التاريخ المجهول لمسارح روض الفرج (6) علي الكسار بين الكازينو والماجستيك

التاريخ المجهول لمسارح روض الفرج (6) علي الكسار بين الكازينو والماجستيك

العدد 797 صدر بتاريخ 5ديسمبر2022

أعلم أنها مفاجأة لك عزيزي القارئ، عندما تعلم أنني سأتحدث عن فرقة «علي الكسار» في روض الفرج، وستظن أنها فرقة أخرى غير فرقة علي الكسار المشهورة، أو أنها بالفعل فرقة علي الكسار وزارت روض الفرج ليلة أو ليلتين أو على الأكثر أقامت موسماً صيفياً فيها!! وللأسف عزيزي القارئ خاب ظنك .. لأنها بالفعل فرقة علي الكسار الشهيرة، ومثلت في الصيف والشتاء داخل مسارح روض الفرج طوال خمس عشر سنة على الأقل، مما يجعلني أعدّها أحد الأعمدة الثلاثة – بعد يوسف عز الدين، وفوزي منيب - التي كتبت تاريخ مسارح روض الفرج!!
أول موسم مثّل فيه الكسار بروض الفرج كان موسم عام 1924. ومن الواضح أن قبوله التمثيل في روض الفرج لم يكن من أجل المال أو الشهرة - حيث إن فرقة الكسار في هذه الفترة كانت من أشهر الفرق المسرحية الكوميدية بجانب فرقة الريحاني وغيرهما – بل من أجل رفع مستوى الفن المسرحي وجذب طبقات اجتماعية راقية لدفع مسارح روض الفرج إلى الأمام، ومساعدتها على التخلص من سمعتها السيئة!! وكفى بنا أن نقرأ رأي أحد النقاد المنشور في جريدة «الوطنية» في منتصف يوليو 1924 – أي قبل ظهور الكسار بأسبوع واحد – لنعرف ماذا كان يحدث في روض الفرج قبل ظهور فرقة الكسار!!
قال الكاتب: «في روض الفرج كتب الكثيرون في مضار تلك المخازي المستباحة في روض الفرج، وما تجنيه على الآداب والأخلاق والعائلات، وكأن هذه الحملات لم تكن إلا لتزيد الناس تغاضياً واستخفافاً بالأمر، وكأن هذه البقعة أصبحت جزءاً مستقلاً لا دخل لهم في شؤونها أو أنها أنشئت لتكون معرضاً «لـ ...» حيث جعلت بمعزل عن الأهالي وسكان العاصمة. ولكنهم لو أعاروا تلك البؤرة القذرة بعض الاهتمام ونظروا إلى ما يجري فيها من انتهاك الحرمات واستباحة المنكرات لأدركوا أن الأمر أعظم من أن يستهان به، وأنهم بتغاضيهم عن حوادث تلك الأماكن الموبوءة مسئولون عن كل فضيلة تقبر وكل عرض يدنس وكل قطرة من دم الشرف تراق على مذابح الفجور وتحت ثياب التمثيل. وقد حدثنا بعض الفضلاء أنهم وقد هالهم ما كُتب ذهبوا لاستطلاع بواطن هذه المحال، فرأوا هناك ما يعد السكوت إزاءه جريمة لا تغتفر. أسوق هذا القول إلى من بيدهم الأمر ومن تهمهم المحافظة على شرف العائلات، علهم يضعون حداً لهذه المنكرات. فإن الأمر لا يكلفهم غير أن يبعثوا برجل فاضل ليتنزه عن الغرض ويجري في عروقه دم الشرف والفضيلة ليرى ويسمع ما تنزه القلم عن ذكره، ويجعلنا نوجه اللوم إلى كل لاهٍ! ولا نخشى أن نقول له: إذا كنت لا تدري فالمصيبة أعظم! إن هذه المحال لم تكن غير مواخير علنية، وقد أقيمت فيها من الأدغال ومن أغصان الأشجار المتكاتفة الأوراق ما يجعلنا نرى في جانبه أماكن شارع عماد الدين معاهد علمية!! ولو كان الأمر قاصراً على فئة من حلفاء اللهو والخلاعة لهان المصاب، ولكن البلاء كل البلاء في أن بعض العقيلات الشريفة تَهْوَّين إلى تلك المقاذر غير عالمات بما