصراع النفسي الذي كانت تبدو ملامحه في ظنون ابراهيم التي لم تتوقف حتى النهاية. جاءت المشاهد الوليدة ليكتمل البناء الدرامي. يستعين حافظ بالتجريب رغبة في التغيير والتعبير عن معان سامية كالحرية والقيم والحب والفكر والثقافة.
قدم بيتر بروك في مسرح “الحلقة”، كما يقول الدكتور صبري حافظ في كتابه “التجريب والمسرح”، تجارب تعتمد على مشاهد غير كاملة من بعض مسرحيات شكسبير بلا ديكور أو ملابس تاريخية ليبرهن أن الممثل يستطيع أن يقدم عرضًا مسرحيًا لا يعتمد على نص كامل بقدر ما يعتمد على فكرة عامة لدى المشاهد عن الموضوع لخلق أحاسيس واستثارات إزاء هذه الفكرة لكي يتفاعل المشاهد معها ويحثه على التفكير من خلال الصور الحسية التي يشاهدها. 
يستثير السيد حافظ في مسرحيته “من الذي يدق الباب” وعي المتلقي ليخلق أحاسيس معينة لديه فيضعه في فضاء النص ليعاني مثلهم ويشعر بما يشعرون به وربما يحاول الدخول في الحوار ليقنع ابراهيم بوجهة نظر بهية ليغير من النهاية. لم يكن ابراهيم جودو الذي لم يأت بل كان جودو الذي أتى، لكن مجيئة كان بمثابة العبث إذ تحطمت كل معاني الانتظار، ويمثل العنوان بوصفه العتبة الأولى للنص العمق الدرامي الذي خلقته الفكرة وارتباطها بالعنوان، كما يمثل دلالة المنتظر والعائد والبديل كونهم الشخصيات الرئيسية التي تحمل على عاتقها نمو الحدث المسرحي.
يقول بيتر بروك في كتابه “النقطة المتحولة” “إن ثمة علاقة غريبة جدا بين ما هو في كلمات النص من ناحية، وبين ما يكمن وراءها من الناحية الأخرى. وأي شخص متخلف العقل يستطيع تلاوة الكلمات المكتوبة، لكن الكشف عما يحدث بين الكلمة والكلمة التالية لها هو أمر يبلغ من الخفاء مبلغ أنك لا تستطيع أن تقطع، على وجه اليقين، بما هو صادر عن الممثل  وما هو صادر عن المؤلف.
يهدف السيد حافظ من مسرحيته التجريبية “من الذي يدق الباب” إلى تكريس مفهوم التجريب في المسرح وإبراز ملامحه ووضع دلالاته، إذ وضع شخصياته في إطار الانتظار لتخرج المسرحية في شكل غير نمطي بشخصيات رسمها باقتدار وكشف الهوة التي صنعتها السنوات والبعد الاجتماعي، كما يهدف إلى تسليط الضوء على قضايا التجريف المجتمعي الذي يقود إلى تحولات انثربولوجية ربما تقضي على الافكار والتقاليد  في المجتمعات العصرية بوصفها أحد المدلولات. تضع مسرحية “من الذي يدق الباب” المسمار الأخير في نعش المجتمع المستكين الذي يرضى بحاله، متمسكًا بإرثه ولا يقبل التغيير في ظل عالم متغير. ينتظر السيد حافظ الآثار الأيديولوجية لدور المتلقي كطرح أسئلة الجمهور مباشرةً، دون تقديم الإجابات، وبالتالي جعلهم يفكرون بأنفسهم؛ أراد أوجوستو بوال أن يتفاعل جمهوره مباشرة مع الحدث. تقود تلك التحولات الدلالية في مسرحية “من الذي يدق الباب” إلى مفهوم التجريب الذي لا يستطيع أن ينخرط فيه سوى كاتب مسرحي يتكيء على مشروع مسرحي كبير.   


ترجمة عبد السلام إبراهيم