يقذفن بأنفسهن إليه، أو هن مقودات برغائب أزواج مستهترين لا يعرفون للشرف ولا للعرض قيمة. وكأنهم قد نسوا أو تناسوا أن هذه الأماكن قد أنشأها جماعة من صعاليك الأروام لتكون آلة لابتزاز المال أو حبائل لاصطياد الأغرار، وجل غرضهم أن يسدوا ذلك الفراغ الذي أحدثه إقفال محال الرقص في نواحي الأزبكية. ولكنهم موهوا على البسطاء بأن طالوا عملهم هذا بصيغة التمثيل وما هو من الفن في شيء. الق نظرك على ما يمثل هناك من الروايات تجد جماعة من صبية الأزقة ممن ضاقت في وجوههم سبل العيش من أحط وجوهه، فألفوا جماعات تمثل صورة مشوهة من روايات ساقطة مجتها الأسماع ولفظتها مسارح عماد الدين، بعد أن دسوا فيها بعض الكلمات القذرة المستهجنة من هجر القول، وبعض جمل في السياسة السخيفة لا تتفق مع مصلحة البلد، وليس لهم من الرقابة وازع. فإذا كانوا يحسبون هذه الأماكن شبه مراقص أو أندية خلاعة فلماذا يسمحون لهم بالتمثيل. وإذا كانوا يعدونها مراسح تمثيل فلماذا لا يراقبون هذه الروايات، ويجرون عليها قوانين الرقابة؟! ولماذا لا يمنعون منها الخلاعة وأفظع صنوف الرذيلة على أسمج وأحط وأقذر صورة. هذا ما نسائل عنه رجال الحكومة، ولا نقنع منهم بجواب غير العمل على تطهير تلك الجهة من الفساد حتى تكون متنزهاً لأشرف العائلات، وإلا إذا شق عليهم ذلك فلا أقل من أن يضعوا لوحة كبيرة بالقلم العريض مكتوباً عليها «ممنوع مرور الأحرار». وإذ لم يفعلوا فما أجدرهم بأن يطاردوا الباغيات هناك، وبالجملة كل امرأة تندس بينهن ولا تتقي الله في الشرف والعرض، وإلا فلتسمح لنا تلك السيدات اللواتي يدنسن شرفهن بارتياد هذه الأماكن أن نعدها هي ومن تحترف المخازي من طبقة العاملات والمجاهدات في ميدان الرذيلة سواء بسواء».
هذه هي صورة مسارح روض الفرج قبل أيام من بداية ظهور الكسار في منتصف أغسطس 1924 بكازينو مونت كارلو!! ومن يبحث في تاريخ الكسار المسرحي – في هذه الفترة - سيجد تناقضاً في التاريخ، لأن الكسار في هذا الوقت كان يُمثل في مسرح «الماجستيك» بشارع عماد الدين! فكيف يمثل في اليوم نفسه في روض الفرج بكازينو مونت كارلو؟! الإجابة على هذا السؤال منشورة في معظم إعلانات فرقة الكسار، والتي جاءت استجابة للجماهير – ربما رغبة منها في تطهير مسارح روض الفرج من التمثيل الفاسد – أو لرغبتها في مشاهدة تمثيل الكسار، لذلك قرر الكسار أن يمثل نهاراً في روض الفرج، ومساء في شارع عماد الدين!! لذلك كانت كل إعلانات الكسار تؤكد أن التمثيل جاء بناء على رغبة الجماهير!! وهذه نماذج من العبارات المنشورة في إعلانات صحف الأهرام والنظام ومصر: «جوق أمين صدقي وعلي الكسار في كازينو مونت كارلو بروض الفرج بناء على طلب الكـثير قررت إدارة التـياترو إحـياء حفـلات نهـارية»، «كازينو مونت كارلو بروض الفرج إجابة لرغبات الجمهور يحيي جوق أمين أفندي صدقي وعلي أفندي الكسار حفلات نهارية كبرى». ومن أهم العروض التي عرضها الكسار في كازينو مونت كارلو بروض الفرج عام 1924: البربري في الجيش، أمبراطور زفتى، أحسن شيء، هو أنت، إديني عقلك، التلغراف، شهر العسل، اللي فيهم، كان زمان، دولة الحظ.
وظل الكسار يعمل بهذا الأسلوب حتى صيف 1932، عندما مثّل عروضه في مسرح «حديقة الفانتازيو» بالجيزة، فانتقده ناقد جريدة «أبو الهول» فعاد الكسار إلى روض الفرج مرة أخرى، فكتب الناقد كلمة، قال فيها تحت عنوان «فرقة الأستاذ علي الكسار بكازينو سان أستفانو بروض الفرج»: «كان لكلمتنا التي نشرناها عن فرقة الكسار وعملها بالفانتازيو أثر كبير، وشعر الأستاذ علي الكسار بمضاعفة الخسائر إذا هو استمر في عمله هناك كما توقعنا فبدأ بالمفاوضة مع صاحب الكازينو، ولكن هذه المفاوضة انتهت بإيقاف العمل بالفانتازيو من يوم السبت الماضي. وبسرعة تم بين الأستاذ الكسار وبين الخواجة خريستو صاحب كازينو سان أستفانو بروض الفرج فبدأت الفرقة عملها من يوم الأحد الماضي بعد أن انضم إليها موزيكهول رقص وغناء من: تمّام ودلال والبرابرة الثلاثة، وعبد الحليم محمود وأولاده النوابغ، وجوقة راقصات. على أن مدة عمل الأستاذ الكسار بكازينو سان أستيفانو هي 20 يوماً، تنتهي يوم 7 يوليو. ثم تقوم الفرقة من يوم 8 يوليو برحلة إلى وجه بحري بين المنصورة وبور سعيد وشبين الكوم ودمنهور ثم تسافر إلى الإسكندرية وتبدأ عملها على مسرح كازينو حمام كامب شيزار من يوم 14 يوليو». وبعض الصحف أعلنت أن بطلة الفرقة هي «عقيلة راتب»، ومطربها هو «حامد مرسي».
الكواكب والكسار
وجدت مقالة منشورة في مجلة «الكواكب» تكشف لنا أن فرقة الكسار في روض الفرح كانت مختلفة عن بقية الفرق، وكان لها تقدير فني ونقدي أرقى بكثير من عروض كازينوهات روض الفرج المعروفة!! بل وأكدت هذه المقالة أن وجود فرقة علي الكسار بشهرتها وقيمتها وتاريخها كان له الأثر الأكبر لانتباه جمهور القاهرة إلى الفنون المختلفة التي تُقدم في روض الفرج! ولا أبالغ إن قلت إن الكسار كتب تاريخاً لروض الفرج لم ينتبه إليه أي مؤرخ مسرحي أو فني من قبل، بسبب شهرة الكسار في الماجستيك وفي شارع عماد الدين!! أما أهم قيمة لهذه المقالة من وجهة نظري أنها حلّت اللغز الذي حيرني!! وهو كيف كان الجمهور يقبل على عروض الكسار في روض الفرج «ماتنيه»، ويُقبل عليه أيضاً في عروض الماجستيك «سواريه» رغم أن العرض واحد في المكانين وفي اليوم نفسه!! هذا اللغز وجدت حله في هذه المقالة، التي كشفت عن أمور كثيرة!!
والمقالة منشورة في أواخر يوليو 1932، تحت عنوان «جولة في المصيف المتواضع روض الفرج»، وجاء فيها الآتي: روض الفرج هو مصيف متواضع دون شك إذ يتسنى لمتوسطي الحال من القاهريين أن يتوافدوا إليه، ليروحوا عن أنفسهم أثر العمل المضني الذي يزاولونه طيلة يومهم، دون أن يجدوا متسعاً في أوقاتهم أو أموالهم للاستعانة به على مغادرة العاصمة إلى الثغور والمصايف الداخلية. وهو وأن أعوزه الإصلاح الجم إلا أنه مجال لنزهة متواضعة لتبديل الهواء واستنشاق نسيم النيل العليل مع شيء من التسلية يجدها الإنسان في أماكن اللهو – ولا نقول التمثيل – التي انتشرت في تلك الجهة. ظل روض الفرج ردحاً من الزمن في طي النسيان حتى ظهرت على أحد مسارحه «فرقة الكسار» منذ سنوات ومن ثم بدأ الجمهور يشعر بوجوده ويفد على محاله من أنحاء القاهرة المختلفة، حتى أشتد ساعده وضمن عماله قوتهم في أيام الصيف بأجمعه. وإذا كانت مسارح عماد الدين أوجدت ما يسمى بالموسم التمثيلي والعطلة الصيفية وجعلت للأول أشهر الشتاء وللثانية مدة الصيف، فإن آل روض الفرج قد اعترفوا هم أيضاً بهذا المبدأ وإن عكسوا وجهة النظر هذه بجعل بطالتهم في الشتاء وسعيهم في الصيف فهم – كالنمل – يدخرون خيرات هذا للقوت شتاء. وأهم ما يلفت النظر في ذلك المصيف المتواضع. إطلاق أسماء ضخمة على مسارحه. فأنت إذ يقف بك الترام في نهاية الخط. تخترق طريقاً يحوي طائفة من بائعي الفلافل الوطنية – أو البفتيك الأهلي [الطعمية] – وجمهرة من تجار الفول السوداني المحمص والذرة المقلية العال! فإن امتلأت معاطسك بهذه الروائح وكنت جائعاً واستطعت الخلاص دون التعريج، فإنك واجد أمامك «كازينو سان أستفانو»! وبعده «كازينو ليلاس»! ثم حديقة «أفكاروس»! وصدقني إنني إلى هذه الساعة لا أعرف عن هذا الاسم شيئاً، ولا أدري إذا كان علماً لبلد أو لقارة أو لإنسان أو حيوان. ما علينا .. إلى أن ينتهي بك المطاف إلى «مونت كارلو»! تلك هي الأسماء الضخمة الفخمة التي يضمها المصيف المتواضع البسيط الصغير، روض الفرج. وقد احتل المكان الأول في هذا العالم الأستاذ علي الكسار إلا أن مدته لم تطل هناك! إذ كان مرتبطاً مع أحد أصحاب ملاهي الثغر الإسكندري بعقد يحتم عليه التمثيل هناك شهراً ونصف شهر بدأت في منتصف يوليو الحالي. وقد ظل الكسار مدة وجوده بروض الفرج مطمح أنظار الجمهور الذي كان ينهال كالسيل على «سان أستفانو» في الوقت الذي كنت تجد فيه بقية الأمكنة أفرغ من فؤاد أم موسى. والظريف في الموضوع أن من شاهد إحدى روايات الكسار في الماجستيك وذهب لمشاهدتها مرة ثانية في روض الفرج كان يجد شيئاً يخالف تماماً ما رآه أولا! ذلك لأن بديهة الكسار الحاضرة وذهنيته الخصبة كانت تجد مجالاً للتنويع ومناسبات للتغيير، فقد حدث في الليلة التي زرنا فيها الفرقة بذلك المصيف أن انضم جفنا الممثلة لطفية نظمي على «ناموسة» استطاب لها المقام داخل العين، بحيث ارتج على الممثلة وأحرج مركزها تماماً .. فاتخذ الكسار من هذه الحادثة مادة لنكاته التي استمرت في جميع فصول الرواية. على أنه من المضحك أيضاً أن تعرف أن هذه «الناموسة» لم تترك مقرها من عين الممثلة إلا بعد أن أجرى الكسار بنفسه – وعلى المسرح – عملية غير جراحية طبعاً لهذه الممثلة!! استأصل بها تلك «الناموسة» الملعونة. هذا وفرقة الكسار هي الوحيدة التي تعتمد على رواياتها إذ أن لديها محصولاً وافراً من الروايات قد يزيد على المائتين، أما غيرها فيلجأ إلى اقتناص روايات بقية الفرق مع تغيير في الاسم وحده! فليس هناك ما يمنع من تمثيل رواية في فرقة وتمثيل نفس هذه الرواية بالفرقة الأخرى في الليلة التالية.


سيد علي إسماعيل